إن رسالة الإسلام في إفريقيا وفي غيرها هي رسالة الهدي الحق والوعي الصحيح فليس فيها إذن ما يثير عليها سخائم الآخرين بل إنها تنهض-في الواقع- على قواعد إنسانية مثالية ليس لها إلا أن تجتذبهم إلى الاغتباط بتقدمها ومباركة خطواتها في سبيل الخير والحق والسلام.
قصة الإسلام في إفريقيا هي نفس قصة هذا الدين القيم في غيرها من بقاع هذا الكوكب الأرضي وأرجائه، لقد كان اتصالها به -في بداية الأمر- كما كان الشأن في آسيا- عن طريق الدعوة المباشرة التي لم تكن تزيغ عن روح الهداية الحنيفة إلا في بعض المواطن والظروف المعينة، وكان الدور الثاني-كما كان دائما- هو دور التركز والرسوخ والاستقرار حيث بدأت الدعوة -شأنها في القارة الأسيوية- تأخذ سبيلها إلى النفوس عن طريق الوسائل غير المباشرة التي كان من أهمها :
1) قوة الدعوة الذاتية وملاءمتها للفطرة الإنسانية
2) استجابتها لضرورات واقع العناصر الجنسية المختلفة.
3) النشاط التبشيري غير الرسمي.
وقد كان لهذه العوامل-في مجموعها– إن أعانت على تهيئ فرص حيوية للإسلام أمكنه معها أن يجد طريقه إلى الانتشار في عديد من أصقاع القارة السوداء بعد أن كان تأثيره لا يكاد يعدو نطاق الشريط الجغرافي الممتد من شواطئ بحر القلزم شرقا إلى مضيق طارق غربا ذلك الشريط الذي لم يكن يتسع جنوبا إلا بقدر ما يلامس حدود ما وراء الصحراء الكبرى بقليل.
وتوجد القارة في الوقت الراهن في مختلف مناطقها وخاصة الشمالية والغربية والشرقية آهلة بإعداد هائلة من الذين يدينون بالكتاب المبين -مع الأعضاء طبعا عن طبيعة الشكل والاتجاه الذي تتخذه العقائدية الدينية في نفوسهم- وإذا ما استثنينا القسم الشمالي من القارة بطرفيه الشرقي والغربي حيث أمكن إقصاء النفوذ الغربي الجاثم تقريبا فإننا نلحظ أن الجماعات الإسلامية المتعددة التي لم يفتأ الفرنسي يعمها بنسب متفاوتة لا نزال ذات أهمية بالغة فهي في السنغال تمثل نحو 79 في المائة من مجموع السكان بينما تصل في«النيجير» إلى 72 في المائة وفي«التشاد» إلى 61 في المائة وفي«السودان» إلى 55 في المائة وفي«ساحل العاج» إلى 20 في المائة وفي«الداهومي» إلى 17 في المائة وفي«الكامرون» إلى 19 في المائة ثم تنحدر لتصل نسبتها إلى 5 في المائة بالنسبة لـ «الطوغو» وفي 3 المائة بالنسبة لـ «أوبانكي» و5 في المائة بالنسبة «للكابون» و«الكونغو» فالمسلمون إذن في مجموع مناطق النفوذ الفرنسي وذلك قبل تحرر«غينيا» يفوقون الثلاثة عشر مليونا عدا، فهم بهذا الاعتبار يناهزون الخمسين في المائة من مجموع السكان الذين يبلغ تعدادهم نحو الخمسة والعشرين مليونا.
أما المناطق النفوذ البريطاني على الشواطئ الإفريقية الشرقية والجنوبية الغربية فتتركز فيها تكتلات إسلامية هامة تضم -إلى جانب الجاليات العربية والهندية وغيرها (1)- عناصر أهلية عديدة من بين السكان الإفريقيين السود، ( وتوجد أهم هذه المناطق -باعتبار الناحية الديموغرافية الإسلامية- وهي نيجريا- على عتبة التحرر السياسي في أواخر سنة 1960) وعلى الرغم من أن تعداد المسلمين في إفريقيا قد يرقى بهم إلى عدد كبير من الملايين فإن هذه الضخامة العددية المرموقة ليست في جوهر الأمر العالم الفريد في اكتساء الإسلام كل هذه الأهمية التي تنعم بها في القارة أن هناك من العوامل الأخرى ما كان من شأنه أن يثير انتباه الملاحظين بل ويستفز مشاعر البعض منهم!!
بالنسبة لمستقبل العقيدة الإسلامية في الأرض الإفريقية وبين التكتلات الجنسية السوداء على الأخص، وينصب الاهتمام بصورة مركزة على مدى ما تحدثه القيم العقائدية الإسلامية من تأثير على بعض جوانب العقلية الإفريقية مع ما يمكن أن يكون بهذا التأثير من إمكانيات تعديلية جوهرية في التفكير الاجتماعي والإنساني عند وحدات المجتمع الإفريقي الموغل بعضها في البدائية المطلقة؛ فالإسلام بما يحمله من عناصر إصلاحية جوهرية وبما يتركز حول مفاهيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من إمكانيات انقلابية جذرية ليس من شانه -في الواقع- إلا أن ينسف كثيرا من عناصر المركب العقائدي الإفريقي تلك العناصر التي تتحكم في توجيه التفكير العام لكثير من الكتل السوداء بهد أن أسهمت- ماضيا – في إعدادها لأن تكون مجال تحقيق الأهداف التوسعية الغربية.
إن من نافلة القول التأكيد على مدى التقدم الذي أحرزته الجماهير الإفريقية في بدء انطلاقتها الحالية الكبرى نحو التحرر السياسي والنهوض القومي ولكن هذه الانطلاقة لا يمكن -مع ذلك- أن تستنفذ -في الواقع- أغراضها وستتم مسوغتها إلا إذا كانت أيضا أساس للتخلص من رواسب الذهنية المتخلفة في مجال التصور الديني، إذ أن لذلك كل موجبات الارتباط بالتحرر العقلي الأكبر الذي هو القاعدة الأساسية في بناء الكيانات السليمة القوية المتقدمة.
إن الأوضاع الدينية الحالية في كثير من المجتمعات الإفريقية ليس من شأنها-في الواقع– أن تعين على توفير أسباب هذا الانطلاق العقلي المنشود بل إنها – في بعض الجوانب- قد تحد من آفاقه وتقف به عند نقطة الابتداء وذلك بالطبع نتيجة حتمية لما يسود التفكير الوثني الإفريقي من روح الطقوسية الدينية البدائية التي تتناقض أحيانا ومستلزمات التطور الفكري والتي لا تزال ذات فاعلية حية وتأثير عميق في حياة الكثير من المناطق الإفريقية المختلفة.
وتبتدئ بعض مظاهر هذه الروح فيما يلي:
1) التفكير الغيبي السحري 2) الروح الخرافية- الأسطورية التي تتدخل في شرح كثير من ظواهر الحياة وتحدد سلوك الأفراد فيها( وقد كان من آخر مظاهر ذلك عقيدة «التيبامبيل» Thypambule المتعلقة بطرد الأرواح الشريرة والتي انتشرت في «أنكولا» آتية من الكونغو البلجيكي). إن الإسلام كعقيدة وكمنهاج ليس له -في حالة توفر العوامل المساعدة- إلا أن يؤثر في تعديل هذه الحالات العقلية والاجتماعية التي تتضافر على إبقاء الكثير من الجماعات الإفريقية في وضع ينأى بها من الإسهام في التقدم الفكري الإنساني العام.
وهذا ما يمكن أن يفسر هذه التخوفات التي تنضج بها كتابات الغربيين عن الإسلام بالنسبة لمستقبله في إفريقيا السوداء حيث يخشى أن يتخذ طريقه القومية على التغلغل في أعماق النفسية الإفريقية فيساعدها على التحرر من عقد النقص والخوف وقابلية الاضطهاد والاستغلال؛ وتبدو هذه المشاعر الارتيابية عند ذوي الآراء التوسعية منهم بصورة أكثر حدة وعمقا، فقد كان لهذه الأهمية القصوى التي يكتسبها الإسلام في انتشاره بالقارة ما كان من شأنه أن يحذرهم إلى مضادته بكل الوسائل غير المباشرة بما فيها تشجيع الاستمساك بمظاهر الطقوسية الوثنية العتيقة!! على أن هذه الروح الطقوسية في المفهوم الديني لا تختص بالجماعات الفتيشية وما في نوعها، إنها تتخذ إشكالا مظهرية أخرى لا تقل أهمية –مع الاختلاف في الجوهر- في المناطق الإسلامية الأصلية ذاتها، فالدين الإسلامي الذي ينعم-في إفريقيا الغربية العضو في الجامعة الفرنسية- بنفوذ معنوي ضخم- يتشح في كثير من الأحيان بأردية ميثلوجية تحيل كثيرا من جوانبه الهادية المشرقة إلى عوامل تقهقر اجتماعي وانتكاس فكري مثير فالفكرة الإسلامية عند الجماهير السوداء في المنطقة لا ترتبط-عند الكثيرين- ارتباطا متينا بالمفاهيم الإسلامية الكبرى بما فيها من عناصر تقدمية تطورية بقدر ارتباطها بالولاء لبعض مظاهر التحزبية(sectarisme) الدينية التي تستمد أساساتها الأولى من تهاويل الغيبيات المطلقة وتستنزف مادتها الرئيسية من مجموع المدركات التي تتشكل منها قاعدة التفكير الطقوسي الديني في أكثر مظاهره جمودا ورجعية، وآية ذلك ما يمكن أن يتحسسه الملاحظ من غرابة في المفهوم الديني عند كثير ممن يمكن الاتصال بهم من مسلمي المنطقة الذين لا يقل–مع ذلك- استمساكهم بالعقيدة عن غيرهم من المسلمين، وبرهان ذلك أيضا ما يمكن استنتاجه من توفر مظاهر الركود الفكري الديني نتيجة لانعدام ينابيع الحركات الانقلابية الإصلاحية من جهة وعدم وجود استعداد للتأثر بمثل هذه الحركات القائمة في البلاد الإسلامية الأخرى، يؤول ذلك على ما أرجح إلى علتين أساسيتين :
1) طبيعة الحقائق التاريخية التي ترتبط باتصالات الإسلام الأولى بالمنطقة وعقلية الدعاة الأولين الذين كانوا وسيلة اتصال السكان بالدعوة.
2) النشاط المضاد الذي يقوم به المسؤولون عن الوجود التوسعي في القارة، وعلى الرغم من أن العامل التاريخي الأول كان له في هذا المجال تأثير بعيد فإن العامل الثاني الحالي يمكن أن يعتبر بالنظر لبعض الحالات أشد وطأة وأقوى مفعولا.
وليس مفهوم النشاط المضاد هنا ما يرادف معاني الاضطهاد والتنكيل، بل أن الإسلام-على النقيض من ذلك- ينعم في أرجاء كثيرة من القارة بما فيها الجانب الغربي بعطف سطحي ومظهري كبير من جانب المسؤولين المسيحيين!! بل أن البعض شعائره -كالحج مثلا- كانت تلاقي من عناية أولئك المسؤولين وحد بهم ما يستشير الاستغراب! ولكن الحركة الإسلامية بالرغم عن ذلك لا تكاد تحدث في هذه المناطق أي تأثير هام على المجتمع الإفريقي في مستوياته الفكرية والاجتماعية والنزوعية وغيرها، وإذ كانت ظاهرة التخلف الإسلامي هذه تتجلى ارتساماتها في كثير من المجتمعات الإسلامية الأخرى في آسيا وغيرها(الفلبين وسيلان مثلا) فإنها بالنسبة للمجتمعات الإفريقية تبدو وهي أشد إلحاحا وأكثر وضوحا وبروزا ويؤول ذلك -في بعض النواحي كما سلف أن ألمحنا إليه- إلى نوع الأساليب الخاصة التي تمرس بها التوسعيون ودأبوا على انتهاج تطبيقها في المناطق الواقعة تحت أنظارهم، ومن بين تلك الأساليب التي تندرج في مفهوم« النشاط المضاد»:
1) استمالة بعض القيادات الإسلامية المحلية واصطناعها 2) تشجيع التشبث بالحزبية الدينية بما لها من انبثاقها طائفية- انطوائية. 3) الحؤول-بصورة أو بأخرى- دون توفر الفرص التي يمكن فيها تلقيح المجتمعات الإسلامية المحلية ببوادر التطورات الإصلاحية الدينية في الخارج.
وهكذا أمكن للإدارة التوسعية في عهد الاحتلال المباشر أن تطمئن-في مناطق نفوذها -كاتحاد غربي إفريقيا مثلا- إلى وجود«إسلام إفريقي» تسوده روح الغيبة والتواكلية والانهزامية تلك التي يباركها« القديسون» من صنف أحد« علماء» الديار السودانية- له الهداية والرشاد(2) .
على أن الإسلام-من جهة أخرى -يلاقي- باعتبار صبغته الدينية ومع الإغضاء عن تأثيره الفكري والاجتماعي-يلاقي بين أحراش إفريقيا وتحت شمسها اللافحة كثيرا من سبل الذيوع والانتشار بشكل مطرد ومتواصل ويدهش المراقبين الأجانب ما يبدو منه من أنه ينتشر في بعض الأحايين بصورة تلقائية بين مجتمعات لا تكون تعرف- قبل اتصالها به- عن العقائديات الدينية إلا ما يتصل ببعض الطقوس الوثنية المحلية، ولو أن الدعوة إلى الإسلام كانت تقوم على أساس من التنظيم الشامل والإقناع العقلي الفعال لكان لنا من ذلك سبيل إلى القول بأن روحه التحريرية للفرد والجماعة قد يكون لها-بالنسبة لوضع السود الشائن- دخل كبير في شدة الإقبال على اعتناقه بين المجتمعات الإفريقية ولكن ما نلحظه من تلقائية انتشاره وتغلغله لا يمكن أن يفسر إلا على أساس البساطة التي تنطبع بها تعاليمه مما ينسجم وطبيعة الفطرة الإنسانية المتجردة عن تعقيدات الحياة المتحضرة كما هو الشأن مثلا بالنسبة لقبائل« الألوف» و«الاشانتي » و«البامبارا» وغيرها من وحدات المجتمع القبلي الإفريقي، ولكن هذه الانتشارية التلقائية التي يحظى بها الإسلام في قلب القارة ليست مما يخلو من المحاذير والاسواء فهي- كما سلف أن لحظنا- من أساسات هذا الضعف في فعالية الطاقة الهادية الموجهة للإسلام في المجتمعات الإفريقية، والعلة هي في انعدام وجود القاعدة التنظيمية التي تنهض عليها العمل التبشيري في ربوع القارة، والأمر بالنسبة للمسيحية يختلف اختلافا جوهريا، ولو أن الدعوة العيسوية كانت مما يشكل المميزات والخصائص التي ينعم بها الإسلام لكان الوضع الديني فيما وراء الصحراء الكبرى-في بعض المواطن- الوضع الذي يسود الحبشة مثلا؛ وذلك أن حركة التبشير بالنصرانية بين الجماهير السوداء تكاد تكون-باعتبار الإمكانيات التنظيمية التي تحظى بها-جهازا فريدا لتحقيق أهداف من الغزو السيكولوجي والوجداني الشامل، وأن دراسة تفصيلية للمعطيات النظرية والتطبيقات العملية التي تنهض عليها بناء هذا الجهاز لتعطي المراقب السطحي فكرة واضحة عن مدى ما ينتظر من وراء هذه الإرساليات من انعكاسات انقلابية في الأسس الروحية التي قوم عليها بناء المجتمعات الملونة في القارة وليس من اليسير جدا تعليل هذا الكلف بالتبشير الذي يبدو على بعض الإرساليات الدينية التي يعتزي بعضها لدول لايكبة صرفة، كما أنه ليس من السهل جدا تعليل هذه الإمكانيات المادية الواسعة التي تتوفر عليها هذه الإرساليات لو أن الأمر كان ينحد ضمن النطاق الديني الروحي البحث ولا يتجاوزه إلى غيره، لكن الأمر على اتساع النطاق من ذلك بقدر كبير إذ أنه يعدو الهدف الديني الصرف ليشمل الغايات السياسية والتوسعية بعيدة المدى، فقد غدا من الأساسي بالنسبة للحركة الإكتساحية الغربية أن تعتمد في بقاء وجودها على أساليب الغزو المعنوي بعد أن أصبحت الأسلحة المادية في تحقيق هذا الهدف غير ذات غناء، ويتخذ هذا النوع من الغزو صورا وإشكالا متنوعة تتصل بالحضارة واللغة والتفكير، وقد بدا أيضا أن لها كذلك ارتباطا بالدين كعامل هام في ضمان الوجود والاستمرار للأوضاع التوسعية بما لها من أوجه مختلفة ومتعددة، وقد كانت الحركات التبشيرية-في الواقع -منذ أزمان متباعدة- غايات سياسية مقنعة إلى جانب الأهداف العقائدية الدينية ولكن تحليل المظاهر الأخيرة لأصداء النشاط التبشيري في كتابات بعض الغربيين على الأقل يمكن أن تدلنا على أن الجانب السياسي من حركات«الغزو الديني الغربي» أضحى أكثر بروزا ووضوحا، ويتجلى ذلك -مكشوفا- في طبيعة رد الفعل الذي يبدو على هؤلاء الكتاب من الجهود المتواضعة التي قد تبذلها بعض الحكومات العربية في سبيل نشر الثقافة الإسلامية في داخل القارة، فإذا كان وجود الطلبة الإفريقيين في الأزهر يشكل «خطرا مدلهما» على النفوذ المعنوي للغرب-كما يردد بعض المؤرخين الغربيين المعاصرين- فإن اعتزام حكومة «غانا» إنشاء جامعة عربية في «عكرا» بالإضافة إلى سلسلة من المدارس العربية الأخرى قد اعتبر أنه من أكبر الضربات التي يمكن أن توجه للنفوذ المعنوي الغربي، ويقول كاتب فرنسي في هذا الصدد: «إن الملاحظين الحذرين من الإسلام لم يألوا جهدا في إيقاظ الأفكار حول هذه التيارات السياسية التي تنطلق من منطقة الشرق الأدنى والتي تزحف تدريجيا باسم التضامن الإسلامي، وان المطالب الوطنية المغربية… تلك التي أمكنها أن تنال تأييدا حماسيا من الشباب المغربي والتي تتصل بمد حدود المغرب إلى«سان لوي» بالسنغال هي مما يندرج ضمن هذا التيار…»
وهكذا نرى أن الانتشارية الإسلامية تتخذ عند هؤلاء الغربيين مدلولات سياسية بعيدة المدى إلى حد اعتبارها أساس لتفسير الحركات المطالبة الوطنية كما هو الشأن بالنسبة للصحراء المغربية مثلا.
وبقدر ما تتبلور هذه المخاوف «الإسلامية» في أذهان هؤلاء المفكرين الغربيين بقدر ما يشتد حرص المسؤولين عن حركات التبشير المسيحي على التذرع بمختلف الوسائل الممكنة لتعديل الوضع الناجم عن الانتشارية الواسعة التي ينعم بها الإسلام في ربوع القارة، وقد بدا أخيرا-في هذا الصدد- أنه من الملائم-بالنسبة لمستقبل العيسوية بإفريقيا- أن يتخذ المسؤولون عن حركات التبشير المسيحي موافق وعلى هذا فقد عنيت روما باستثمار كل الفرص الملائمة لتعويض الأساقفة البيض بآخرين من ذوي البشرة الدكناء، وذلك كخطوة ايجابية عملية في سبيل أفرقة المسيحية السوداء ليتوفر لها بذلك اكبر قسط من فرص الذيوع والانتشار، بل إنه يبدو أن هناك ارتسامات اتجاه مسيحي يستهدف-في المحط الأول- اتخاذ حالات انسلاخ مظهري من الغرب-الحاكم المتعسف حتى يكون في المستطاع تحقيق نوع من التوفيق بين المسيحية من جانب وبين الأماني التحررية الإفريقية من جانب آخر، ويبدو أن هناك كثيرا من المماذقة والمداورة في هذا الرداء «الوطني» الذي أصبحت تتشح به-في بعض النواحي- السياسة التبشيرية المسيحية، وإلا فبماذا يمكن توسيخ موقف الكنيسة والكنائسيين من مأساة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا؟ و بماذا يجوز شرح سلبية الموقف الكنسي من أساليب التنكيل المنصب لهيبها على هامات الجماهير الإفريقية في «كينيا» و«الكونغو» وغيرهما، لقد سلف للكنيسة الكاثوليكية أن اتخذت مواقف متميزة وحاسمة ضد كثير من «الظواهر السياسية والاتجاهية» في أقطار أخرى كهنغاريا وبولندا والصين الحمراء وغيرها وقد كان من المنطق أن يكون رد الفعل الكنسي أمام مشاهد القسوة والعنف في إفريقيا أكثر حدة وحرارة وذلك بالنتيجة لما يلي:
1) الصبغة الإنسانية المطلقة التي تكنسيها «المأساة» عند الأفارقة 2) ضرورة الحفاظ على المثالية المسيحية في أعين الجماهير الإفريقية المراد هدايتها، وقد أدركت السلطات الكنيسية في روما فعلا مدى خطورة هذه التناقضية المنبثقة عن الاختلاف بين المصالح التبشيرية المسيحية وبين الحقائق التوسعية الغربية فسعت إلى استبدال نحو عشرة من الأساقفة البيض بآخرين من الملونين حتى يصبح من الممكن -كما المحنا إليه- وضع حد للخلط الذي يمكن أن يقع أحيانا بين تصرفات التوسعيين الغربيين وبين الديانة المسيحية ولكن هذه الإرادة الكنسية في التمييز بين الاستعمار والدين لم تتركز إلى الحد الذي يمكن أن تستحيل فيه غلى إدانة صارمة وباتة للعقلية «السوبرومانية» الغربية التي تتدخل في ضبط العلاقات بين البيض والسود، ولهذا فإنني لا أقدر أن ينبثق عن مثل هذه الخطوات الكنسية المسكنة نتائج مسرحية بالنسبة لتقدم المسيحية في القارة، ذلك أن الوعي السياسي والإنساني الذي يجتاح إفريقيا اليوم- كما أجتاح قبلها مناطق «ملونة» أخرى لا يمكن أن يبيح طويلا الاستمرار في اعتبار الدين على أنه مجرد عقيدة سلبية لا تتعدى حدود الغيبيات إلى الواقع إلا قليلا، إن هناك في قلب القارة وبين أحراشها وأدغالها مشكلة إنسانية ضخمة ذات أساس أورو- إفريقي ولم يكن للكنيسة أن تتخذ منها هذا الموقف السلبي لو أن استبدال الأساقفة البيض بالسود كان يعني-في الواقع- شجب مظاهر القسوة والعنف التي كانت مقاومتها في أساس رسالة المسيح عليه السلام.
***
أما باعتبار الإسلام فإن الأمر يختلف عن ذلك كثيرا فالتكتلات الإسلامية بإفريقيا هي من صميم فصيلة هذه الكتل والجماعات التي تنصب عليها أوزار سياسة… مالأن.. وغير«مالأن» من مسيحي القارة المتدينين!! كما أن الدعاة من أبناء المناطق الإسلامية غير السوداء- الذين قد يفدون من خارج القارة-لا يجوز- في الغالب- أن يكونوا ماتين بصلة حضارية أو جنسية أو قارية وثيقة للبيض الحاكمين، ولهذا فالإسلام في زحفه على أفريقيا لا يرتبط بالضرورة –غالبا- بذكريات ذهنية أليمة بالنسبة للإفريقيين –وخاصة سكان جنوب إفريقيا- وذلك ما يؤهله لأن يغدو- في حال ما إذا تجرد عن الشوائب الضارة –عامل الخلاص ومنبثق النور ومصدر الإشعاع لهذه الجماهير المسلمة التي تتلمس- على الأقل كما يجب أن يكون مفروضا لها- طريق التحرر والتطور، إنما تلك التي لا تزال تستبن بعد سبيل التوحيد فإن الإسلام يجب أن يقدم إليها-وذلك ما لا يتم دائما- كما يجب أن يكون دين مساواة عنصرية وتكافل اجتماعي وانطلاق فكري وتحرر عقلي مع الانسجام في ذلك بالطبع مع مستويات العقليات البدائية والمتطورة واعتبار الشروط البيئة والتاريخية المكونة لهذه العقليات.
على أن الأوضاع السياسية -الحكمية التي تسود كثيرا من أرجاء القارة من شأنها- كما سلف أن المحنا إليه-أن تنتصب- بدرجات متفاوتة- حائلا دون تحقيق شامل وعملي لهذه المبادرات، ومع ذلك فقد أمكن للوعي الفكري الذي أصبحت القارة تستروح نسائمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن يتجسم في إشكال واقعية قد يمكن لبعضها أن يقوم في المستقبل بإنجازات هامة في مضمار الانبعاث الإسلامي بإفريقيا، ويسهم في توفير الفرص والإمكانيات لاتصال إسلامي- إفريقي كبير، والواقع أنه كان لإشعاع الثقافي المنطلق عن بعض البلاد العربية تأثير كبير في ذلك، ولنتناول كنموذج لنشوء ظاهرة الوعي الإفريقي الإسلامي هذا منظمة «الاتحاد الثقافي الإسلامي» التي تضم كثيرا من خريجي المعاهد العربية والتي يمكن أن تكون نواة بعث فكري وعقائدي في المناطق السوداء المسلمة بالإضافة إلى ما يجوز أن تسهم به-فيما يفترض أن يكون هناك من انتشار إسلامي محتمل بالأقاليم الوثنية الإفريقية- ويقول السيد لي باسيرو رئيس الفرع السنغالي للاتحاد :«تستهدف المنظمة- في المحط الأول- تركيز الأخلاق الدينية وبالتالي تهذيب الأعضاء الذين تتشكل منهم والجماهير المومنة تهذيبا إسلاميا قويما، كما أنها عاقدة العزم على الإسهام أيضا في التقدم الاقتصادي والاجتماعي بإفريقيا، وهي مقتنعة بأن إسلاما مجردا عن الشوائب ليس له إلا أن يكون عنصرا ايجابيا في سبيل التقدم والتطور بإفريقيا…»
وقد كان مجال نشاط الهيئة محدودا في نقطة انطلاقها الأولى :دكار إلا أن مؤتمرها الاتحادي التأسيسي الملتئم في دجنبر 1957 أمكن أن ينبثق عن إنجاز مسرحي هام ذلك حينما تم الاتفاق على إجراءات توسيع نشاط الهيئة وتزويدها بالإمكانيات الضرورية على الصعيد النظري والعملي لتصبح أداة نهوض فكري وبلورة عقائدية للجماعات الإسلامية بغرب أفريقيا وأوساطها، إلا أنه يبدو من الضروري أن تجد مثل هذه التشكيلات-إذا تم لها أن تبرهن عن أهليتها للقيام بالدور الهام المقدر لها- المؤازرة المادية أو الفكرية-على الأقل- من جانب الدول التي يعنيها مستقبل إفريقيا العقائدي وماله من انعكاسات على مصايرها السياسية والحضارية والتاريخية، وقد كان من«الأزهر» في جنوب الجمهورية العربية المتحدة أن بذل في هذا المضمار ضروبا هامة من النشاط جديرة بالتقدير وذلك في شرقي القارة وخاصة في جنوبها حيث«أمكن » على حد تعبير أحد المؤرخين الغربيين المعاصرين-أن يجتذب عشرات بل ومآت من الطلاب السود وذلك في سبيل ترويض الإسلام الأسود وحمله على الانسجام مع إسلام إفريقيا والشرق… إن القاهرة- يقول الكاتب- تبذل نشاطا جبارا في هذا المجال وهو يتخذ نقط استهداف له :أراضي غربي إفريقيا كغانا ونيجيريا، وقد بدت نتائجه-سافرة- في الحملة على السويس- حيث اعتبرها كثير من السود انهزاما للأماني الإفريقية وإرهاصا بتقهقر خطير للقضية التحررية وحينما توقف العراك عادوا ليعربوا عن ابتهاجهم بذلك معتبرينه انتصارا ساحقا لمجموع القارة الإفريقية…»
إن هذه البوادر الأزهرية على درجة كبيرة في الأهمية ولكن ليس من شأنها أن تبلغ مداها إلا إذا وجدت مزيدا من الدينامية الفعالة في المراكز الإسلامية الأخرى بالمغرب وتونس على الأخص، فمن الأساسي أن يكون هناك تناسق في العمل بين مصادر الإشعاع الإسلامي بشمال القارة حتى يكون المستطاع مواجهة التحدي الرهيب الذي تخلقه حالات من الصراع بين العقائديات الدينية وبالتالي بين القيم الحضارية في قلب إفريقيا.
إن هذه الصرخات النهوسية التي تطفر من حين لآخر-وبصورة متصاعدة- من جانب الكتاب الغربيين محذرة من خطورة الاكتساح الإسلامي في أعماق القارة ليست في الواقع إلا رد فعل عنيف ليقظة الوعي الوطني الإفريقي بين الجماهير السوداء إذ أن التفكير الغربي يضع في الغالب-كما تمكن ملاحظته- رابطة متينة بين التقدم الوعي الوطني في القارتين الملونتين وبين الشيوعية الدولية من جانب أو الإسلامية العربية من جانب آخر ولهذا فإنني اقدر أن هذا الحذر الشديد الذي تتسم به كتبات كثير من الغربيين بالنسبة لما يمكن أن يقال عن خطورة«الاكتساح الإسلامي» في إفريقيا- ليس له بعد ما يبرره، إذ أنه ليس- في جوهر الأمر- إلا نتيجة« المركب الإسلامي» الذي يجثم على نفسية الكثيرين من هؤلاء أو نتيجة الديماكوجية الدينية التي قد يردون اتخاذها وسيلة للحد من انتشارية الوعي الوطني بين ربوع القارة الصاعدة.
ومهما يكن فإن ركب الحرية الزاحف على إفريقيا ليس له أن ينتهي على نقطة النهاية إلا بعد أن يفضي على تنظيم علاقات مع أوربا على أسس جديدة(ولعل هذا هو التبرير الحقيقي«لمركب الإسلامية» في نفسية هؤلاء الكتاب الغربيين) وقبل أن يتم ذلك أو بعد أن يتحقق فإن انتفاضات الغربيين من خطورة الانتشارية الإسلامية في إفريقيا لا تكون بعد قد استحقت تبريرها الكامل ومدلولها الحقيقي طالما أن هذه الانتشارية المفترضة لا تجد مراكز اندفاع لها أصيلة ومنظمة ببلاد الإشعاع الإسلامي في شمال القارة.
إن الرسالة التي تنتظر من الإسلام أن يؤديها في قلب إفريقيا لا تتركز فقط في إيقاظ الوعي السياسي عند السود-الأمر الذي كم يثير من الاهتمامات في الغرب- إنها أهم من ذلك بكثير، إذ أن المفروض لها- فيما لو أمكنها استنفاد جميع أغراضها الأساسية- أن تهدف إلى تحرير العقلية الإفريقية من أسار التفكير السحري- الوثني وان تضطلع بهدايتها إلى طريق التحرر العقلي والوجداني الكامل، إنها ستكون أساسا لبعث فكري- حضاري جديد إذا أشرق على القارة فإنه سيسهم في تحرير الطاقات الحية التي تتوفر عليها عقول الجماهير السوداء الأمر الذي سيساعد جديا على النهوض بالمجتمعات الإفريقية ويكون-بالتالي- خطوة أساسية في سبيل التقدم الإنساني الأكبر.
إن رسالة الإسلام في إفريقيا وفي غيرها هي رسالة الهدي الحق والوعي الصحيح فليس فيها إذن ما يثير عليها سخائم الآخرين بل إنها تنهض-في الواقع- على قواعد إنسانية مثالية ليس لها إلا أن تجتذبهم إلى الاغتباط بتقدمها ومباركة خطواتها في سبيل الخير والحق والسلام.
(1) – تكثر هذه الجاليات العربية في المناطق الإفريقية على الأخص وهي تنعم بمراكز محظوظة ومرموقة.
(2) – لقد سلف لهذا ” العالم” ان تطوع بدعوة المناضلين الجزائريين- في إحدى المحطات الإذاعية الواقعة تحت المراقبة الفرنسية- إلى الاستسلام غير ناس أن يستشهد على ذلك بأي من القرآن..
المصدر: المهدي البرجالي، دعوة الحق، السنة 3، العدد 6، مارس 1959