إن التجربة والممارسة الصوفية المستمرة في جنوب إفريقيا نعمة إلهية. ومن خلال سرد التاريخ وتسليط الضوء على بعض المؤسسات والشخصيات المرتبطة بالتصوف في جنوب إفريقيا، يمكننا استلهام الكثير عن كيفية بناء مجتمعات ناجحة عازمة على اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ذ. مختار أحمد- جنوب إفريقيا
مقدمة:
تعد الزاوية من أعظم المعالم الدينية في تاريخ المسلمين في منطقة كيب تاون (Cape Town). حيث تعد الزاوية التي أنشأت سنة 1920م من طلائع المؤسسات المكرسة لصيانة العلوم الإسلامية، كما أنها تمثل صيرورة موروث ضخم من نشر العلم والتصوف والدعوة منذ وصول العبيد المسلمين الأوائل من بلاد إندونيسيا قبل ثلاثة قرون خلت. ولتسليط الضوء على إرث هذه المؤسسة ومكانتها في التراث الصوفي بمنطقة كيب، ستتناول هذه المقالة ما يلي:
أ. وصول المسلمين الأوائل إلى المنطقة ونبذة عامة عن التصوف في كيب؛
ب. حياة وإسهامات الشيخ محمد صالح هندريكس لغاية سنة 1945م: تشييده للمأوى الروحي(الزاوية) لطلاب العلم، وملتمسي المقام الروحي (الإحسان)؛
ت. الحرص على إبقاء الشعلة مضيئة: الشيخ سراج هندريكس؛
ث. التصوف في القرن الواحد والعشرين: نبذة عن الطرق المعاصرة؛
المسلمون في كيب وبدايات التصوف
وصل الإسلام إلى جنوب إفريقيا عن طريق المسلمين الذين عاشوا في الأرخبيل الإندونيسي، وهناك مجموعة من الروايات التاريخية بخصوص أسباب انتشار الإسلام في هذه المنطقة بما في ذلك التجارة والمصاهرة بين المسلمين والسكان المحليين والتصوف. فقد كان التصوف بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر من الممارسات الشائعة بين سكان ما يعرف اليوم بإندونيسيا. وكما سنبين لاحقا، فقد لعبت هذه الممارسة دورا هاما في نشر وصَوْن الإسلام في منطقة الجنوب الإفريقي وما وراءه.
لقد ساهم التوسع الاستعماري الأوروبي في القرن السابع عشر في اندلاع توتر سياسي كبير بين الهولنديين وسكان الأرخبيل الإندونيسي، مما حذا بالهولنديين إلى نفي القادة والشخصيات المهمة إلى كيب وجعلهم عبيدا وبالتالي وَأْدِ مقاومتهم. وقد استمرت هذه الممارسة التي نتج عنها تمكن هؤلاء العبيد من التعليم واكتساب المعارف والعلوم الإسلامية بما في ذلك التصوف.
وقد وصل الفوج الأول من المسلمين إلى المنطقة في سنة 1657م غير أنه ليس ثَمة ما يوثق لخلفياتهم الصوفية خلافا للفوج الثاني، حيث تشير إحدى المصادر إلى مَقَام أحد أفراده، توان محمود القادري، بالقول:
في الرابع والعشرين من يناير من سنة 1667م، غادرت السفينة (Polsbroek) باتافيا (Batavia) لتصل إلى هنا في الثالث عشر من ماي وعلى متنها ثلاثة سجناء سياسيين مُصَفدين بالسلاسل، وهم من سكان الملايو من الساحل الغربي لسومطرة والذين تم نفيهم إلى كيب بناء على إمكانية صدور أوامر بإطلاق سراحهم في نهاية الأمر. لقد كان منهم Orangh Cayen، وكانوا قادة من ذوي السلطة والنفوذ، فكان لابد من توخي الحذر الشديد لئلا يُطلق سراحهم ويتمكنوا من أذى شركة الهند الشرقية الهولندية، فتم نفي اثنين منهم للغابات التي تسيطر عليها الشركة في حين أُرسل الثالث لجزيرة روبن (Robben Island ) (Da Costa, 1994: 130).
ورغم أن اسم السجين الثالث ومكان دفنه في جزيرة روبن ليس معروفا، فإن السجينين السياسيين المعروفين هما توان محمود القادري وعبد الرحمن ماتيبي شاه. وقد تم دفن كليهما في ضاحية تسمى كونستانشيا (Constantia) في كيب تاون (Cape Town) على مقربة من بعضهما البعض. كما أن ضريحهما المبجل يعتبر قبلة لآلاف الزوار سنويا (Davids, n.d.: 1, 729). ونظرا لظروف هؤلاء العبيد الجدد وكون ممارسة العبادة الإسلامية محظورة آنذاك، فإنه ليس ثمت من دليل على نوعية الممارسة الصوفية السائدة وكيفية توارثها. إلا أن هناك المزيد من المعلومات بخصوص الممارسة الصوفية لاحقا وأيضا بخصوص بعض الشخصيات الصوفية الرئيسية التي سيتم التطرق لتفاصيل حياتها أدناه.
اضْمِحلالُ العَتَمة: أعلام التصوف
غالبا ما ينظر إلى الشيخ يوسف المقاسري الخلوتي (1626 – 1699م) باعتباره «زعيما روحيا» للإسلام في جنوب إفريقيا. ولد الشيخ في سولاوسي (Sulawesi) بإندونيسيا سنة 1626م، ومنذ صغره تلقى تعليما إسلاميا معمقا. فقد تلقى تكوينا على يد أساتذة في مسقط رأسه بإندونيسيا وفي الهند واليمن والحرمين وسوريا، ليعود أدراجه إلى إندونيسيا سنة 1667م. وخلال أسفاره في طلب العلم، اطلع الشيخ على مجموعة من الطرق الصوفية كالقادرية والخلوتية و آل باعلوية والنقشبندية. فقد درس القادرية والنقشبندية على يد كل من الشيخ نورالدين بن حسنجي بن محمد بن حميد القريشي الرانيري والشيخ عبد الباقي النقشبندي على التوالي. وفي اليمن درس الطريقة آل باعلوية على يد كل من سيد علي الزبيدي كما درسها أيضا على يد أيوب الخلوتي في دمشق، فأصبح عَلَمًا صوفيا مشهورا، وأُلْبِس تاج الخلوتية. وفور عودته إلى إندونيسيا، التحق بالتدريس في الديوان الملكي في بانتين (Banten). وعقب بداية الاستعمار الهولندي لإندونيسيا، انخرط الشيخ في مقاومة الاستعمار ليتم القبض عليه لاحقا ونفيه إلى سيلان (Ceylon) في الفترة الممتدة ما بين (1684 و1694م). ورغم ذلك فقد تنامت شعبية الشيخ، فتم نفيه للمرة الثانية في سنة 1694م إلى كيب تاون وبقي هناك إلى أن وافته المنية سنة 1699م.
قام الشيخ بتأليف أكثر من خمسين مؤلفا قصيرا في التصوف تحدث فيها عن الطريقة والحقيقة، وتم تحقيق وترجمة هذه المؤلفات من طرف جامعة جنوب إفريقيا. ويعتبر الشيخ من أتباع المذهب الشافعي في الفقه والمذهب الأشعري في العقيدة ومدرسة ابن عربي في التصوف.
لقد كانت الممارسة الصوفية للقادرية راسخة في منطقة كيب قبل بزوغ فجر الشيخ يوسف، كما أن للشيخ إسهامات مهمة في نشر الإسلام والتصوف، وخصوصا ما يتعلق بأنشطة وتأثير الطريقة الخلوتية. فبالإضافة إلى تلقينه مَنْ حوله من العبيد مبادئ الإسلام، كان بلا شك مساهما في تلقينهم الأوراد والأذكار والأمداح النبوية الشريفة (S Hendricks :183).
لقد أصبح الشيخ يوسف بمثابة نقطة التقاء لعدد متزايد من المسلمين، حيث لم يكن همه حملهم على الانتفاض ضد الهولنديين بل تقوية عقيدتهم وممارساتهم الإسلامية في وقت كانت فيه الديانة الإسلامية محظورة، فلم يكن يسمح بالعبادة الإسلامية علانية إلا في سنة 1804م. وقبل نيل هذه الحرية الدينية من أجل التمكن من أداء العبادة الإسلامية، كانت الغرف المسماة ب «لانجار» (langgar) تستعمل كأماكن للصلاة وتلاوة الأوراد الصوفية الواجبة والأذكار وطلب العلم الروحي.
لقد شهد القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين تزايدا كبيرا لشيوخ التصوف في ” كيب” فازداد تأثيرهم على البيئة الصوفية التي تم تهيئتها سَلَفا. ومن هؤلاء، تلميذا الشيخ يوسف: الشيخ حسن غيبي شاه (Hasan Ghaibie) والشيخ توان كبيتي لو (Tuan Kapitie Low)، اللذين استمرا في تلقين وتوجيه المريدين (S Hendricks: 194).
كما يعتبر عبد الله بن قاضي عبد السلام المولود في تيدور (Tidore) سنة 1712م والملقب بتوان غورو (Tuan Guru) أي «الشيخ الأكبر» من كبار أعلام التصوف الذين استقروا على ضفاف كيب تاون. وترجع جذور أسلاف هذا الشيخ إلى حضرموت ومنها إلى سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم. فخلال حياته، كانت ثمة منافسة بين شركة الهند الشرقية الهولندية والاستعمار البريطاني من أجل السيطرة على المنطقة المسماة اليوم بإندونيسيا. وقد تم نفي سلطان تيدور إلى باتافيا المسماة بجاكرتا اليوم لتعاونه المزعوم مع الإنجليز. كما سعى الهولنديون إلى نفي أفراد العائلة المالكة والأفراد المؤثرين كالشيخ توان غورو من باتافيا إلى كيب تاون وذلك بهدف تحجيم نفوذ السلطة في باتافيا. وفور وصول الشيخ توان ومرافقيه إلى كيب في سنة 1781م، تم نفيه إلى جزيرة روبن، حيث بقي هناك سنة كاملة ليتم نقله إلى سالدانها باي (Saldanah Bay) نظرا لكون الهولنديين كانوا يتوقعون آنذاك غزوا بريطانيا. إلا أنه سيتم إعادة الشيخ إلى الجزيرة مرة أخرى في سنة 1786م حيث اعتكف هناك على كتابة القرءان الكريم كاملا من حفظه وألف خلاصته المشهورة « معرفة الإسلام والإيمان»، ليتم إطلاق سراحه بعد ذلك في سنة 1791م.
وقد بدأ الشيخ في أول أمره بالانتساب للطريقة الشطارية، فيما أكد بعضهم أنه انتسب إلى الطريقة آل باعلوية، حيث يُستشف ذلك بوضوح من خلال دراسة خلاصته «المعرفة» والتي تحتوي على أوراد وأدعية لشيوخ التصوف المتقدمين كالشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أبو الحسن الشاذلي والشيخ بن عربي وغيرهم. «وباختصار، لقد كان شيخا تقليديا ذا نزعة صوفية قوية وأسلوب باعلوي. أنشأ توان غورو أول مسجد في كيب تاون، والذي تم افتتاحه سنة 1798م. ويشتمل المسجد على مدرسة لتمكين أفراد المجتمع الإسلامي الصغير من حفظ القرءان الكريم ودراسة النصوص الدينية. ومما لا جدال فيه، فإن توان غورو يعتبر من رواد التعليم والأبطال المساهمين في تلقين كل عبيد كيب تاون ليس فقط قيم الكرامة بل حتى مبادئ الإسلام»(S Morton : 74). وقد وافته المنية في سنة 1807م، ودُفن في ضواحي كيب تاون بمنطقة تسمى بو كاب (Boo Kaap)، حيث ضل مَقَامُه مزارا للسكان المحليين وغيرهم من مختلف بقاع العالم إلى يومنا هذا.
وتتوفر كيب الغربية على ثلاثة وعشرين مزارا وضريحا رئيسيا للأولياء، وتعتبر معظم هذه الأماكن قبلة للزوار المسلمين على المستوى المحلي والوطني والدولي. واستنادا إلى التراث الشفهي المتداول بين السكان المحليين في كيب تاون، فقد وقعت عدة كرامات لبعض الأولياء سواء في حياتهم أو بعد مماتهم. وأشهر مثال لذلك ما وقع عند قبر الشيخ عبد الرحمن ماتيبي شاه. فبعدما كان مقامه في منطقة خاصة بالمسلمين، تم دفع المسلمين إلى إخلاء تلك المنطقة بالقوة نتيجة التطبيق الوحشي للميز العنصري، فأدى ذلك إلى حرمانهم من الوصول لقبر الشيخ من طرف أصحاب المزرعة التي يقع فيها المقام. غير أن حريقا مهولا اندلع في تلك المزرعة فأدى إلى تدميرها بالكامل باستثناء قبر الشيخ عبد الرحمن ماتيبي شاه. وقد دفع هذا الحدث العظيم مُلاك المزرعة إلى إعادة تمكين المسلمين من الوصول إلى مقام الشيخ، ولازال هذا الأمر مستمرا إلى يومنا هذا.
تراجع وتجديد: نشأة جيل جديد
فرغم أن هناك عددا كبيرا من المتصوفة المشهورين والمصنفين في خانة الأولياء المدفونين في كيب تاون وضواحيها، على غرار الشيخ نور المبين (Nurul Mubin) والشيخ جعفر والشيخ سيد والشيخ محمد زايد، فإن المؤرخ أحمد ديفيس (Achmat Davids) يؤكد على حقيقة تراجع التصوف في القرن التاسع عشر، مشيرا إلى أن الشيخ سيد محسن بن سليم العيدروس المتوفى سنة 1934م والشيخ مولانا عبد اللطيف قاضي المتوفى سنة 1916م، والشيخ عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 1942م، والشيخ محمد صالح هندريكس المتوفى سنة 1945م لعبوا دورا هاما في إحياء التصوف في كيب وقاموا بإرساء أسس التمكين للشريعة. «لقد كان هؤلاء المشايخ فقهاء متمكنين، كما أن الزوايا بدأت تؤدي دورها الوظيفي وخصوصا مع بداية الربع الأول من القرن العشرين» (Da Costa 1994:135).
ومن الطرق الصوفية المنتشرة آنذاك نجد الطريقة القادرية والرفاعية والنقشبندية والجشتية والشاذلية وآل باعلوية. ومن بين الأعلام المذكورين أعلاه من مجددي التصوف، يتعين الحديث عن مولانا عبد اللطيف قاضي وخصوصا دور «مجمع حبيبة الصوفي» في كيب تاون. فحياة مولانا عبد اللطيف وتعاليمه تشكلان جزءا من السردية المميزة للموجة الثانية الكبيرة من المسلمين الذين وصلوا إلى جنوب إفريقيا كعمال متعاقدين، حيث وصل المستعمرون البريطانيون لأول مرة إلى محافظة ناتال (Natal) بجنوب إفريقيا بمعية عمال متعاقدين من الهند في سنة 1860م. أما عن حياة مولانا عبد اللطيف قاضي فقد ولد في منطقة راتناجيري (Ratnagiri) بالهند سنة 1859م، وتلقى تعليمه في بومباي (Bombay) حيث درس هناك الطريقة الجشتية بتوجيه من خوجة حبيب علي شاه، فتلقى التعاليم الصوفية للطريقة القادرية وأيضا الجشتية من خلال فرعها الحبيبية. وعقب وصول الشيخ إلى ناتال واستقراره بها لأول مرة، تَم توجِيهُه من طرف مولانا غلام محمد المعروف ب “صوفي صاحب” (نشر الشيخ تولاني زيد لانغا مقالة عن صوفي صاحب في الإصدار الأول لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة) للذهاب إلى كيب تاون. وصل مولانا عبد اللطيف إلى دورنهوغت (Doornhoogte) على بعد ستة عشر كيلومترا من مركز مدينة كيب تاون في سنة 1904م. وفي سنة 1905م أسس بناية صغيرة ستسمى لاحقا بـ«مجمع الحبيبية»، وستصبح مركزا رائدا للتعليم والتدريس. لقد كانت مساهمات مولانا عبد اللطيف تجاه مجتمع المهاجرين المسلمين من الهنود وبقية المجتمع الإسلامي عامة متميزة، حيث سطر برنامجا تعليميا متينا يتم فيه تلقين القرءان الكريم والأذكار والأدعية بشكل يومي. كما يتم فيه إحياء شعائر تعبدية خاصة في ليلة الخميس من كل أسبوع وكذا أيام السادس والسابع والحادي عشر والثامن عشر والتاسع عشر من كل شهر قمري. وأما أداء شعيرة التهليل فيستمر لما يزيد عن ثلاث إلى أربع ساعات، في حين تتم تلاوة ختم الخواجكان في مجالس الذكر، وهو من الأذكار المميزة للطريقتين القادرية والنقشبندية. هذا بالإضافة إلى قراءة راتب الحداد وراتب العيدروس في الطريقة آل باعلوية عطفا على غيروين شريف (Gyrwin Sharif) للطريقة القادرية. وهذا كله مما يدل دلالة واضحة على براعة مولانا عبد اللطيف في النهوض بالتصوف ونجاحه في توحيد مختلف المجموعات الثقافية المتنوعة في كيب تاون حول دين الإسلام. وقد نشأت علاقة وثيقة ومتينة بين مولانا عبد اللطيف وأحد رواد النهضة الصوفية، الشيخ محمد صالح هندريكس.
تأسيس الزاوية: حياة وإسهامات الشيخ محمد صالح هندريكس (1871 – 1945م).
إن محاولة استكشاف حياة الشيخ محمد صالح هندريكس ودور المؤسسة التي أنشأها يعد أمرا بالغ الأهمية في سبيل معرفة الطريقة التي تم بها نشر وحفظ التصوف في كيب تاون، وذلك اعتبارا من كون الشيخ من العلماء الأوائل الذين هاجروا ضفاف هذه المدينة طلبا للعلم الشرعي، ورغبة في الإلمام بالممارسات الصوفية والتدرب عليها. لقد ولد الشيخ محمد صالح هندريكس في سنة 1871م بسويلندام (Swellendam) من عائلة حديثة العهد بالإسلام، مكونة من أبوين يُدعيان عبد الله وعائشة، واثنين من الإخوة والأخوات، يُعد الشيخ محمد صالح أصغرهم. أما مسقط رأس الشيخ فيقع على بعد مائتين وعشرين كيلومترا من كيب تاون، وقد تميز آنذاك بازدهار كبير وذلك عقب مرور سبع وثلاثين سنة على تحرير عبيده، كما تميز بكونه مركزا مهما للنشاط التبشيري المسيحي.
اعتنق جد الشيخ هندريكس الإسلام، فيما كان أبوه شخصا ثَرِيا وكان إمام المسلمين بسويلندام. وقد كانت ولادة الشيخ في زمن كافح فيه المسلمون من أجل الحفاظ على هويتهم، حيث كانوا يصنفون كمواطنين من الدرجة الثانية من طرف الدولة. وقد اعتاد الشيخ السفر في عربة البريد إلى مدينة كيب تاون لتلقي الدروس على يد الشيخ توان عبد الجليل والإمام معاوية ماني. ويحكى في تاريخ العائلة أن الشيخ عزم في بداية أمره على دراسة الطب في المملكة المتحدة، إلا أن السيد عبد العزيز المالكي (جد السيد محمد علوي المالكي) أقنع أباه بالسماح له بدراسة «طب الروح». وكان السيد عبد العزيز المالكي شيخا صوفيا قد جاء مؤخرا من مكة وسافر بين مدن كيب تاون وبورت إليزابيث بحثا عن زيادة توطين الدعوة الإسلامية بين الجاليات المسلمة هناك. وفي سنة 1888م تبنى الإمام عبد الله هندريكس اقتراح السيد عبد العزيز المالكي، فسافر ابنه الشيخ محمد صالح هندريكس إلى مكة برفقة السيد عبد العزيز المالكي في نفس السنة. وفي سنة 1890م سافر الإمام عبد الله إلى الحج وقام بزيارة ابنه، فوافته المنية ودفن هناك.
سفر طالب وعودة عالم
وفور وصول الشيخ محمد صالح إلى مكة وضع برنامجا صارما يؤهله للتفوق في العلوم الشرعية والتصوف، فتلقى العلم على يد مجموعة من العلماء البارزين والشيوخ الكبار، كالشيخ محمد سعيد باب السيل وعمر بن أبي بكر باجنيد. وقد درس الشيخ محمد صالح الطريقة آل باعلوية على يد عمر بن أبي بكر باجنيد، كما درس الشيخ كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي على يد سيد بكري شطة، نظرا لكون كتاب الإحياء من أهم الكتب التي تدرس في الطريقة آل باعلوية. وفي مكة يعتبر التمكن من العلوم الشرعية آنذاك شرطا أساسيا لمواصلة التعمق في دراسة التصوف.
وبتوجيه من مجموعة من العلماء، تمكن الشيخ محمد صالح من دراسة مجموعة من العلوم الشرعية والمؤلفات الصوفية، وفي طريق عودته إلى كيب تاون، حمل معه آلافا من المؤلفات التي درسها بمكة، والتي غادرها في شهر مارس من سنة 1903م عابرا إلى زنجبار التي توقف فيها لعدة أشهر. وفي زنجبار عرض عليه زميله الطالب من مكة الشيخ عبد الله با كثير منصب مساعد القاضي، فاستشار أستاذه الشيخ عمر باجنيد الذي وافق على تقلده للمنصب. وخلال فترة عمله مساعدا للقاضي وأستاذا، برز نشاطه أيضا في احتفالات عيد المولد النبوي الشريف في زنجبار، فتمكن الشيخ محمد صالح هندريكس آنذاك من دخول تَأْريخ الإسلام بشرق إفريقيا. ففي خلاصة علماء الشافعية بشرق إفريقيا يُترجم له على أنه أستاذ وعالم ومن «شيوخ» الطريقة والتراث العلوي. ويدل عدم الإشارة إلى مسقط رأسه في كيب تاون على أن الأقطار ليست ذات أهمية في مثل هذا النوع من المؤلفات.
وفي يوليوز من سنة 1903م قرر أخيرا العودة إلى كيب تاون. وقد عمل خلال سبع عشرة سنة الأولى منذ عودته على إلقاء الدروس في منزله وفي مجموعة من المساجد بما في ذلك «مجمع الحبيبية»، وبهذه الطريقة نجح الشيخ في إظهار وحدة التصوف والصوفية بغض النظر عن طرقهم.
تأسيس الزاوية
وفي سنة 1920م، قام الشيخ بتأسيس مسجد الزاوية، كما استمر في تكريس حياته للتدريس بشكل مكثف وغير مسبوق إليه من طرف العلماء الآخرين بمدينة كيب تاون، مقدما بذلك واحدة من أعظم الإسهامات في نشر التعليم الإسلامي في المدينة عن طريق مواصلة إرث الأعلام القدامى في تلقين العلوم الإسلامية والتصوف معا. كما أنه فسح المجال أمام العنصر النسوي لحضور الدروس، وتلقي العلوم الشرعية، في خطوة تعتبر من الممارسات النادرة آنذاك.
أما المؤلفات التي درسها في مجال التصوف فتشمل تحفة اللبيب لسيد أحمد بن سميط، والنصائح الدينية لسيد عبد الله بن علوي الحداد، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي. وقد قام ابنه الشيخ مهدي هندريكس بإتمام قراءة كتاب الإحياء لعشرين مرة، حيث يعتبر ذلك من الممارسات السائدة في الطريقة آل باعلوية. ويمكن ملاحظة مناهج الشيخ محمد صالح في دراسة الشريعة والتصوف في جميع المراكز آل باعلوية في جميع أنحاء العالم، كما يستشف من ذلك اطلاع الشيخ على رباطات التصوف في حضر موت، وكذا الطريقة الرسمية المنظمة التي يتم بها تلقين التصوف هناك. فالأذكار والأوراد التي تتم قراءتها متجذرة بشكل راسخ في الطريقة آل باعلوية، وتشمل تلك الأذكار والأوراد قراءة راتب الحداد، وراتب العيدروس، وراتب العطاس، ودلائل الخيرات، وختم الخواجكان الذي يعتبر كغيره من الأذكار والأوراد من أركان الطريقة النقشبندية والقادرية.
وقد عُرف عن الشيخ اهتمامه الكبير باحتفالات المولد النبوي الشريف، حيث يتم الإعداد لهذه الاحتفالات بثلاثة أشهر، كما يتم قراءة مولد البرزنجي للإمام جعفر بن حسن البرزنجي (1690–1765م). وبالإضافة إلى الطريقة آل باعلوية، انتسب الشيخ للطريقتين الرفاعية والنقشبندية، حيث يتوفر الشيخ محمد صالح على إسناد لأبي مدين والشاذلية والعلوية.
وبعد عودة ابنيه الشيخ إبراهيم والشيخ مهدي من مكة سنة 1936م تخلى الشيخ عن مهمة التعليم وتدريس طلبته العلوم الشرعية «ليتفرغ بشكل كلي للأنشطة الصوفية». وفي سنة 1945م وبعد مرور حوالي ثلاث وأربعين سنة من خدمة المسلمين في كيب تاون وغيرهم من المجتمعات الإسلامية في جنوب إفريقيا عموما، لبى الشيخ محمد صالح هندريكس نداء ربه، حيث كان من وصاياه عدم إقامة ضريح على قبره، ليقوم أبناؤه الشيخ إبراهيم والشيخ مهدي بتنفيذ هذه الوصية.
أما بخصوص الموروث العظيم للشيخ محمد صالح هندريكس، فقد تناقله أبناؤه الذين درسوا في مكة، كما تناقله مريدوه وأحفاده الشيخ أحمد هندريكس والشيخ سراج هندريكس. وتعد الزاوية التي تحتفل اليوم بالذكرى المئوية على إنشائها مثالا على كيفية تمكن المسلمين في جنوب إفريقيا من الحفاظ على التعاليم الإسلامية الصحيحة المتجذرة في التصوف.
الحرص على إبقاء الشعلة مضيئة
إن المؤسسات كالزوايا تظل قوية بفضل قوة الأفراد المرتبطين بها والقائمين عليها. ولذلك يعتبر الشيخ سراج هندريكس إحدى هذه الشخصيات التي ساهمت في نشر تعاليم الزاوية في القرن الواحد والعشرين من خلال تحمل مسؤولية تدبير شؤون الزاوية منذ سنة 1992م وحتى وفاته في سنة 2020م.
ولد الشيخ سراج هندريكس في كيب تاون سنة 1955م، وهو من أحفاد الشيخ محمد صالح هندريكس. وقد أسفر خبر إعلان وفاته في اليوم التاسع من شهر يوليوز من سنة 2020م عن حزن كبير ليس فقط بين أفراد عائلته وأصدقائه وتلامذته، بل حتى بين أفراد المجتمع الإسلامي المحلي والدولي، حيث تصدر الخبر عناوين الصحف والمنشورات سواء على وسائل الإعلام الرقمية أو المطبوعة داخل وخارج جنوب إفريقيا.
لقد كان شخصية بارزة في المجتمع الإسلامي بكيب تاون، بحكم شهرته كعالم ومثقف وقائد وأستاذ سَامِق وصوفي. كما كانت الزاوية أثناء إشرافه عليها مركزا لتلقين العلوم الشرعية والتصوف. وقد تلقى الشيخ تعليمه الأكاديمي في داخل البلاد والخارج، حيث تَتَلْمذ على يد عمه الشيخ مهدي هندريكس والذي لقنه العلوم الشرعية، وتخرج كمدرس للغة الإنجليزية بين سنتي 1980م و 1982م قبل أن يحط الرحال بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في سنة 1992م حيث أتم دراسة اللغة العربية، وحصل على شهادة التخرج في العلوم الشرعية، تخصص الفقه وأصوله. وعلى إثر عودته إلى كيب تاون، حصل على ماجستير الفنون (درجة التميز) من جامعة جنوب إفريقيا، بأطروحة تحت عنوان: «التصوف: دوره وتأثيره على الثقافة الإسلامية بكيب» “Islam Tasawwuf – Its role and impact on the culture of Cape”. كما اشتغل على ترجمة بعض أعمال الإمام الغزالي، وقام أيضا بتلخيص أبواب من إحياء علوم الدين.
وقد تقلد الشيخ عدة مناصب قيادية لكونه شخصية معروفة في كيب تاون. فترأس لجنة الفتوى بمجلس القضاء الإسلامي، وكان محاضرا في الكلية الإسلامية بجنوب إفريقيا (ICOSA) وجامعة جوهانسبورغ وكلية السلام الإسلامية بجنوب إفريقيا ومعهد المدينة. وقد ركز في محاضراته على التعريف بعلم مقاصد الشريعة الإسلامية وغيره من المواضيع المتعلقة بالعلوم الشرعية. كما تقلد الشيخ أيضا منصب أول عميد لحرم معهد المدينة في كيب تاون تحت إشراف دولي من الشيخ الدكتور محمد بن يحيى النينوي.
كما حضر الشيخ سراج بمعية أخيه الشيخ أحمد دروسا بزاوية المحدث السيد محمد بن علوي المالكي طيلة فترة دراستهم بجامعة أم القرى. وكما تمت الإشارة إلى ذلك، فإن الشيخ محمد صالح نشأ وتَتَلْمذ على سلوك الطريقة آل باعلوية على يد علمائها المالكيين.
تقوية الروابط
يعتبر المحدث المكي السيد محمد بن علوي المالكي أول أستاذ تَتَلْمذ على يديه الشيخ سراج في مجال التزكية، حيث استفاد كثيرا من صحبته، وتمكن من تحصيل معرفة عميقة نتيجة دراسة كتاب الإحياء على يديه. لقد انتسب الشيخ إلى الطريقة آل باعلوية، فحصل هو وأخوه أحمد على إجازة من الشيخ المحدث محمد بن علوي المالكي ليمثلا الطريقة ويصبحا خليفته. وقد تمكن الشيخ سراج وأخوه أحمد من نشر التعاليم الصوفية للطريقة آل باعلوية وجعلها في متناول الكثير من خلال محطة إذاعية محلية بكيب تاون. كما عملا على تأليف وترجمة مجموعة من الأعمال المهمة التي أثارت انتباه الأكاديميين والشباب والشيوخ للطريقة آل باعلوية.
إن مجال تدبير شؤون الزاوية وممارساتها تسترشد بفتوى الشيخ عبد الرحمان بلفقيه المسماة ب «طريقة بني علوية: الطريقة العلوية» وهو العمل الذي تمت ترجمته من طرف الشيخ سراج والشيخ أحمد. وبفضل جهود الشيخين، تستمر الزاوية في تأدية دورها كموطن روحي ومكان لتلقي المعرفة، حيث تقدم دروسا لمجموعة من الطلبة على مدار أيام الأسبوع.
النشاط والتأثير
لقد عُرف عن الشيخ سراج نشاطه في مجال مكافحة الميز العنصري، كما عُرف بالتزامه الصادق في سبيل تحقيق العدالة ومحاربة الظلم حيثما وجد. كما سَار الشيخ على خطى جده في الحث على تشجيع العنصر النسوي على طلب العلم، حيث أصبحت العديد من النساء جزءا من الزاوية. كما عبر الشيخ عن معارضته للتهديدات المتزايدة للتطرف في العالم الإسلامي.
وإلى جانب كونه عالما ومربيا، عُرف عن الشيخ عمله التطوعي في مجال الرعاية الاجتماعية حيث كان يقدم الدعم والمؤازرة للمحتاجين. لقد عُرف بحِلمه وصرامته، كما يتحدث الناس عن عطفه ولطفه، إنه فعلا فرد غير أناني في المجتمع. لقد ترك الشيخ أثرا دائما في قلوب وعقول تلامذته وكذا في قلوب وعقول المجتمع المسلم بصفة عامة في كيب تاون. ففور إعلان خبر وفاته، تقاطرت من جميع أنحاء العالم عبارات الرثاء الممزوجة بأسمى شواهد التقدير لشخصه وللأثر الذي تركه في مجتمعه الذي يكن له كل مشاعر المحبة. وقد قال عنه الشيخ الصوفي الدكتور محمد بن يحيى النينوي: « السراج يعني الفانوس، المصباح، يعني النور، لأنه يعطي الدفء والراحة والسلم، لقد جمع أخي سراج كل هذه المعاني وزيادة.»
ومما لا شك فيه أن أعظم إرث لهذا العَلَم هو آلاف الطلبة الذين عمل على رعايتهم وتنشئتهم طيلة حياته، ولاسيما قلوب أولئك الشباب المسلم الذين صاروا متمسكين بدينهم نتيجة المعرفة الصحيحة التي تلقوها منه. حيث سيواصل هؤلاء بإذن الله تعالى حمل مشعل الحفاظ على الدين الإسلامي بمعية مجموعة من الطرق الصوفية المنتشرة في جنوب إفريقيا.
الطرق المعاصرة
خلال السنوات القليلة التي تلت نهاية الميز العنصري في جنوب إفريقيا بوقت قصير، اتجهت مجموعة من شيوخ وأساتذة التصوف إلى هناك، فنشأ ما يمكن تسميته بنوع من «النهضة الصوفية» في البلاد. ويكمن تفسير جزء من أسباب نجاح هذه الطرق واستمرار الممارسة الصوفية من طرف مسلمي جنوب إفريقيا بمسألة غنى الموروث الصوفي وكذا نهج المقاربة الصوفية للإسلام من طرف المسلمين الأوائل هذا دون إغفال الدور الذي لعبته الزاوية في حفظ وصون التقاليد الصوفية من خلال جهود التلقين والتعليم. وفيما يلي نبذة مختصرة عن مجموعة من الطرق الصوفية وأنشطتها المتواصلة في جنوب إفريقيا.
المرابطون
يعد المرابطون المنتمون إلى القادرية والشاذلية والدرقاوية من المتصوفة الذين نشأوا في جنوب إفريقيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي على يد الشيخ عبد القادر الصوفي، الذي اعتنق الإسلام ودرس على يد الشيخ المشهور محمد بن الحبيب في مدينة مكناس المغربية. وقد انتسب الشيخ عبد القادر إلى الطريقة الدرقاوية على يد الشيخ محمد بن الحبيب والشيخ محمد الفيتوري من مدينة بنغازي بليبيا. كما قام الشيخ عبد القادر بتأسيس مسجد الجمعة بمدينة كيب تاون، حيث يعقد المرابطون بصفة منتظمة مجالس للذكر يقرؤون فيها من ديوان الشيخ محمد بن الحبيب. أما الموسم السنوي للطريقة فيحضره المئات من الضيوف المنتسبين للطريقة والمهتمين بها سواء من داخل أو خارج البلاد. وتعتبر السيدة عائشة عبد الرحمن بويلي من أحد تلامذة الشيخ عبد القادر. فقد قامت بترجمة عدة مؤلفات إلى الإنجليزية، كموطأ الإمام مالك، وكتاب الشفا للقاضي عياض، وتفسير القرطبي بالإضافة إلى ترجمة معاني القرءان الكريم بمعية زوجها عبد الحق بويلي. ويعد المرابطون من أتباع المذهب المالكي، كما أن لهم اهتماما كبيرا بمحو الربا وترميم الاقتصاد بناء على عمل أهل المدينة.
الطريقة الشاذلية القادرية
وصل الشيخ حازم أبو غزالة المولود في فلسطين إلى جنوب إفريقيا منتصف تسعينيات القرن الماضي، فانتسب إلى الطريقة الشاذلية، وصار شيخ الطريقة الشاذلية القادرية. وتشمل أنشطة طريقته تنظيم مجالس مكثفة للذكر وحلقات الحضرة. وقد ظل الشيخ لسنوات يؤم مريديه في صلوات التهجد من خلال قراءة عشرة أجزاء كل ليلة. كما أن للشيخ حازم أبو غزالة مجموعة من المريدين من داخل وخارج جنوب إفريقيا.
التيجانية
في سنة 1994م تم تأسيس فرع النياسين للطريقة التيجانية بمدينة كيب تاون. ومن السمات المميزة بوضوح للطريقة التيجانية في كيب هو انتشارها وسط مختلف الأعراق والأجناس في جنوب إفريقيا. وفي سنة 2002م، التحق الشيخ حسن سيسيه بمدينة كيب تاون، فأسس بصفة رسمية أول زاوية للتيجانية. وقد سميت الزاوية رسميا بزاوية فضيلة الشيخ حسن سيسيه. وتقع الزاوية في منطقة غوغولثو (Gugulethu)، وهي بلدة على مشارف وسط المدينة ويقطنها في الأصل السكان السود. وبعد قيام الشيخ حسن سيسيه بزيارتين للزاوية في سنتي 2002 و2003م، انضم المئات من السكان السود المعتنقين للإسلام في البلدة إلى الزاوية، كما انضم غيرهم من المسلمين المنتسبين للطريقة. «لقد اتخذت القيادة التيجانية خيارا متعمدا بتأسيس الزاوية الرئيسية في منطقة غوغولثو للفت انتباه السكان السود من جنوب إفريقيا إلى الإسلام والعمل على تنمية المجتمع المحلي في البلدة من خلال التعليم والأنشطة الإسلامية (S M Lliteras :224)». ولذلك فإن أعضاء الطريقة يجتمعون يوميا للذكر كما أنهم يلتقون أيضا أيام الجُمَع للاجتماع في حلقات ذكر الجمعة. ويعتبر الشيخ فخر الدين العويسي أحد مقدمي الطريقة في كيب تاون، كما أن التيجانية من الطرق الصوفية التي مازالت تجذب عددا من المريدين.
النقشبندية
على الرغم من كون الطريقة النقشبندية من الطرق الراسخة جذورها في المجتمعات الإسلامية بجنوب إفريقيا لقرون، فإن النمو الحقيقي المعاصر للطريقة لم يحدث إلا في سنة 1998م فصاعدا. ففي تلك السنة قام الشيخ هشام قباني، خليفة مولانا الشيخ محمد ناظم الحقاني من قبرص بتأسيس مؤسسة حقاني بكيب تاون بجنوب إفريقيا. ومن أهم الوظائف الأساسية للطريقة النقشبندية هي محاولة نشر الدين الإسلامي وخصوصا في المناطق الاقتصادية الفرعية التي تعاني من قلة الخدمات الدينية. ويتم ذلك بشكل أساسي من خلال بناء المساجد وصيانتها، وإدارة أنظمة التغذية وتلقين الإسلام، وتلاوة الذكر. وينتظم النقشبنديون في حلقات الأذكار الجماعية الأسبوعية في جميع أنحاء جنوب إفريقيا، وحلقات الذكر للشباب مرة في الشهر، وأيضا في برامج قصيرة للذكر لغير المسلمين كجزء من برنامج الدعوة الإسلامية. فهناك حوالي خمسة وعشرون برنامجا للذكر الأسبوعي الجماعي يتم خلالها الاجتماع إما بشكل أسبوعي أو شهري. كما ينتظم النقشبنديون مرة كل شهر في سبع وعشرين مجموعة لنشر رسالة الإسلام في المناطق المحرومة والمناطق شبه الاقتصادية في كيب الغربية. ويقوم بدور خليفة الطريقة الشاذلية كل من الشيخ شميل دا كوسطا (Shamil Da Costa) والإمام حسن وليلي (Hasan Walele).
باعلوية
تم إعادة إحياء الطريقة آل باعلوية في الوقت الحاضر بعد حقبة ما بعد الميز العنصري في جنوب إفريقيا من خلال زيارة الشيخ حبيب عمر من اليمن سنة 2010م. ويقوم الشيخ عمر حبيب بزيارة مريديه كل سنتين. وخلال مقامه بكيب تاون، يقوم الشيخ بجولة للمحاضرة، كما يؤم مريديه في صلوات التهجد، ويقومون بصحبة الشيخ والانتظام في حلقات مكثفة من الذكر.
ويرتبط هذا الفرع من الطريقة آل باعلوية بصلات وثيقة مع أعضاء الطريقة في تريم باليمن، حيث يسافر عدد من المريدين إلى تريم للدورة كل سنة. فيقوم بعضهم بالبقاء في تريم لمدة طويلة في أفق تحصيل المعرفة الشرعية والخضوع للتربية السلوكية. ويقوم بدور الخليفة لهذا الفرع من الطريقة آل باعلوية مولانا عبد الرحمان خان.
الفرع العلوي الحسيني النينوي من الطريقة الشاذلية
تم تأسيس هذا الفرع من الطريقة الشاذلية عقب زيارة الشيخ محمد بن يحيى النينوي في سنة 2010م، ويعتبر الشيخ من المجازين في مجموعة من الطرق. ويركز هذا الفرع من الطريقة على العلم والخدمة، كما يتبنى مبدأ «الحب للجميع ولا كراهية لأحد». وينتظم مريدو الطريقة في حلقات الذكر والأوراد الجماعية كل أسبوع، وتشمل تلك الحلقات تلاوة الصلوات وقراءة منظومة السيد الدردير. كما يحتفلون بالمولد النبوي الشريف كل سنة ويحتفظون بالموسم لأعضاء أهل البيت وعدد من الأولياء. كما يستفيد المريدون بشكل منتظم من زيارة شيخهم. وينتمي كاتب هذه المقالة لهذه الطريقة.
وقد قام الشيخ محمد بن يحيى النينوي بتأسيس معهد المدينة بكيب تاون، وهو مؤسسة معترف بها أكاديميا من طرف إدارة التعليم العالي في جنوب إفريقيا والتي تركز على تدريس الشريعة والتصوف.
خاتمة
إن التجربة والممارسة الصوفية المستمرة في جنوب إفريقيا نعمة إلهية. ومن خلال سرد التاريخ وتسليط الضوء على بعض المؤسسات والشخصيات المرتبطة بالتصوف في جنوب إفريقيا، يمكننا استلهام الكثير عن كيفية بناء مجتمعات ناجحة عازمة على اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. إن تاريخ مسلمي جنوب إفريقيا يوضح بجلاء كيفية توظيف التصوف في الصمود والنجاة من محنة القمع والاستغلال من قبل المستعمرين والحكام الظالمين. كما أن التصوف هو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها محاربة أولئك الذين يسعون لاستبداد المسلمين باسم الإسلام. إن الإساءة إلى الدين من قبل مرتكبي هذا العنف هو نتيجة فراغ روحي، لذلك وجب علينا ضمان الحفاظ على الطريق الوسط المبني على التوازن والتطهير من أجل نمو الإسلام وازدهاره.
المراجع
Bang, Anne K. Sufis and Scholars of The Sea: Family Networks in East Africa, 1860-1925. London: Routledge Curzon, 2003.
Bang, Anne K. Islamic Sufi Networks in the Western Indian Ocean (C. 1880-1940): Ripples of Reform, BRILL, 2014.
Da Costa, Yusuf. From social cohesion to religious discord: The life and times of Shaykh Muhammad Salih Hendricks (1871-1945). In: Yusuf Da Costa and Achmat Davids (eds). Pages From Cape Muslim History. Pietermaritzburg: Shuter and Shooter, 1994.
Da Costa, Yusuf. The influence of tasawwuf on Islamic practices at the Cape. In: Yusuf Da Costa and Achmat Davids (eds). Pages From Cape Muslim History. Pietermaritzburg: Shuter and Shooter.
Da Costa, Yusuf. The Holy Circle. Habibia Soofie Masjid. Centenary Magazine: A Spiritual Legacy of a Hundred Years. 59-60, 2005.
Davids, Achmat. The History of the Tana Baru. Cape Town: The Committee for the Preservation of the Tana Baru, 1985.
Dumbe, Yunus. Salafism and its Impact on Sufi Movements in the Cape Annual Review of Islam in Africa , Issue No. 10, Ghana, 2008-2009.
Gibson, Thomas. The legacy of Shaikh Yusuf in South Sulawesi. University of Rochester. https://www.academia.edu/3157832/THE_LEGACY_OF_SHAIKH_YUSUF_IN_SOUTH_SULAWESI.
Haron, Muhammad. Da’wah Movements and Sufi Tariqahs: Competing for Spiritual Spaces in Contemporary South(ern) Africa. Journal of Muslim Minority Affairs, Vol. 25, No. 2, August, 2005.
Hendricks, Seraj. Tasawwuf and Sufism: its role and impact on the culture of Cape Town.MA thesis, UNISA, 2005
Isaacs, Zoraida. The proliferation of Sufi orders in the greater Durban area. M.A theses. University of Kwa Zulu Natal, 2006.
Morton, Shafiq. From The Spice Island To Cape Town: The life and times of Tuan Guru, Awqaf South Africa, 2018.
Molins Llitera, Susana. A Path to Integration: Senegalese Tijanis in Cape Town. African Studies, 68, 2, August 2009.
Tayob, Abdulkader. Turning to the core: Sufism on the Rise? Annual Review of Islam in South Africa. Centre for Contemporary Islam: University of Cape Town. Issue No. 2: 11-3, 1999.
المقابلات
Ahmed, Mukhtar. Interview with Shaykh Seraj Hendricks, Tangiers, Morocco. 2013 (unrecorded)
Hendircks, Seraj. Living the Ihya in South Africa. Available at:
Morton, Shafiq. Interview with Shaykh Seraj Hendricks, 2018. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=MkrUHjhWC1c