
قبل الخوض في الموضوع، سأقدم للقارئ نبذة عن جمهورية مالي التي تُعتبر وليدة ثلاث إمبراطوريات إفريقية إسلامية، وهي: إمبراطورية غانة، وإمبراطورية مالي، وإمبراطورية سنغاي.
وتغطي هذه الإمبراطوريات مساحة شاسعة في غرب القارة الإفريقية، وكان لها دور كبير في نسج العلاقة مع الشعوب العربية، من خلال العلاقات التجارية عبر الصحراء؛ التي كانت تهدف في الأساس إلى نشر العلوم والثقافة الإسلامية بجنوب الصحراء الكبرى.
أولا: التعريف بجمهورية مالي
تقع جمهورية مالي في غرب إفريقيا، وهي دولة ساحلية صحراوية؛ إذ تغطي الصحراء الكبرى نصف شمالها، في حين تكثر الحشائش الخضراء في باقي أجزائها وخاصة القطر الجنوبي الغربي منها.
تحيط بها سبع دول وهي: السنغال من الغرب، وغينيا كوناكري من الجنوب الغربي، وساحل العاج من الجنوب، وبوركنا فاسو من الجنوب الشرقي، والنيجر من الشرق، والجزائر من الشمال، وموريتانيا من الشمال الغربي.[1]
وتحتل مساحة قدرها 1241238كم2، وتمتد بين خطي عرض (10-ْ25) شمالا، أي أن معظم أراضيها تقع ضمن النطاق السوداني، أما الجزء الباقي فيقع ضمن النطاق الصحراوي الذي يكون عادة بين خطي (18-ْ25)، ويقدر عدد سكانها بحوالي (20.25 مليون) عشرين مليون نسمة، حسب إحصائيات 2020م.
ومالي تسمى قبل الاستقلال بـ(السودان الفرنسي)، نسبة إلى الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد، وهذا الاصطلاح مقابل (السودان الإنجليزي) في الجزء الشرقي من القارة الإفريقية، نسبة إلى الاستعمار الإنجليزي الذي حكم تلك البلاد.
ونالت مالي استقلالها عن فرنسا بتاريخ: 22 سبتمبر 1960م، وكان (موديبو كيتا) (Modibo keita) أول رئيس لها بعد الاستقلال، وأُعلن عن جمهورية مالي بدلَ اتحاد مالي الذي كان قد وقع بين مالي والسنغال بتاريخ: 20 يونيو 1960م، لكن الاتحاد لم يدم طويلا سوى ثلاثة أشهر فحسب، نظرا لبعض الاختلافات في الرؤى السياسية بين البلدين، فعندئذ انحل وأعلنت كل دولة استقلالها وسيادتها[2].
ويتكون علم مالي من الألوان الثلاثة: (الأخضر، والأصفر، والأحمر). وشعارها: (شعب واحد، هدف واحد، عقيدة واحدة). ونشيدها الوطني منظَّم من قبل الكاتب والأديب المالي الراحل سيدو بجان كوياتي (Seydou Badian kouyaté).
ثانيا: الحياة الدينية في جمهورية مالي
يذهب كثير من الكتاب والمؤرخين إلى أن دخول الإسلام في مالي كان مع وصول الفاتح العظيم عقبة بن نافع في ولايته للمرة الثانية على المغرب سنة 62ه، أي في القرن الأول الهجري، في حين رأى آخرون أنه دخل فيها خلال القرن الخامس الهجري، ويمكن الجمع بين القولين بأن دخول الإسلام في القرن الأول الهجري كان في صفوف العامة، وأما انتشاره الفعلي فكان في القرن الخامس الهجري حين أصبح الإسلام دين الدولة والسلطان والأمراء والتجار، حيث حج كثير من السلاطين أمثال: بوري ماندى، وموسى جيغي، ومنساولي، وساكورا، وكانكو موسى، ومنسا سليمان، وأسكيا محمد الكبير، وهذا يُؤشر أن الإسلام كان في انتشار مستمر بفضل جهود بعض القبائل والتجار والدعاة.
وكان المذهب السني المالكي السائدَ في دولة مالي، وفي بلاد غرب إفريقيا عامة، وقد أشار إلى ذلك مانسا موسى في مصر أثناء رحلته الحجيَّة، مما دفعه إلى اشتراء بعض الكتب في فقه المالكية.
ويُقدّر عدد المسلمين في جمهورية مالي حاليا بنحو 95%، أما من حيث المذاهب الفقهية، فإن المذهب السني المالكي هو السائد والمهيمن، وكما تنتشر الطرق الصوفية بنسبة لا بأس بها، خاصة التيجانية والقادرية.
ويجدر بالذكر أن العوام من الماليين لا يتمذهبون بمذهب واحد بسبب الجهل الفقهي، فإذا كان الواحد منهم واثقا أنه ليس وهابيا يصعب عليه الإشارة إلى انتمائه الى إحدى الطرق التجانية أو القادرية…
ثالثا: التمذهب في مالي
يشير مصطلح “التمذهب” إلى اتباع مذهب فقهي معين في الإسلام، مثل المذهب المالكي أو الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو الجعفرية.أو غيرها من المذاهب الإسلامية الأخرى.
ويُعدُّ المذهب المالكي الأكثر انتشارًا بين المسلمين السنة في مالي. وإليكم تقسيمات التمذهب في مالي:
- من حيث العقيدة:
العقيدة الأشعرية: الأشعرية هي مذهب كلامي ينسب إلى أبي الحسن الأشعري، وقد انتشرت في العديد من المناطق الإسلامية، بما في ذلك غرب أفريقيا.
ويُعد المذهب الأشعري المذهب العقدي السائد في غرب إفريقيا، عليه غالبية المسلمين في مالي.
ويعود انتشار العقيدة الأشعرية في مالي إلى فترات مبكرة، من لحظة قدومه إلى المغرب الأقصى، وذلك نتيجة تأثر المنطقة بعلماء المذهب المالكي بشمال إفريقيا الذين كانوا بدورهم معتنقين للعقيدة الأشعرية.
العقيدة السلفية: ويطلق على أتباعها مصطلح (الوهابية) نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب.
العقيدة الشيعية الإمامية الجعفرية: وهم من أقليات الطوائف الإسلامية في مالي، وإن كان لهم نشاط في العاصمة وبعض الأقاليم، كإقليم سيكاسو
العقيدة الخارجية: وهم قلة قليلة في مالي ولهم وجود في عدَّة قرى من إقليم غاو وزعيمهم الذي أسهم في نشرها في غاو يُدعى (سعيد إدريس)، وقد توفي حاليا، وله خليفة يقود جماعته.
عقيدة جماعة الحفاة: وهم الذين يحرمون كل ما هو مستورد من الغرب؛ لكن يتسمون بالسلامة، والتعايش السلمي. ولهم تناقضات في تكيف أفكارهم مع الواقع أحيانا.
- من حيث الفقه المذهبي:
فقه مالكي، وهو المذهب الفقهي الأكثر انتشارا في مالي، ويمثلها الأغلبية الساحقة.
فقه حنبلي، وفد إلى مالي مع ركب المتخرجين من الدول التابعة لهذا المذهب، وله انتشار، في مناطق عدة، وإن كان العمل بالمذهب المالكي في الغالب.
فقه جعفري شيعي، يُعد من أبرز التحديات المذهبية إذ يزداد الإقبال عليه بشكل لافت في هذه الآونة الأخيرة؛ بسبب المؤسسات التعليمية والحوزات العلمية الشيعية التي فتحت أبوابها في الدول لاستقطاب طلبة العلم، بالإضافة إلى توفير المنح لمواصلة دراساتهم الجامعية والعليا في الجامعات الشيعية الإمامية.
فقه أحمدي، وهم الأحمدية القاديانية، سُجلت رسمية عام 2004م.
فقه خارجي، وهم فئة قليلة من سكان شمال مالي.
- من حيث الطريقة السلوكية :
الطريقة القادرية: هي أم الطرق الصوفية في إفريقيا، وأبرز بوابات الإسلام إلى إفريقيا، حيث إن من الأفارقة من لم يعرفوا الإسلام إلا من خلال القادرية وعلمائها ودعاتها وزواياها والتجار المنتمين إليها، وهي أقدم وأوسع الطرق الصوفية انتشارًا في العالم الإسلامي، وأغلبهم في مناطق الشمال تمبكتو وأروان، وهم الكنتيين أو البكائية نسبة إلى الشيخ سيدي أحمد البكاي الكنتي رحمه الله ت 920ه
الطريقة التيجانية: لقد مثَّل الغرب الإفريقي الحاضنة المثلى والمنشأ الثاني والمستقر الأبرز للطريقة التجانية بعدما استقر في مدينة فاس المغربية، ودخلت التجانية إلى إفريقيا الغربية عبر بوابات ورموز ومشايخ متعددين، أبرزهم الشيخ محمد الحافظ بن حبيب الله العلوي الشنقيطي (توفي 1831) الذي كلَّفه الشيخ سيدي أحمد التجاني (توفي في سبتمبر/أيلول 1815) بنشر الطريقة في الغرب الإفريقي، وصار سنده في الطريقة التجانية المعروف بالسند الحافظي، وعن العلوي الشنقيطي أخذ جُلُّ علماء ومقدمي الطبقة الأولى من أشياخ التجانية في الغرب الإفريقي، لها فروف في مالي أهمها:
الطريقة الحموية: التي استقرت في مدينة «انيور» بمالي، وما زال خليفة الشيخ محمدو بن الشيخ حماه الله يحظى بتأثير روحي واجتماعي قوي. وطرق إصلاحية أخرى توجد بإقليم سيغو وسيكاسو.
والتقريب بين المذاهب الإسلامية تعني توحيد كلمة المسلمين والاحتفاظ بالأخوة الإسلامية والتحاب والتعاون على البر والتقوى والاحتراز عن كل ما يوجب الفتنة والافتراق.
وأوّل مَن أراد للمسلمين الوحدة والاخوة في إرادة تشريعية هو اللّه سبحانه حيث أمرهم في أكثر من آية من الذكر الحكيم بالاعتصام بحبل الله ونهاهم عن التفريق والتباغض، فقال: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) والنبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلّغ رسالة اللّه ودعا الأمّة إلى اتباع أمر اللّه في الاعتصام بالوحدة وتوحيد الكلمة والتحاب ونهى الناس عن التقاطع والتنازع والخلاف، فقال: “لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباداً الله اخواناً كما أمركم اللّه” ومن وصاياه (صلى الله عليه واله وسلم) في خطبته المشهورة التي ألقاها في مِنى في حجّة الوداع، أن قال: ” أيها الناس انّ دماءكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، أيها الناس انما المؤمنون اخوة، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلاّ عن طيب نفس (نفس منه) فلا ترجعنّ (بعدي) كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فإنّي قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد”.
والناظر في هذه الآيات والروايات يعلم أنَّ اللّه سبحانه لم يرد من عباده توحيد التفكير ومماثلة الإنتاج الفكري والعقلي، لأنّ هذا يعتبر محالا لأنّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، وأنّ أفراد البشر يختلفون في الإدراكات العقلية، ولم تظهر على ساحة الحياة البشرية الصنائع والبدائع وتسخير قوى الكون والسفر إلى الفضاء والهبوط على سطح القمر والكواكب الأخرى إلاّ بالاختلاف في العقول والأفكار وتفاوت درجات الذكاء وبُعد النظر إلى الأشياء وكذلك في ميادين العلوم الأدبية والدينية والفلسفية.
وختاما يمكن القول: إن الدين في مالي يُظهر تنوعًا وتفاعلًا مع الموروث الثقافي المحلي، مما يعكس غنى المجتمع المالي وتعدد هوياته كما يُعتبر الإسلام جزءًا أساسيًا من هذا النسيج الثقافي، مع احترام للديانات الأخرى والتعايش السلمي بينها.
هذا التعايش يعكس قدرة المجتمع المالي على الحفاظ على هويته الدينية والثقافية في مواجهة التحديات المعاصرة.
كما يمكن القول: إن العقيدة الأشعرية تعتبر جزءاً من الهوية الدينية والثقافية في مالي، حيث تمثل المذهب العقدي السائد ويؤدي دوراً في الحفاظ على الوسطية والاعتدال في الأمور الدينية.
[1]– انظر كتاب جغرافية مالي، ليعقوب دوكوري، المكتبة الإسلامية، ط1، 1999م، مالي-بماكو-، ص: 5.
[2]– Adama Ba Konare, Panorama Historique, Revue Notre Librairie, Littérature Malien, N 75- 76 Juillet- Octobre 1984, P.26
عبد الله الحسين ميغا