ندوات ومحاضراتslider

الطيب لمنوار: الفقه العملي بالمغرب جسد وعيًا دينيًا وتفاعلًا مع الواقع

ألقى الطيب لمنوار، أستاذ الفقه بمؤسسة دار الحديث الحسنية ومنسق اليوم الدراسي، كلمة افتتاحية خلال اليوم الدراسي العلمي الذي نظمته المؤسسة صباح الأربعاء 15 أكتوبر 2025، حول موضوع: «الفقه العملي بالمغرب: خصائصه ومجالاته – الفتوى، التشريع، القضاء».

وأشار المنسق إلى أن “الفقه العملي المغربي” يميز المجتمع المغربي منذ قرون، حيث رسخ وعياً دينياً متجذراً لدى عامة الناس، وأصبح المغاربة يتفاعلون بإيجابية مع فتاوى الفقهاء ويلتزمون بها. وذكر مثال “فتوى الفقيه التونسي أبي القاسم البرزلي” حول العقوبة المالية، وكيف أيدها كبار فقهاء المغرب واعتمدها السلطان محمد السعدي تطبيقًا للعدالة الشرعية، وهو ما يعكس التفاعل الواقعي للفقه مع المجتمع.

وأكد المنسق أن هذا النمط من الفقه يمثل “جسرًا بين النصوص الشرعية والواقع العملي”، ويساهم في حل المشكلات المعاصرة، منوهًا بفوائد “فقه العمل” في إنعاش الاجتهاد المالكي، كما أشار إلى إشادة الباحثين الغربيين بفطنة الفقه المغربي في معالجة القضايا العويصة.

كما أبرز الطيب لمنوار “إسهامات مؤسسة دار الحديث الحسنية” في خدمة الفقه العملي، من خلال إنجاز أطروحات أكاديمية رائدة، وتنظيم ندوات ولقاءات علمية، ليكون اليوم الدراسي منصة لتبادل الخبرات بين أساتذة جامعيين وفقهاء وقضاة، فضلاً عن باحث دولي من كلية الإلهيات بإسطنبول لمناقشة التحديات المعاصرة للعلوم الإسلامية.

واختتم المنسق كلمته بالتأكيد على “تقدير جهود الأساتذة والطلبة والعاملين بالمؤسسة”، داعيًا الله أن يكلل هذا اليوم العلمي بالنجاح، ويكون مساهمة فاعلة في تطوير الفقه العملي المغربي.


وفيما يلي النص الكامل لكلمة الطيب لمنوار

بسم الله الرحمن الرحيم وبه تعالى نستعين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ــ سعادة السيد مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية

ــ السيدان المديران المساعدان

ــ السيد الكاتب العام

ــ السادة العلماء الأفاضل

ــ السادة المشاركون الفضلاء

ــ السادة القضاة والمحامون وممثلو الهيئات المهنية والمصالح الإدارية

ــ زملائي الأساتذة

ــ الطلبة الأعزاء

ــ  االحضور الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، يسعد اللجنةَ العلميةَ الساهرةَ على تنظيم هذه المأدبة الفقهية الأصيلة، أن ترحب بكم ترحيبا يليق بمقامكم ويقدر مكانتكم، شاكرةَ لكم تلبية الدعوة، وحضور أعمال هذا اليوم الدراسي المشهود.

 أيها الجمع الكريم: لقد كانت الحاجة ملحة، والدواعي قائمة لترتيب هذا اللقاء؛ فإدارة مؤسسة دار الحديث الحسنية بحكامتها وحكمتها بإشراف فضيلة الأستاذ المقتدر الدكتور عبد الحميد عشاق، ما فتئت تدعو هيئة التكوين والبحث العلمي إلى عقد لقاءات علمية ودورات تكوينية، وتنظيم أنشطة أكاديمية داعمة للدروس النظامية التي يتلقاها طلبة المؤسسة وخادمة لها؛ لبناء ما يلزم من الكفايات، والنهوض بشريف المهام الموكولة إليها، والمتمثلة في التكوين المتين، الجامع بين جودة استيعاب مضامين العلوم الشرعية، والتحكم في منتوج التراث الإسلامي الأصيل، وحسن الانفتاح على العلوم الإنسانية والثقافات الدينية المعاصرة واللغات الحية.

وفي ضوء هذا التوجه الواضح ينعقد هذا المجمع العلمي الهادف؛ انسجاما مع الدور المنوط بمؤسسة دار الحديث الحسنية في تأطير البحث العلمي المرتبط بمجال الفقه المالكي على وجه الخصوص، حيث وقع الاختيار على موضوع: (الفقه العملي بالمغرب: خصائصه ومجالاته) لما يمثله من الخصوصية المغربية على مستوى الإفتاء والقضاء والتشريع؛ لا سيما أنه كان ومازال محل اهتمام العلماء والحكام وأصلَ القوانين والأحكام، وقد أشاد به العلامة المغربي  الفقيه سيدي عبد الله محمد المهدي الوزاني ( ت 1342هـ) في سياق حديثه عن تحديد مضمون كتابه “النوازل الجديدة الكبرى” فقال في مقدمته وهو يبين الجانب الأفضل في علم الفقه “ولما كان أفضلُه هو النوعَ الذي يدور عليه القضاء والفتيا؛ إذ به يَتوصل المرءُ في الدارين إلى كل مرتبة عليا وهو المنهج القويمُ الذي يَستبصر به الحكامُ والقسطاسُ المستقيمُ الذي يُفزَع إليه لإقامة الأحكام، وهو عمدة الدين وحافظ نظام المسلمين[1].

وليس بخاف على كريم علمكم أن الفقه العملي المالكي رسخ وعيا دينيا متجذرا في قلوب المغاربة؛ إذ بسببه أضحى عامتهم قبل خاصتهم يبجلون العلماء ويتقبلون فتاوى الفقهاء ويلتزمون بمقتضياتها. ويعد المغاربة من أكثر شعوب المنطقة تحليا بهذه الخصلة الفريدة. ومن أوضح ما يفصح عن خصلة التفاعل الإيجابي والتجاوب التلقائي للمغاربة مع فتاوى الفقهاء؛ تعاملهم مع فتوى الفقيه التونسي أبي القاسم البرزلي القيرواني (ت844هـ) المتعلقة بجواز العقوبة بالمال؛ وذلك بتغريم الجاني قدرا من المال على سبيل التعزير والتأديب ردعا للجناة. ذلك أنه لما أفتى أبو القاسم البرزلي بهذه الفتوى بتونس، أثار حفيظة الفقهاء والعوام، واتهموه بخرق الإجماع ومخالفة مشهور المذهب، وتصدى لهذه الفتوى بعض الفقهاء بالنقد والرد ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد الشماع الهنتاتي (ت833هـ) في رسالة بعنوان “مطالع التمام ونصائح الأنام ومنجاة الخواص والعوام في رد القول بإباحة إغرام ذوي الجنايات والإجرام زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام”.[2]  

ونظرا لكون الثقافة الشرعية عند عامة المغاربة مختلفةَ عن ثقافة أهل القيروان بسبب تأثير الفقه العملي في الفتوى في وقت مبكر، فقد رحب المغاربة بفتوى البرزلي أعلاه، بعد أن خابرها واختبرها وصدق عليها كبار فقهاء المغرب أمثال:

ــ العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد الهبطي الصنهاجي الطنجي (ت963هـ)

ــ الفقيه أبو القاسم بن علي بن محمد بن خجو الخلوفي الحساني (ت956هـ)

ــ الفقيه أبو عمران موسى بن علي بن موسى الوزاني (ت970هـ)

ــ أبو حامد محمد العربي بن يوسف بن محمد الفهري القصري الفاسي (ت1052هـ)

ولم يكن للسلطان محمد السعدي من خيار حينئذ إلا اعتماد فتوى البرزلي؛ استجابة لطلب علماء جامعة القرويين الخالدة الذين كانوا يطوفون بالقبائل ويدعون عامة الناس ويقنعون  رؤساء القبائل بالأخذ بمضمون الفتوى.[3] 

أيها السادة الفضلاء والسيدات الفضليات، إن الفقه العملي بمعناه العام هو نمط من الفقه الإسلامي يستجيب للواقع ويتفاعل معه، سواء كان الحكم الفقهي مستمدا من نصوص الشريعة وفق القواعد الأصولية المعروفة أو كان ناتجا عن اجتهاد فقهي خارج القواعد المألوفة؛ مثل مسائل العمل التي أفتى بها متأخرو فقهاء المغرب؛ درءا للمفاسد وحلا للمشاكل المستعصية.

 وهذا الفرع الأخير من الفقه العملي الموصوف بما جرى به العملُ يشكل فرادةَ فقهيةَ مغربيةَ اعتبرها الأستاذ علال الفاسي رحمه الله  “من أطرف ما اهتدى إليه فقهاء المغرب”.[4]  وعدها الأستاذ عبد السلام العسـري -أطال الله عمره- سببا من أسباب رفع الجمود عن الفقه المالكي حيث قال: “إن فقه العمل هو الذي بعث الحيوية والشباب في الفقه لأنه بعدما سُد باب الاجتهاد المطلق وأخذ الجمود يتسرب إلى ميدان الفقه قام الفقهاء في الأندلس والمغرب عن طريق نظرية العمل بإبعاد ذلك الجمود”.[5]

وقد أثنى عليه كذلك المنصفون من غير المسلمين، حيث قال أحد الباحثين الفرنسيين إبان فترة الحماية الفرنسية: “إن الفقه المالكي ولا سيما في المغرب قد بلغ إلى الذروة من الأصالة والشمول وذلك من طريق مسائل العمل التي برهنت عن تفتح العقلية الفقهية المغربية، وأنهم بسبب ذلك قد حلوا مسائل عويصة كما في مسألة بيع الصفقة… “[6]

ومما يتعين تأكيدُه في مستهل هذا اللقاء الأكاديمي الرفيع أمران:

الأول: أهمية وقيمة الفقه العملي في تاريخ المغرب، ورهانه في السياق المعاصر.

الثاني: تثمين رصيد مؤسسة دار الحديث الحسنية في خدمة هذا الفن الفقهي الأصيل؛ فعلى مستوى الأبحاث المنجزة في الموضوع؛ أنجزت أطاريح رائدة في الفقه العملي؛ منها:

ــ أطروحة العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب وقد قامت مؤسسة دار الحديث الحسنية بإعادة نشرها وإخراجها،
ــ أطروحة نظرية الأخذ بما جرى به العمل بالمغرب في إطار المذهب المالكي ،…وغير ذلك كثير

 وأما على مستوى الأنشطة العلمية الموازية، فقد نظمت المؤسسة ندوات ولقاءات علمية عديدة، بعضها في صلب الفقه العملي وأخرى في موضوعات خادمة له، وكان آخرها الندوة الدولية المتعلقة بالنوازل الفقهية عند المالكية تأصيلا وتطبيقا، في شهر مارس سنة 2017.

وتتطلع مؤسسة دار الحديث الحسنية ــ وهي تنظم هذا اليوم الدراسي ــ إلى  مواصلة جهودها في  خدمة الفقه العملي على المستوى الأكاديمي، ومدارسة سبل النهوض به حتى يكون جسرا واصلا بين النسق الشرعي والنسق القانوني المغربي تحت مظلة إمارة المؤمنين؛ إحياء لمنهج علماء القرويين في الإفتاء والقضاء من جهة، وحفاظا على النظام العام الذي من أجله جاءت الشريعة الإسلامية وصيغت القوانين الوضعية من جهة أخرى.

 وسعيا إلى إبراز خصوصية الفقه العملي بالمغرب، تم استكتاب صفوة من الباحثين المغاربة من جهات علمية متنوعة ومتكاملة، تضم أساتذة جامعيين وفقهاء المجلس العلمي وقضاة من محكمة النقض وهيئة الدفاع. كما يستضيف هذا اليوم الدراسي باحثا مرموقا من كلية الإلهيات بإستنبول مهتما بالإشكاليات والتحديات التي تمثلها العلمنة والحداثة بالنسبة للعلوم الإسلامية.

وإذ نقدر جهود الأساتذة الفضلاء المشاركين ببحوثهم العلمية ونعتز بمقامهم ونفخر بإسهاماتهم، كل في مجال تخصصه، نقدر أيضا جهود كل من أسهم من قريب أو بعيد في إعداد هذه المأدبة العلمية، وأخص بالذكر أساتذة المؤسسة وموظفي وموظفات المصالح الإدارية.  

كما نقدر بفخر واعتزاز مواظبة طلبتنا الأعزاء، وتفاعلهم مع هذا العرس العلمي المنعقد في هذا اليوم الأغر، الذي نأمل أن يكون يوما مشهودا وسعيا مشكورا لمؤسسة دار الحديث الحسنية العامرة، سائلين المولى جل علاه أن يكلل أعمالنا بالنجاح، والله من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


  [1] النوازل الجديدة الكبرى 1/14

[2]  تحقيق عبد الخالق أحمدون: ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية سنة 2003

[3]  (نوازل العلمي تحقيق المجلس العلمي بفاس 3/154).

[4]  شرح قانون الزواج المغربي حماد العراقي صفحة 48

[5]  نظرية الأخذ بما جرى به العمل بالمغرب في إطار المذهب المالكي 110

[6]  نظرية الأخذ بما جرى به العمل: ذ. عبد السلام العسري صفحة 108 نقلا عن مجلة العربي عدد 152 صفحة 23

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى