آراءslider

المذهب بوصفه منظومة فكرية: ملامح من التفاعل بين الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية – بقلم محمد الريوش

مع توسّع التعليم الديني في الزوايا والمدارس، اكتمل لنا ما يُعرف بالثلاثية المغربية: العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والتصوف الجنيدي. وقد تجسّد هذا النسق في منظومة ابن عاشر (ت 1040هـ) التي لخّصت جوهر التدين المغربي والمغاربي


الدكتور محمد الريوش

يشكّل التفاعل بين الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية في المغرب إحدى الظواهر المميّزة في تاريخ الفكر الإسلامي، إذ يعكس مسارًا طويلًا من التلاقي بين منهجين متكاملين: منهجٍ فقهيٍّ يعنى بتنظيم السلوك وضبط الحياة العملية، ومنهجٍ كلاميٍّ يروم صون الإيمان وتنزيهه عن مظاهر الغلوّ والتجسيم.

وقد أفضى هذا التفاعل إلى بناء منظومة فكرية تؤسس لتديّن مغربي اتّسم بالاعتدال والوسطية والتوازن بين الظاهر والباطن، وبين مقتضيات الشريعة ومجالات النظر العقلي. وبهذا المعنى، لم يكن الائتلاف المالكي/الأشعري مجرد اتفاقٍ مذهبي عابر، بل كان نموذجًا حضاريًّا لإدماج العقل في خدمة النص، وصياغة متواصلة لهويةٍ دينيةٍ عقلانيةٍ وهادئة.

وإذا تأملنا المسار التاريخي لهذا الائتلاف، وجدناه ظاهرةً نشأت في تفاعلٍ بين المشرق والمغرب، ولم تقتصر على المجال المغربي وحده. فقد نشأ الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) في بيئةٍ سنّيةٍ يغلب عليها فقه مالك والشافعي، وكان هو نفسه – كما نصّ القاضي عياض – على مذهب مالك في الفروع.

يقول عياض في ترتيب المدارك: “ذكر محمد بن موسى بن عمران في رسالته أنه كان مالكيا… حتى لقيت الشيخ الفاضل رافعاً الحمال الشافعي، فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن كان مالكيا”. ويؤكد ابن عساكر بدوره هذا الانتماء بقوله: “وكان في مذهبه مالكيًّا على مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه». ومع القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403هـ) – وهو من كبار فقهاء المالكية – أخذت المدرسة الأشعرية طابعها المنهجي الدقيق، إذ هذّب طريقة الأشعري وأرسى مقدماتها العقلية في الدفاع عن عقائد أهل السنة، وربط بينها وبين التقعيد الأصولي الذي سيغدو لاحقًا أساسًا للمدرسة المالكية في الأندلس والمغرب. ومن خلال مؤلفاته الكبرى مثل التمهيد والإنصاف، أسّس الباقلاني صلةً وثيقة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه، فصار منهجه البرهاني مصدر إلهامٍ لعددٍ من أئمة المالكية في الغرب الإسلامي.

وانتقلت الأشعرية إلى المغرب عبر القيروان، مركز فقه مالك الأثير، فوجدت هناك بيئةً علميةً خصبة لاستقبالها. وكان أبو عمران الفاسي (ت 430هـ) من أبرز من بسط هذا التفاعل بين الفقه والعقيدة في حلقات القرويين، إذ نظر إلى العقل بوصفه أداة لفهم النصوص وإدراك مقاصدها، لا خصمًا لها. ومعه بدأت الملامح الأولى لائتلافٍ منهجيٍّ يُدرَّس فيه فقه المدينة في ضوء عقيدة التنزيه الأشعرية. ثم جاء أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) — الذي نهل من تجربة  شيخه الغزالي في المشرق؛ ليجسّد هذا التفاعل في مؤلفاته، خاصة العواصم من القواصم والقبس في شرح الموطأ، حيث جمع بين التحقيق الفقهي والنظر العقلي، وجعل الاجتهاد وسيلةً لخدمة النصّ لا لمعارضته.

وفي القرن التاسع الهجري، أعاد محمد بن يوسف السنوسي (ت 895هـ) بناء النسق الأشعري على أسسٍ منطقيةٍ دقيقة، فصاغ العقيدة الكبرى والصغرى بوصفهما مدخلين نظريين للعقل الفقهي في فهم التكليف ومقاصد الشرع.

ومنذ ذلك الحين، صارت العقيدة تدرَّس إلى جانب الرسالة ومختصر خليل في الزوايا والمدارس، في تكاملٍ تامٍّ بين النظر والعمل. وتجلّى أثر هذا الائتلاف في عادة إدماج مباحث الاعتقاد داخل المؤلفات الفقهية، سواء في مقدماتها كما في الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، أو في الأبواب الجامعة كما في الذخيرة للقرافي، مما يدل على أن المالكية اعتبروا العقيدة أساسًا لضبط الممارسة الفقهية.

ومع توسّع التعليم الديني في الزوايا والمدارس، اكتمل لنا ما يُعرف بالثلاثية المغربية: العقيدة الأشعرية، والفقه المالكي، والتصوف الجنيدي. وقد تجسّد هذا النسق في منظومة ابن عاشر (ت 1040هـ) التي لخّصت جوهر التدين المغربي والمغاربي في قوله:

في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك

لقد تحوّلت هذه المنظومة – بلا منازع – إلى ميثاقٍ تربويٍّ يُدرّس في التعليم الشرعي، يجمع بين الإيمان والعقل والسلوك، ورسّخ ميّارة الفاسي (ت 1072هـ) هذا الترابط في شرحه الدر الثمين والمورد المعين، مؤكدًا أن الفقه والعقيدة والتصوف ليست علومًا متجاورة، بل أركان لعلمٍ واحدٍ هو علم الدين.

وفي القرن الحادي عشر الهجري، قدّم الحسن اليوسي (ت 1102هـ) قراءةً عقليةً جديدة لهذا الائتلاف، فجمع في مؤلفاته القانون في أحكام العلم والعمل والمحاضرات بين الميراث المالكي القائم على المصلحة والمقاصد، والميراث الأشعري الذي يضبط النظر بالبرهان ويحدّ من الغلو في التأويل. وقد نقل اليوسي التفاعل بين المذهبين من حقل التعليم إلى حقل الفكر الاجتماعي والسياسي، فصار مبدأ التوازن بين السلطتين العلمية والعقلية من ركائز الحياة الدينية المغربية.

ومع اتساع تأثير المغرب جنوبًا، امتد هذا النموذج إلى ربوع إفريقيا، حيث أصبحت مدارس تومبكتو وبلاد الهوسا وتكرور تدرّس العقيدة السنوسية إلى جانب الفقه المالكي، وتستند إلى هذا النسق في تربية النشء وإصلاح المجتمع. وهكذا غدا الإسلام الإفريقي امتدادًا للمنظومة المغربية في الجمع بين النظر والعبادة، وبين وحدة الاعتقاد وتنوّع الاجتهاد.

أما في العصر الحديث، فقد حافظ هذا الائتلاف على روحه في أعمال مفكّرين مالكيين أشاعرة، أمثال محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393هـ) وعلال الفاسي (ت 1394هـ)، اللذين أعادا قراءة التراث في ضوء المقاصد والعقل العملي. فجعل ابن عاشور من المقاصد إطارًا منهجيًا للفهم والتجديد، بينما رأى علال الفاسي أن الاجتهاد المقاصدي هو الامتداد الطبيعي للروح الأشعرية في توظيف العقل لخدمة الوحي. ومن خلالهما استمر الائتلاف المالكي/الأشعري أساسًا لاستمرارية التدين المغربي وتوازنه، ومصدرًا لقدرته على الجمع بين الأصالة والاجتهاد، وبين الثبات العقدي والانفتاح العقلي، ليبقى هذا الائتلاف أحد أسرار وحدة الوجدان الإسلامي في الغرب الإسلامي وامتداده الإفريقي.

الدكتور محمد الريوش/ خريج مؤسسة دار الحديث الحسنية

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى