
من خلال الدراسة الميدانية الأثرية الفنية التي قمنا بها في مختلف ربوع المملكة المغربية، تبين أن قصيدة البردة حاضرة بقوة في النسيج العمراني المغربي، إذ نجد أبياتها منقوشة على الجبس والرخام والخشب في مختلف العمائر الدينية والمدنية، من مساجد وزوايا ومدارس وسقايات وقصور.

لاشك أن الدين حضارة تتجسد ماديا ومعنويا في اجتماع بشري تؤطره رؤية للعالم وقيم ليثمر علوما وخبرات وفنون، ولطالما اعتبر الدين باعثا على التمدين..
وكم لاحظ الأنثربولوجيون ومؤرخو الفن أن التعبيرات الدينية تشكل عنصرا أساسيا في مختلف مكونات العمران والحضارة لاعتقاد أصحابها أن لا معنى للتدين إذا لم ينغرس ثقافيا واجتماعيا في مختلف التعبيرات الحضارية والفنية، بحثا عن انسجام فكري وسلوكي بين المنظومات المرجعية والمعتقدات الدينية من جهة، وبين مختلف تعبيرات الفعل الإنساني في الزمان والمكان من جهة أخرى…
والباحث في تاريخ وآثار العمارة الإسلامية يلحظ حرص المهندس والفنان والحرفي والصانع في المجتمعات الإسلامية على بصم إبداعاتهم برموز تحيلها إلى أصولها المرجعية وتؤطرها ضمن أفق فكري وفلسفي يكسبها معنى الانتماء والتعبير الصادق عن روح المجتمع وقيمه.. نرى ذلك في عمارة المساجد والمدارس بشكل طبيعي، لكن أيضا في القصور والأبهاء والسقايات والأواني الخزفية والنحاسية ومختلف الأشياء التي تعتبر حاملا ماديا لروح الحضارة الإسلامية..
وقد ارتأيت في هذه المقالة أن أضرب مثلا لحضور المكون الديني في التعبير الفني من خلال تجسيد أبيات شعرية من بردة الإمام البوصيري رحمه الله في مختلف مكونات العمارة الإسلامية بالمغرب الأقصى… ويمكن القول، وفق منظور أنثروبولوجي، وبمنطق العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة والعمران، أن التاريخ الديني والسياسي والثقافي والعمراني للمغاربة لا يمكن فصله عن وجود سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيه..
يقول الدكتور زكي مبارك : أن لقصيدة البردة لشرف الدين البوصيري(608هـ/1211م-696هـ/1296م)، رحمه الله، أثر في تعليم جمهور المسلمين الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابا من السيرة النبوية، وعن البردة تلقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال، وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله[1].
لقد بنى البوصيري للشعراء بعده نهجا لا يضاهى بناؤه، ولا يدرك قراره ولا يتجاوز سقفه في عصر أدبي نعته النقاد بعصر الانحطاط، فجاءت البردة لتغيب وتمحو الصفة التي وسِم بها هـذا العـصر وتظهر إبداع رجاله وشعرائه، وصارت قمة ما أبدع في الشعر الصوفي والمديح النبوي. ولاشك أن صهر البلاغي العربي والمتخيل السردي الرمزي والصوفي في أسلوب البردة، تعبيرا عن تجربـةٍ شعريةٍ بأبعادها الدينية والذَّاتية والإنسانية، هو الذي بوأ البردة تفردها الأسلوبي، ومنحها قيمةً فنيةً وتـداولاً واسعاً بين عموم المتلقين.
ومن خلال الدراسة الميدانية الأثرية الفنية التي قمنا بها في مختلف ربوع المملكة المغربية، تبين أن قصيدة البردة حاضرة بقوة في النسيج العمراني المغربي، إذ نجد أبياتها منقوشة على الجبس والرخام والخشب في مختلف العمائر الدينية والمدنية، من مساجد وزوايا ومدارس وسقايات وقصور.
والراجح أن اقتباس أبيات من قصيدة البردة وتوظيفها في مدونة الكتابات لم يبدأ إلا مع السعديين، فلم يعثر عليها في الكتابات المرينية، وبالمقابل ستعرف هذه القصيدة حضورا كبيرا في تزيين المعالم خلال العهود الموالية[2]، ذلك أن نقش أبيات من البردة على المآثر التاريخية المغربية عرف أوجه خلال العصر العلوي، إذ جل ما أثبتناه في هذا الكتاب من نقائش البردة تنتمي إلى هذه الفترة. فواجهة مسجد الديوان بفاس الذي نقش عليه بيت : محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم، يعود إلى عهد المولى سليمان العلوي. والشريط المحاذي لسقف غرفة منزه المنارة بمراكش، الذي نقشت عليه أبيات من البردة يعود إلى عهد سيدي محمد بن عبد الرحمن. أما أبيات البردة المنقوشة في أماكن مختلفة من قصر الباهية بمراكش فتعود إلى عهد مولاي الحسن الأول. ومعلوم أن هذا السلطان كانت له علاقة خاصة ببردة الإمام البوصيري، مما حذا بالفقيه الأديب ابن الحاج أن ينظم مولديته التي مدح بها السلطان المذكور على وزن قصيدة البردة، علما منه أن السلطان الحسن الأول الذي خاض معارك كثيرة لإخماد الفتن التي قامت في بداية حكمه وتمكن من القضاء عليها، اعتنى ببردة البوصيري لما تقدمه له من دعم نفسي في مواجهة تلك المحن والتحديات.
ومما يؤكد مركزية البردة في حياة السلطان الحسن الأول جعله هذين البيتين بدائرة طابعه الشريف، وجعل هذين البيتين بدائرة الطابع له أكثر من دلالة، إذ يصبحان بمثابة الشعار والقناعة الراسخة بمحتواهما، كما يمكن اعتبارهما بمثابة رقية تحفظ صاحبها من كل منتقم[3]
ومن تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا الله حافظه من كل منتقم
وهذا البيت الأخير لا يوجد في النص الأصلي لبردة البوصيري ولا في الشروح المختلفة ، لكن أورده محمد اشماعو في شرحه لقصيدة البردة. وقد صار هذا البيت معروفا ومتداولا عند المغاربة، حتى اعتقد كثيرون أنه من نظم الإمام البوصيري، ولا أدل من انغراسه في التداول الصوفي والثقافي والفني المغربي من وجوده منقوشا ومكتوبا في العديد من المباني المعمارية بالمغرب. ويسوق المؤرخ الأثري عثمان عثمان إسماعيل خبرا مفاده أنه بزوايا طابع سيدي محمد الخامس، رحمه الله، نجد : الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي، وبدائرته :
ومن تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في آجامها تجم[4]
لقد جمع هذا الطابع الشريف بين حضور بردة البوصيري، مثل طابع مولاي الحسن الأول، بالإضافة إلى عناصر رئيسة في الحلية النبوية، في مزج قصدي مبارك يعكس ما تحقق في العمران المغربي، تراثا مخطوطا وفنونا تطبيقية.
ولقد بقي الاهتمام ببردة البوصيري في العمارة المغربية والفنون التطبيقية سائدا إلى وقت قريب، سنلاحظ ذلك في النماذج التي سقتها في هذه المقالة، وهي تبرز الحضور القوي لأبيات البردة في المآثر الدينية والمدنية بمختلف ربوع المملكة المغربية، ومعظمها من الفترة العلوية..

نبينا الآمر الناهي فلا أحد أبر في القول لا منه ولا نعم

محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم

محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم

من تكن برسول الله نصرته إن تلقاه الأسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا فالله حافظه من كل منتقم

محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ركنا غير منهدم

محمد سيد الكونين والثقلين والفريقين من عرب ومن عجم

من تكن برسول الله نصرته ان تلقه الأسد في آجامها تجم
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا الله حافظه من كل منتقم

من تكن برسول الله نصرته إن تلقه الأسد في آجامها تجم

من يعتصم بك يا خير الورى شرفا الله حافظه من كل منتقم.

بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركنا غير منهدم
وبيت ارتبط بالبردة في عرف المغاربة:
من يعتصم بك يا خير الورى شرفا الله حافظه من كل منتقم.
رحم الله الإمام البوصيري، وحفظ الله المغرب وأهله وحضارته وفنه وثقافته، ورحم الله أهل الفن والحرف الذين أبدعوا هذه النقوش والرسوم المباركة، والله الموفق للخير والمعين عليه.
[1] زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، القاهرة طبعة دار الشعب، 1971، ص 215.
[2] الحاج موسى عوني ، فن المنقوشات الكتابية، ص132.
[3] محمد فتح الله مصباح : بردة البوصيري وأثرها في الأدب العربي القديم، ص 417.
[4] عثمان عثمان إسماعيل، تاريخ العمارة الإسلامية، ج5، ص434.
د. جمال بامي، رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء



