آراءslider

مقترحات لتنزيل الحكم الذاتي بالصحراء المغربية   – بقلم محمد خياري

إنّ مقترح الحكم الذاتي، كما نصوغه هنا، هو دعوة إلى بناء مغرب جديد، يستند إلى تاريخه العريق، ويستجيب لمقتضيات العصر، ويحقق التوازن بين الوحدة والخصوصية. هو دعوة إلى أن نكون أوفياء لروح القايد والجماعة والقاضي والفقيه، لكن في صيغة حديثة، تستوعب المؤسسات الدستورية، وتستجيب لمطالب التنمية، وتحقق المشاركة الشعبية.


د. محمد خياري

إنّ الحديث عن الحكم الذاتي ليس انزياحاً عن الوحدة الوطنية، ولا هو استنساخ لتجارب شرقية أو غربية، إنما هو استعادة لروح مغربية أصيلة، متجذّرة في تاريخنا الطويل، حيث كان القايد والجماعة والقاضي والفقيه والمكلف بالمال… يشكّلون نواة تدبير محلي متوازن، يضمن الأمن، ويصون الحقوق، ويُبقي العلاقات الخارجية تحت إمرة السلطان. لقد كان ذلك النظام التقليدي، رغم بساطته، يعكس وعياً سياسياً واجتماعياً عميقاً، يقوم على التوازن بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، بين الوحدة والخصوصية، بين الانتماء العام والهوية الخاصة.

واليوم، ونحن أمام تحديات الدولة الحديثة، وفي ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية، يصبح استلهام هذا التراث ضرورة، لا مجرد حنين إلى الماضي. فالحكم الذاتي ليس تنازلاً، إنما هو تجديد في إطار الوحدة، وإبداع في إطار السيادة، وإعادة صياغة لعلاقة المركز بالأطراف على نحو يضمن الانسجام الوطني، ويحقق التنمية المحلية، ويصون الهوية الثقافية والروحية. فقد عرف المغرب عبر قرون طويلة نظاماً فريداً في تدبير مناطقه وقبائله. كان القايد بمثابة الحاكم المحلي، يمارس سلطة شبه مطلقة على قبائل متعددة، ويستعين بالقاضي في الفصل في النزاعات، وبالفقيه في الشؤون الدينية والفتوى، وبالمكلف بالمال في تدبير الموارد. وكان له قوة أمنية تخضع له مباشرة، تحفظ النظام وتردع المعتدين.

وكانت الجماعة تقرر في كل ما يهم المنطقة. لكن هذه السلطة المحلية لم تكن انفصالاً عن الحكم المركزي، إنما كانت جزءاً من منظومة أكبر، حيث ظل السلطان هو المرجع الأعلى، خاصة في العلاقات الخارجية، وفي إعلان الحرب والسلم، وفي حماية وحدة البلاد. هذا التوازن بين المحلي والمركزي هو ما منح المغرب قدرة على الاستمرار، رغم تعدد القبائل وتنوع الجغرافيا.

إنّ هذا النموذج التاريخي يثبت أنّ الحكم الذاتي ليس غريباً عن المغرب، إنما هو جزء من هويته السياسية، وأنّ العودة إليه في صيغة حديثة ليست خروجاً عن الوحدة، إنما هي تكريس لها. ففي عالم اليوم، حيث تتعقد العلاقات الدولية، وتتشابك المصالح الاقتصادية، وتتصاعد المطالب الاجتماعية والثقافية، يصبح من الضروري أن نعيد صياغة هذا النموذج التاريخي في إطار الدولة الحديثة.

الحكم الذاتي في الصحراء، مثلاً، ليس مجرد مطلب سياسي، إنما هو استجابة لواقع جغرافي وتاريخي واجتماعي. فالصحراء لها خصوصيتها الثقافية والقبلية، ولها امتدادها التاريخي في علاقة البيعة مع الملك، ولها حاجتها إلى تدبير ذاتي يضمن التنمية، ويصون الهوية، ويحقق المشاركة الفعلية للسكان في تقرير مصيرهم المحلي، دون المساس بالوحدة الوطنية.

على المستوى المركزي، أرى أن تبقى المؤسسات الوطنية الكبرى الضامن لوحدة البلاد وسيادتها كمثال :

  • القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية: تحمي الحدود، وتصون الأمن الوطني، وتبقى تحت القيادة المباشرة للملك.
  • المجلس العلمي الأعلى: يحافظ على المرجعية الدينية الموحدة، ويضمن انسجام الفتوى مع ثوابت الأمة.
  • المحكمة الدستورية: تسهر على احترام الدستور، وتراقب القوانين، وتضمن التوازن بين السلطات.
  • البنك المركزي: يدير السياسة النقدية، ويحافظ على الاستقرار المالي، ويضمن وحدة الاقتصاد الوطني.

هذه المؤسسات المركزية هي العمود الفقري للدولة، ولا يمكن أن تكون محل تفويض أو تجزيء، لأنها تمثل السيادة والوحدة.

 في إطار الحكم الذاتي، أقترح أن تُقام بنية جهوية متكاملة في الصحراء، تقوم على المبادئ التالية كمثال:

  • الحاكم الجهوي: ينتخب من الساكنة المحلية، ويُعيّن رمزياً من طرف الملك، ويحضر سنوياً مراسيم البيعة إلى جانب أعيان الأقاليم الجنوبية، في تأكيد على وحدة الانتماء الوطني.
  • الحكومة المحلية: يشرف عليها الحاكم الجهوي، وتدير شؤون التراب الذاتي في مجالات الأمن، الثقافة، الرياضة، الشؤون الاجتماعية، التجهيز، النقل، الفلاحة، الصناعة، التجارة.

إلى جانبه تحدث مؤسسات دستورية جهوية:

  • سلطة قضائية ذاتية، تفصل في النزاعات المحلية وفق القوانين الوطنية مع مراعاة الخصوصية الجهوية.
  • مجلس تشريعي ذاتي، يسن القوانين المحلية في إطار الدستور الوطني.
  • مجلس علمي ذاتي، يحافظ على الهوية الدينية والثقافية للمنطقة.
  • مجلس أعلى للحسابات ذاتي، يراقب المالية المحلية ويضمن الشفافية.

هذه المؤسسات الجهوية تمنح الصحراء قدرة على تدبير شؤونها بنفسها، دون أن تنفصل عن الدولة، وإنما في إطارها. لتبقى العلاقة بين المؤسسات المركزية والجهوية تقوم على مبدأ التكامل لا التنافر. فالمؤسسات المركزية تدير القضايا المرتبطة بالوحدة الوطنية: الدفاع، السياسة الخارجية، العملة، المرجعية الدينية العليا، الدستور. أما المؤسسات الجهوية فتدير القضايا المحلية: التنمية، الأمن الداخلي، الثقافة، الاقتصاد المحلي.

هذا التوزيع يضمن أن تبقى الدولة موحدة، وفي الوقت نفسه يمنح الجهة حرية واسعة في تدبير شؤونها، بما يحقق التنمية ويصون الهوية.

الفوائد المتوقعة لهذا المقترح الحكم الذاتي

  • تعزيز الوحدة الوطنية: الحكم الذاتي لا يعني الانفصال، إنما يعني مشاركة أوسع في القرار، مما يعزز الانتماء.
  • تحقيق التنمية المحلية: بفضل التدبير الذاتي، يمكن للجهة أن تستجيب مباشرة لحاجات سكانها، دون انتظار المركز.
  • صون الهوية الثقافية: الحكم الذاتي يسمح للجهة بالحفاظ على خصوصيتها الثقافية والدينية، في إطار الوحدة الوطنية.
  • تعزيز الديمقراطية: بانتخاب الحاكم الجهوي والمجالس المحلية، تتوسع المشاركة الشعبية، ويترسخ مبدأ الديمقراطية.
  • ضمان الاستقرار: الحكم الذاتي يخفف من التوترات، ويمنح السكان شعوراً بالمسؤولية والانتماء، مما يعزز الاستقرار.

إنّ مقترح الحكم الذاتي، كما نصوغه هنا، هو دعوة إلى بناء مغرب جديد، يستند إلى تاريخه العريق، ويستجيب لمقتضيات العصر، ويحقق التوازن بين الوحدة والخصوصية. هو دعوة إلى أن نكون أوفياء لروح القايد والجماعة والقاضي والفقيه، لكن في صيغة حديثة، تستوعب المؤسسات الدستورية، وتستجيب لمطالب التنمية، وتحقق المشاركة الشعبية.

الحكم الذاتي ليس تنازلاً، إنما هو تجديد. ليس ضعفاً، إنما هو قوة. ليس انقساماً، إنما هو وحدة أعمق. هو طريق إلى مغرب متجدد، قوي بوحدته، غني بتنوعه، راسخ في تاريخه، منفتح على مستقبله.

محمد خياري

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى