دراساتslider

التصوف الأندلسي مبادئه وأصوله -2

بدأت الحركة الصوفية في الأندلس بما كان من الطبيعي أن تبدأ به أي حياة زهدية بسيطة، وهو أمر لا يحتاج في نشأته إلى أن يكون متأثراً بعوامل خارجية، فقد احتفظت لنا كتب التراجم بكثير من أخبار أفراد رغبوا عن الدنيا واتجهوا إلى رياضات دينية قائمة على قواعد زهدية، وقد كان لهؤلاء مكانة عظيمة بين الشعب الأندلسي في تاريخه المبكر، وأول ما نجده من ذلك لدى بعض التابعين الذين دخلوا الأندلس وكان فيهم للناس قدوة صالحة، فمن أمثلة هذا ما يروى عن التابعي حنش بن عبد الله الصنعاني المتوفى في أوائل القرن الثاني من أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه، قرب إناء فيه ماء، فكان إذا وجد النعاس استنشق الماء حتى يظل يتلو من آي القرآن الكريم بقية ليله.

وقد كان من الطبيعي أن يتجه الكثيرون من أهل التدين في هذه الفترة المبكرة إلى الجهاد ضد نصارى الأندلس، كما يذكر عن نعمان بن عبد الله الحضرمي وكان يسكن برقة، فاتفق أن وفد بعد اشتراكه في غزو الأندلس هو وصاحب الخليفة الأموية سليمان بن عبد الملك ليبلغاه نبأ فتح مقدر للمسلمين، فسألهما سليمان حاجاتهم، أما محمد بن حبيب فذكر له عدة حاجات فقضيت، وأما نعمان فإنه قال للخليفة إنه ليس له حاجة إلا أن يرده إلى الثغر ليواصل الجهاد، وعاد نعمان إلى أقصى ثغور الأندلس حتى لقاه الله الشهادة وكان نعمان من أزهد الناس، كان يتصدق بعطائه كله حتى لا يبقى معه شيء ولا عليه ثوب ولا إزار.

ومن ممن نعرفهم من هؤلاء الصالحين الأندلسيين في خلال القرن الثاني الهجري ثلاثة يتحدث المؤرخون عنهم باعتبارهم عباد الأندلس: أولهم ميمون بن سعد، وقد كان موضع إجلال من أهل الأندلس حتى من نصارى المعاهدين، ذكر ابن القوطية من إخطاره أنه دخل على أرطباش بن غيطشة القوطي وكان يتصدر مجلسه على كرسي مصمد من الذهب، وكان لديه سادة العرب والموالي، فما أن رأى أرطباش الرجل الصالح حتى قام منه، ولكن ميمون أبى إلا الجلوس على الأرض فجلس أرطباش معه، وكان لميمون هذا ابن يسمى داود، يذكر ابن الأبار أنه كان واحد عصره نسكاً وزهداً، أما الزاهدان الثانيان فهما أبو الفتح الصدفوري وفرقد السرقسطي، وكانا صاحبين يرابطان معاً في ثغري سرقسطة وقلنبرية (التي تقع الآن في البرتغال) وتؤثر عن فرقد المذكور نبوءات حول الحرب التي دارت فيما بعد بين عبد الرحمن الداخل ويوسف بن عبد الرحمن الفهري وقد تحققت كلها على ما وصف.

وقد كانت رحلات الأندلسيين إلى المشرق مما أطلعهم على كثير من مظاهر الحياة الزوجية التي كان يحياها العباد والمتزهدون، وهكذا نرى في خلال القرنين الثاني والثالث صدى لهذه الحياة المتدينة مما سنعرض له أمثلة فيما يلي:

فعيسى بن دينار الفقيه الطليطلي الذي توفي سنة 212 ناشر مذهب مالك في الأندلس كان يذكر عنه أنه ظل أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، مما يدل على أنه كان يقضي الليل كله في العبادة والتهجد. وأبو العجنس القرطبي الزاهد لم يكن له طوال شهر رمضان إلا ثلاث أكلات من سبعة أيام إلى سبعة أيام ثم أكلة الفطر، وحفص بن عبد السلام السرقسطي تلميذ الإمام مالك أدام الصيام أربعين سنة، وكان الأمير الحكم يستقدمه كل عام في شهر رمضان لكي يؤم به، وخلف بن سعد القرطبي المتوفى سنة 305 كان يختم القرآن كل ليلة، وسعيد بن عمران القرطبي كان أبوه من التجار المياسير وكان في صباه منهمكاً في البطالة ثم تاب وتصدق بأكثر ماله ثم خرج للحج وتعبد حتى أصبح منقطع النظير في النسك والزهد، وسعدون بن إسماعيل الربى كان من الزهد والتقلل بحيث لم يتزوج ولا اشتغل بشيء من الدنيا طوال حياته، وأحمد بن يوسف بن مؤذن الوشقي أنفق أكثر ماله في استنقاذ أسارى المسلمين، فيذكر أنه فك من أسر العدو مائة وخمسين سبية.

وقد تزايد وجود مثل هذه الشخصيات في الأندلس ولا سيما بعد أن اشتغل بعض الرحالين من الأندلسيين إلى المشرق بجمع سير عبادهم وزهادهم، ولعل أول كتاب في ذلك يؤلفه أندلسي هو كتاب محمد بن وضاح المتوفي سنة 287 وعنوانه “العباد والعوابد” ولعله هو أول ما فتح قلوب الأندلسيين وأرواحهم إلى تلمس أخبار زهاد المشرق ومتصوفيه.

وفي هذا العصر بدأت معالم التصوف الأندلسي تتحدث شيئاً فشيئاً، فنحن نرى الشعب يتجه بكثير من الإجلال والتعظيم لهؤلاء الصالحين، فتردد عنهم أخبار تؤكد أنهم كانوا مستجيبي الدعوة، وتطور الأمر حتى بدأت نسبة الكرامات إليهم، وبدأت تسميتهم بالأبدال وأولياء الله.

ولعل من أول هؤلاء، الزاهد أيوب البلوطي الذي احتفظ لنا ابن سعيد في كتاب المغرب بخبر عنه يقول فيه: أن قاضي الجماعة بقرطبة مسرور بن محمد في أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط خرج بالناس لصلاة الاستسقاء فلما أتم خطبته قال: يا أيوب البلوطي عزمت عليك حتى كنت لتقوم، فلم يقم أيوب إليه إلا بعد أن أقسم عليه في الثالثة وقال: يا هذا، أشهرتني، أما كنت أدعو حيث أنا؟ ثم رفع القاضي رأسه فقال: اللهم إنا نستشفع إليك بوليك هذا، والح بالدعاء وكثر الضجيج والبكاء، فلم ينصرفوا إلا وأخذ يتهم في أيديهم من كثرة المطر، وطلب أيوب بعد ذلك فلم يوجد، ويؤثر عن أبي العنجس الزاهد الاستجي خبر يماثل ذلك ويقال إنه كان يركب آتان حتى يأتي مجشر حريش بقرب قرطبة فيطلق الآتان لترعى ويصلي إلى الصبح فلا يعدو عليها ذئب ولا غيره، فإذا أصبح عاد إلى منزله.

ويقال إن عبد الله بن عبد السلام بن قلمون القرطبي المتوفى في أواخر القرن الثالث أنه لقن العباد في المشرق وجاور بمكة فلم يزل على منهج الأبدال حتى لقي الله وهو بأرض الغربة. ويذكرون عن يوسف بن سليمان القرشي البطليوسي أنه كان مقرباً للثائر في هذه المنطقة على بني أمية عبد الرحمن بن مروان الجليقي، ثم سعى به إلى ابن مروان فهم بقتله، وأقبل يتدبر أمر اغتياله فما هو إلا أن وقعت في ذلك النهار سبع صواعق على بطليوس وقعت إحداهما في ركن مجلس ابن مروان الذي كان يجلس فيه فارتاع لذلك ارتياعاً شديداً وظن أنه نذير للذي هم به في الرجل الصالح فكف عنه.

وكان أبو وهب القرطبي على ما يذكر المترجمون له معروف الكرامات معدوداً في الأبدال، وقد ظل قبره في قرطبة مشهوراً يتبرك به حتى فتح النصارى قرطبة سنة 633 بشهادة ابن الأبار.

وكان قاسم بن ثابت السرقسطي ورعاً ناسكاً فارداً على أن يلي القضاء بسرقسطة فامتنع، وأراد أبوه إكراهه عليه فسأله أن يتركه يتروى في أمره ثلاثة أيام فمات في هذه الأيام سنة 302، ويقال إنه دعا الله أن يقبضه إليه فاستجاب دعوته.

أما لفظ “الأبدال” الذي أشرنا إلى شيوعه في هذه الفترة فلعله أول مظهر لدخول الاصطلاحات الصوفية المشرقية إلى الأندلس، ويقصد به هذا النفر من الرجال الصالحين الذين يقون العالم شر غضب الله ونقمته عند فشو الخطايا فيهم، ولعل من أول المباحث الإسلامية حول هذا اللفظ ما نراه فيما كتبه الجاحظ عنهم في رسالة التربيع والتدوير، وقد اختص الصوفية هذا الاصطلاح بكثير من الاهتمام، فأسهبوا في العصور المتأخرة في الحديث عن توزيعهم على الأجيال الزمنية وعلى الأقاليم السبعة وغير ذلك مما نرى تفصيله في الفتوحات المكية لابن عربي.

ومن هذه المظاهر كذلك إقامة أربطة صغيرة يقيم فيها النساك والعباد أفراداً وجماعات، للعبادة والتأمل، أو للجهاد والمرابطة، ويحدثنا الخشني في كتاب تاريخ قضاة قرطبة أن محمد بن بشير المعافري الباجي حينما دعا إلى تولي القضاء بقربة في عهد الأمير الحكم بن هشام (في أواخر القرن الثاني الهجري) أقبل وهو لا يعلم ما يراد به، فلما صار بسهلة المدور مال إلى متعبد هناك كان يقيم به صديق له من النساك، وتدور بين الرجلين محاورة رفقة يستشير فيها ابن بشير صديقه العابد في أمر قبول منصب القضاء إلى آخر هذا الخبر الذي يمكن أن يراجع في ذلك الكتاب المذكور، ونرى من هذا الخبر كيف أقبل نساك الأندلس في هذه الفترة المبكرة على الاعتكاف في تلك المتعبدات المنعزلة، وقد توهم بعض المستشرقين أن هذا أثر مباشر للرهبانية المسيحية في الأندلس، ولو أن الأرجح أن ذلك لم يكن إلا تقليداً لما بدأه في هذا الوقت متصوفة المشرق، بل ولما نراه في إفريقية التي شاع فيها في منتصف القرن الثالث بناء الأربطة مثل سوسة والمنستير وغيرهما مما كان يوجد على امتداد الساحل الإفريقي، وكان كثير من الصلحاء ينقطعون إلى هذه ليواصلوا فيها حياة هي مزيج من التبتل والجهاد مما نرى تفصيله في أمثال كتاب الدباغ “معالم الإيمان” والمالكي “رياض النفوس”، وقد بحث هذه الأربطة المستشرق الفرنسي (جورج مارسيه)، والإسباني (خايمه أوليفراسين)، والإسباني (خايمه أوليفراسين) في بحثين شيقين، هذا ونود أن ننبه في هذا المقام إلى أن طائفة من الأندلسيين قد انتقلوا إلى إفريقية واستقروا في تلك الأربطة مثل يحيى بن عمرو الكناني الذي توفي سنة 289 في سوسة والذي كان له أثر كبير على الثقافة الإفريقية والأندلسية في عصره، وقد أفردنا بحثاً خاصاً بيحيى بن عمر هذا وبينا أن عدداً كبيراً من تلاميذه الأندلسيين كانوا من مناطق الثغور في إسبانيا مثل سرقسطة ووشقة وتطليه وإلى أن هؤلاء التلاميذ حرصوا على أن ينقلوا إلى بلادهم هذا التقليد الإفريقي فأنشأوا الأربطة كذلك، وانتهجوا فيها مثل حياة أساتذتهم في إفريقية من تعبّد وجهاد.

وقد بدأ يشيع في الأندلس لبس الصوف باعتبار ذلك مظهراً من مظاهر التقشف، فقد كان ينسب إلى عبد الرحمن الداخل أنه كان يفضل لبس الصوف، وقد عد ذلك من فضائله ودلائل ورعه، على أنني أشك في صحة هذا الخبر إذ أن أول من يورده هو ابن نباتة في كتاب شرح العيون وعنه نقله السلاوي في الاستقصاء وهما مرجعان متأخران، ثم إنه لم يُعرف عن عبد الرحمن ممارسة أي رياضة زهدية، أما الذي نعرف عنه أنه أول من ارتدى الصوف تقشفاً ونزوعاً إلى خشونة المعيشة فهو قاضي قرطبة سعيد بن سليمان المتوفى سنة 240 إذ يذكر الخشني عنه أنه كان يجلس للحكم وعليه غضارة وجبة صوف بيضاء وعلى رأسه اقروف من الصوف كذلك، وينسب إلى ابن طاهر التدميري المتوفى في القرن الرابع أنه كان أيضاً يرتدي الصوف.

أما اصطلاح “الصوفية” فلم يعرف في الأندلس إلا في أواخر القرن الثالث، وقد عرف هذا اللفظ في المشرق من قبل، أشرنا إلى احتكاك الأندلسيين الريفيين الذين طردوا من قرطبة أيام الحكم بن هشام في أواخر القرن الثاني بتلك الطائفة التي كانت تعرف في الإسكندرية باسم الصوفية، ولو أننا لا نعرف في الإسكندرية اسم الصوفية، ولو أننا لا نعرف لهذه الطائفة تعاليم صوفية بمعنى الكلمة، على أن الثابت هو أن هذا الاسم أصبح منذ القرن الثالث يطلق على هذه الجماعات التي كانت تزاول ما نعرفه اليوم من مدلول ذلك الاصطلاح، وقد عرف هذا اللفظ بعد ذلك في إفريقيا في منتصف القرن الثالث الهجري، وإن كان بمعنى قريب مما رأيناه من قبل في طائفة الصوفية بالإسكندرية، أي دالا على طائفة من الرجال كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر احتساباً لله وزلفى إليه، يذكر المالكي في رياض النفوس أن قاضي القيروان سحنون بن سعيد أرسل يوماً في طلب ألف رجل من الصوفية فاجتمعوا إليه من البوادي، فتخير منهم مائة رجل أرسلهم لفك ظلامه بسبب شيء ارتكبه أحد قواد بني الأغالبة.

أما أول من نعرف أنه تقلب بلفظ الصوفي في الأندلس فهو عبد الله بنصر القرطبي المتوفى سنة 315 وكان على ما يذكر ابن الفرضي مؤدباً في مسجد أبي علاقة، وكان ممن يسرد الصلاة والصوم، إلا أن هذا الاسم الذي أطلق عليه ربما يدل على أنه كان متصوفاً بمعنى الكلمة لا مجرد زاهد يكثر من العبادات فحسب:

وإذا كانت هناك كرامات قد نسبت إلى بعض الصالحين الأندلسيين في تاريخ مبكر فإنها كانت بسيطة لا تتجاوز ما كان المترجمون لهم ينصون عليه من أنهم كانوا مجابي الدعوات، على أنها في القرن الثالث أصبحت تتجاوز ذلك إلى مظاهر أكثر تعقيداً وأقرب إلى ما كان يعرف عن كرامات الصوفية، وقد نسبت إلى بقي بن مخلد القرطبي المتوفى سنة 276 إحدى هذه الكرامات إذ يذكر أن امرأة جاءت إلى بقي فقالت إن ابنها قد أسره الروم وليس لها مال لتفديه، فتمتم بكلمات فما كانت إلا أيام حتى حضر الشاب الأسير إلى أمه معلماً الناس أنه في الوقت الذي نطق فيه بقي بن الله قد استجاب لدعوة أمه فيه، والغريب أننا نرى أن روايات هذا الخبر كلها تنتهي إلى عبد الكريم بن هوزان القشيري صاحب الرسالة إلى الصوفية دون أن يذكرها من ترجموا لبقي من قدماء الأندلسيين، وهو خبر قريب من كرامة تؤثر عن ذي النون المصري: فقد جاء في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني أن امرأة اختطف التمساح ولدها فأسرعت إلى ذي النون فدعا الله بدعاء، رد إليها ولدها بعدها سليماً معافى، والكرامتان كما نرى متشابهتان لولا أن كلا منهما متأثر بذلك ببيئة مصر وذلك ببيئة الأندلس.

ويذكر ابن الفرضي في ترجمة يحيى بن قاسم بن هلال القرطبي المتوفى في سنة 287 أنه كان من العباد وكان يطلق عليه اسم “صاحب الشجرة” وتفسير ذلك أنه كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا سجد.

على أنه كما بدأ التصوف في المشرق بتلك العبادات أو الرياضات الدينية والميل إلى حياة متزهدة متشقفة ثم انتهى إلى أن أصبح تأملاً عقلياً وجدانياً خالصاً، فكذلك كان الأمر في الأندلس، بدأ التصوف يستقل عن تلك الحياة الزهدية، وبدأت معالجة تتجسم بشكل واضح، وإننا نرى أن ذلك انعكس في مظهرين:

الأول أن هذه العبادات بعد أن كانت مزيداً من التدين يزاوله أفراد متفرقون لا تجمعهم صلة أصبحت منذ أواخر القرن الثالث رابطة تجمع بين نفر من العباد يقيمون في متعبد خاص بهم، فإننا نجد ابن الفرضي في ترجمة أحد هؤلاء وهو اصبغ بن مالك القبري المتوفى سنة 299 أنه يجتمع إليه أهل الزهد والعبادة فيتذاكرون في داره، وكان يعيش في يشتر، وهي تلك القلعة المنيعة التي كان يتحصن بها عمر بن حفصون الثائر على الخلافة الأموية، بل إن هذه الرياضات الدينية لم تعد قاصرة على الرجال بل اشترك فيها النساء كذلك، يذكر ابن الأبار أن أم الحسن بنت أبي لواء سليمان بن أصبغ المكناسية وهي من بيت بني وانوس البربري كانت قد أقامت مسجداً لصق بيتها في فحص البلوط شمال غربي قرطبة، فكان يقصدها صوالح نساء أهل ناحيتها يتذاكرون سير العابدين والعابدات، ويقول إنه كان لها ببلدها لذلك شأن كبير، ومما يلفت نظرنا في هذين الخبرين أن هذه المتعبدات التي كان يقيم أهل الصلاح والعبادة من الرجال والنساء لم تكن مثل أربطة ثغور إفريقية التي كان يقيم بها عدد من النساء يقومون بالجهاد والعبادة في آن واحد، وإنما كانت أماكن للعبادة فقط إذ هي بحكم موقعها كما نرى بعيدة كل البعد عن ثغور المسلمين المتاخمة لبلاد النصارى، فيشتر تقع على الجبال المحيطة بغرناطة، وفحص البلوط في المنطقة الجبلية المحيطة بقرطبة، ومعنى ذلك أنها كانت أشبه بالزوايا المخصصة لحياة تأملية روحية صرف، ثم إننا نلاحظ أنه قد روعي في اختيارها أنها أُقيمت في جهات جبلية وعرة تعين على الانقطاع والاعتكاف الكامل على نهج ما نرى في كل حياة صوفية خالصة.

اما المظهر الثاني الذي أشرنا إلى بروزه في هذه الفترة دالا على تميز الصوفية عن العباد في الأندلس فهو بدء اصطدامهم بالفقهاء من المحافظين على سلامة العقيدة في جوهرها ومظهرها، وقد رأينا أن هذه الحياة المتعبدة لم تجد من الفقهاء في الأندلس اعتراضا ولا نقدا حتى الآن، بل إن هؤلاء الزهاد كانوا موضع احترام وتبجيل من الجميع إذ كانوا في نظرهم قوما صالحين مقبلين على العبادة دون أن يرى أحد في أفعالهم أو أقوالهم ما يتعارض مع الشريعة، أما في أواخر القرن الثالث فقد ظهر من هؤلاء العباد ما بدا الفقهاء ينظرون إليه في ريبة وتشكك.
وأول من يمثل لنا هذا الاصطدام بين الفقهاء وبين هؤلاء العباد الذين لا نسرف إذا سميناهم صوفية بمعنى الكلمة هو يمن بن رزق الطيلي الذي احتفظ لنا ابن الفرضي ببعض أخباره، وكان أصله من قرية بالثغر بجوار تطيلة أي في أقصى شمال الأندلس، ويبدو أنه كان من أهل السياحة إذ يذكر أن وفاته كانت بالمشرق بعسقلان وأن قبره هناك كان موضع تبجيل المسلمين بهذه المدينة، وقد كانت عسقلان في أرض الشام من المدن التي اشتهرت برباطها ومتعبداتها. ويظهر أنه استقر فترة من حياته في القيروان، إذ أن معظم أخباره ينتهي إلى مواطن له أندلسي عاش في أفريقية حتى وفاته هو يحيى بن عمر الأندلسي تلميذ سحنون، ويذكر يمن أنه لما أوشك على الاحتلام رأى كان قفلاً نحاساً على قلبه ثم نظر إلى مفتاح القفل بين يديه ففتح به ذلك القفل، ومثل هذه الرؤيا أشبه بما كان يعرض لأهل التصوف مما كان يتفق للزهاد. ويذكر يحيى بن عمر أنه كان يعتكف في بيته النهار كله لا يخرج إلا للصلاة مع الجماعة ثم يعود، وأنه لم يكن في داره إلا حصير ينام عليه ومصحف ثم الكتاب الذي وضعه هو وسماه “الزهد” وأنه كان إذا أراد شراء شيء أو التصدق بشيء أدخل يده تحت الحصير فأخرج دراهم صحاحاً كباراً.
أما كتاب “الزهد” الذي وضعه يمن فلا نعرف عنه إلا ما أثاره من حملة الفقهاء عليه سواء في القيروان أو قرطبة، أما في القيروان فقد افتى بالنهي عن قراءته محمد بن مسرور المعروف بابن الحجام، وأما في قرطبة فقد صرح بمثل ذلك أحمد بن خالد المعروف بابن الحباب الذي كان يصف يمن بأنه “صاحب وساوس”، وعلى الرغم من هذا الحكم فقد عكف على كتاب “الزهد” نفر من صوفية الأندلس نذكر منهم زاهداً سجلماسي الأصل يدعى جساساً كان يذيع هذا الكتاب وينشره في متعبد له بثغر مجريط “مدريد الحالية” خلال القرن الرابع الهجري، وعن جساس المذكور رواه عبدالرحمن بن خلق الاقليشي المتوفى سنة 347، وليس لدينا شك في أن ما احتواه كتاب الزهد ليمن بن رزق كان أكثر بكثير مما يدل عليه عنوانه إذ لو كان مجموعة من المواعظ الزهدية لما أثار ثائرة الفقهاء، بل يبدو لنا كتاباً صوفياً بمعنى الكلمة.
وننتقل الآن إلى أقدم شخصية أندلسية صوفية ظهرت خلال أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري وكان لها أثر كبير بعد ذلك في الحياة الروحية بهذه البلاد حتى ابن عربي المرسي في القرن السابع الهجري، ونعني بهذا شخصية ابن مسرة الجبلي القرطبي المتوفى سنة 319، ولا يتسع المجال هنا إلى التحدث بما كنا نؤمل من تفصيل عن هذا المتصوف الأندلسي العظيم، وقد أفرد بحثاً لدراسته المستشرق الإسباني أسين بلايتوس استطاع فيه أن يعيد تكوين صورة لمذهبه الذي اندثر وأن كان قد ترك آثاراً عميقة في الفكر الأندلسي بعد ذلك.
وقد ولد محمد بن عبدالله بن مسرة في سنة 269، وكان أبوه رحل إلى المشرق فسمع من علمائه قبل ذلك واتجه إلى الآراء الاعتزالية والكلامية مع تدينه ونسكه ثم عاد فأودع ابنه محمد علمه ثم رحل ثانية إلى المشرق فتوفى هناك، أما ابنه محمد فإنه واصل اتجاه والده وكانت له كذلك رحلة إلى الشرق حيث درس مع كبار صوفيت هو أهل الكلام فيه، وينص ابن الفرضي على أنه كان يتكلم على تصحيح الأعمال ومحاسبة النفس على حقيقة الصدق وغير ذلك من إشارات الصوفية في نحو من كلام ذي النون الأخميمي وأبي يعقوب النهرجوري الذي كان تلميذاً غير مباشر لذي النون، وقد عاد ابن مسرة بعد ذلك إلى بلده، فاستقر في دار له بناها على جبل العروس، أو الجبل الأسود في شمالي قرطبة، وكان يحيط به عدد من تلاميذه، حتى توفي سنة 319.
على أن كتب ابن مسرة وتعاليمه حينما عرفت وذاعت كانت موضع حملة الفقهاء في أيام هشام المؤيد بن الحكم المستنصر فأحرقت كتب المسريين بأمر قاضي الجماعة محمد بن يبقي بن زرب، وتعقبت السلطات أفراد هذه المدرسة متهمة إياهم بالزندقة.
وقد نص المترجمون لابن مسرة على تأثره العميق بآراء ذي النون المصري وتلاميذه من بعده والواقع أن الذي يتتبع ما حفظ لنا من آراء الصوفي الأندلسي في كتاب انفصل لابن حزم والفتوحات المكية لابن عربي وغيرهما من المراجع المتأخرة ليلاحظ بالفعل أن هناك تشابهاً بينها وبين آراء ذي النون.
وأول ما نلاحظه من ذلك أن تصوف ذي النون كان خطوة في سبيل تكوين فلسفة وحدة الوجود التي فصلها ابن عربي والتي أشار إليها أنها تستمد من رأي لذي النون في العرش.
كذلك نشير إلى كلام ذي النون عن اسم الله الأعظم الذي يعتبر العلم به قمة المعرفة، وقد كان هذا أيضاً من أسس الفلسفة المسرية وتناوله محيي الدين بن عربي بحديث مفصل كان له أثر بعيد في التصوف المسيي في العصور الوسطى.
ونلاحظ أيضاً أن ابن مسرة اتبع في سلوكه طريقة تشبه تلك التي استنها ذو النون، فقد اجتهد المتصوف الأندلسي في أن يكون له ظاهر يقتنع به العامة والفقهاء باعتباره عابداً ناسكاً بينما يحتفظ لنفسه ولخاصة تلاميذه بآرائه التي قد تبدو للجمهور بعداً عن الشريعة أو خروجاً عليها، وهو في هذا يشبه ما كان يجري عليه ذو النون كما سبق أن أوردنا من التفريق بين سلوكين واحد للعامة وآخر للخاصة.
على أن هناك فرقاً واضحاً بين تفكير الرجلين: فذو النون كان صوفياً بمعنى الكلمة عدواً للآراء المعتزلة، منابذاً لأهل الكلام، مناهضاً لآرائهم في حرية الإرادة حتى إنه تعرض للاضطهاد من أجل ذلك، أما ابن مسرة فقد ابتدع منهجاً غريباً مزج فيه بين التصوف والاعتزال، حتى إن التهمة الكبرى التي وجهت إليه هو وأصحابه كانت أخذهم بما قال به المعتزلة من نفي القدر، والاستطاعة أي حرية الإرادة.
على أن ابن مسرة لم يكن هو المفكر الأندلسي الوحيد الذي استمد لآراء ذي النون الأخيمي، فقد ظلت قداسة الإمام المصري تأسر الباب الأندلسيين بعد ذلك بمدة طويلة، ولعل ذلك يرجع إلى اعتدال ذي النون وعدم تطرفه في تصوفه إذا قسناه بغيره من متصوفة العراق، أو إيران مثل أبي يزيد البسطامي، أو الحلاج.
وقد ألف ابن شعبان المعروف بابن القرطبي كتاباً سماه “مواعظ ذي النون الأخميمي” متناقلاً في الأندلس، وابن شعبان المذكور فقيه أندلسي الأصل استقر بمصر وأصبح رئيساً للمذهب المالكي بها خلال هذا القرن الرابع الهجري، كما عرفت بالأندلس خلال هذا العصر مؤلفات منسوبة إلى ذي النون نذكر منها رسالة “سؤال ذي النون المصري بعض الزهاد عن صفة المؤمن”، وهي رسالة إذاعها في الأندلس مسلمة بن القاسم القرطبي المتوفى سنة 353 والذي عرف عنه اهتمام بالفلسفة وعلوم التصوف، ولهذا فإننا نجد أن أخبار ذي النون وأقواله يتردد صداها في الأندلس كثيراً في ذلك الوقت وتحتفظ بها المراجع الأندلسية كما نرى في كتاب جامع بيان العلم لابن عبد البر، والصلة لابن بشكوال الذي يقص علينا خبر توبة ذي النون أي تحوله إلى الطريقة الصوفية بشكل غريب يختلف عما تذكره كتب التصوف المشرقية.
وعلى الرغم مما كانت تبديه السلطات الرسمية والفقهاء المالكيون من ضيق بأقوال المتصوفية فقد ظهرت في خلال القرن الرابع شخصيات صوفية لها مكانتها، ولو أن الأغلب على هؤلاء هو أن كانوا يذهبون إلى تصوف معتدل مثل ما رأيناه من الصوفي المصري الكبير، كذلك اتجه التصوف إلى الجمع بين التأمل النظري والعبادة العملية ولا سيما الجهاد الذي كان متنفساً لهذه النزاعات الروحية، ولا سيما في ذاك العصر الذي بلغ الجهاد فيه ضد نصارى الشمال ذروته في أيام الحاجب المنصور بن أبي عامر.
ومن هؤلاء مخارق بن الحكم بن مخارق القرطبي الذي يذكر ابن القرضي أنه كان من زملائه في الدراسة، وكان من العابدين المتهجدين ويقال إنه كان مجاب الدعوة، وأنه حج على قدميه ثم عاد فكان يتقوت من عمل يديه، وخرج إلى أرض الحرب مجاهداً فاستشهد في الغزاة التي فتح فيها المنصور العامري قلنبرية (في البرتغال الآن) سنة 377.
ومنهم كذلك محمد بن طاهر القيسي التدميري الذي تسميه المراجع الزاهد الشديد، وكان قد رحل إلى المشرق فسمع من الفقهاء والمحدثين والزهاد وجاور الحرمين ثماني سنوات، وظهرت له في المشارق دعوات مجابة وكرامات ظاهرة ثم انصرف إلى الأندلس مجيباً دعوة والده وكان لا يزال يكتب إليه مع حجاج الأندلس يستدعيه، فلما قدم تدمير تنكب نزول مرسية عاصمة الإقليم لسبب رآه لم يكن يستحل معه سكنى مرسية ولا الصلاة في مسجدها الجامع ونزل قرية بخارجها نسبت بعد ذلك إليه وابتنى لنفسه بيتاً من الحطب والشعر كان يأوي إليه، وكانت له هناك جنينة يعمرها بيده ويتقوت منها، وكان مع ذلك لايدع الجهاد مع المنصور العامري وشهد معه فتح سمورة وقلنبرية ثم سكنى قريته واستقر بالثغر وواصل الرباط، وكانت له في الباس والشجاعة حكايات عجيبة، ثم ما زال يرابط في طلبيرة، وكانت ثغراً من أعمال طليطلة حتى استشهد في سنة 379، وتروى عن هذا الرجل الصالح قصص في جهاده باليد واللسان تسطر اسمه في سجل أعاظم الرجال، ويذكر عنه في مصر أنه كان السبب في أن يهودياً من كبار رجال الدولة اعتنق الإسلام بعد رؤيا رآها الزاهد الأندلسي.
كذلك اهتم بعض متصوفة الأندلس بالتقليد الذي كان شائعاً في المشرق وهو السياحة الصوفية، ومن هؤلاء عطية بن سعيد المتوفى سنة 409 الذي طاف بلاد المشرق حتى وصل إلى بلاد تركستان وما وراء النهر، وكانت له مكانة جعلت أصحاب أبي عبد الرحمن السلمي صاحب طبقات الصوفية يلتقون به حتى ضاق به الصوفي البغدادي وأورد له مترجمون كرامات كثيرة، كما ألف في التصوف كتباً تناقلها الناس، وكان له اهتمام بجمع أخبار ذي النون المصري، وقد أورد الحميدي والخطيب البغدادي في ترجمته أبياتاً ينسبها الصوفي المصري يقول فيها:
اقلل مابي فيك وهو كثير
وازجر دمعي عنك وهو غزير
وعندي دموع لو بكت ببعضها
لفاضت بحور بعدهن بحور
قبور الورى تحت التراب وللهوى
رجال لهم تحت الثياب قبور
سأبكي بأجفان عليك قريحة
وارنو بالحاظ إليك تشير
ومن هؤلاء المتصوفة السائحين محمد بن شجاع الصوفي الذي رآه الحميدي في نحو سنة 430 وتوفي قريباً من ذلك، ويروى عنه خبر يصور إعجابه بتلك الحياة الروحية التي كانت منتشرة في مصر حتى بين فتياتها الصغيرات.
وقد دخل إلى الأندلس بعض صوفية المشرق برسم السياحة أيضاً نذكر منهم إبراهيم بن علي الديلمي الخراساني، دخل الأندلس سنة 358 بعد أن لقي بالشام أبا عبدالله الروذباري وبالمغرب أبا الخير التيناتي الأقطع وغيرهما من العباد، وجدير بالذكر أن أكثر من ذكرهم من مشايخ التصوف كانوا من بين من اتصلت روايتهم بذي النون المصري، على أن هذا الصوفي لم يقم بالأندلس إلا قليلاً ثم خرج عائداً إلى المشرق.
ومنهم ظاهر بن محمد البغدادي المعروف بالمهند وفد على الأندلس سنة 340 في أيام عبدالرحمن الناصر، وتكسب بشعره ثم نسك آخر عمره، ويقول ابن الفرضي إن له في الزهد رسائل عجيبة ومقالات على مذاهب المتصوفة إلا أنه كان قليل الشهود بقرطبة وتوفي سنة 390، أما الحميدي فيقول إنه حكت عنه أخبار تشبه أخبار الفكرية وتقابل طريقة الحلاج وغلو في ذلك يسيء الظن به، ولعله كان لذلك منقطعاً إلى ضيعته قليل الشهود بقرطبة كما ذكر ابن الفرضي.
ومنهم حكم بن محمد القيرواني الذي تلمذ بمصر على بنان الحمال وكان من التلاميذ غير المباشرين لذي النون المصري، ثم عاد إلى أفريقية فاضطهده الشيعة فخرج إلى قرطبة وظل بها حتى وفاته سنة 370، وقد نص ابن خير في فهرسته على أن حكما هذا إذاع في الأندلس كثيراً من كتب الزهد أو الرقائق لعبد الله بن المبارك، والرقائق للفضيل بن عياض، والزهد لأحمد بن حنبل، وفضائل التابعين لسعيد بن أسد بن موسى، وكتب ابن أبي الدنيا، على أن حكما كما نرى من حياته وخصومته للشيعة، ثم من الكتب التي نشرها في الأندلس لم يكن من غلاة المتصوفة بل ربما كان أقرب إلى الزاهد البسيط الورع منه إلى الصوفية.
وقد انتشر في الأندلس في هذا العصر إنشاء الروابط، وقد رأينا أمثلة لذلك فيما سبق، وهي روابط لم تكن للجهاد على ثغور المسلمين فقط، بل لمجرد الاعتكاف والعبادة، ومن أمثلة ذلك رابطة أقامها الخليفة هشام بن الحكم المؤيد أثر رؤيا لإحدى جواريه في قرطبة، كذلك كثر إنشاء الزوايا على ما يذكر ابن حزم في كتاب الأخلاق، وكان الغرض منها علمياً دينياً فضلاً عن إكرام الغرباء وتيسير المعيشة لهم.
وعلى الجملة فإن التصوف الأندلسي ظل حتى انتهاء القرن الرابع كما عرضنا أقرب إلى البساطة وأشبه بالتصوف المصري البعيد عن التطرف، وكانت الحياة الدينية مقرونة دائماً بالعمل الصالح ولا سيما بالجهاد، وفي ذلك يقول ابن سعيد: “وما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدورة التي تكسل عن الكد وتخرج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى النهاية” وهو أمر يدلنا على أن الأندلس في تأثرها بالمشرق لم تخل حتى في حياتها الدينية والروحية من خصائص تميزها عن سائر بلاد الشرق الإسلامي.

محمود علي مكي


المصدر: دعوة الحق، العدد 51 و52، ماي يونيو 1962

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى