رسالة الجمعة: الصيام في عصر الشهوات والملاهي.. بُعد عقائدي وصحي واجتماعي

يعيش الإنسان في عصرنا الحالي وسط إغراءات مادية لا تنتهي، ومغريات استهلاكية لا تترك له فرصة للهدوء والتأمل، مما أدى إلى تراجع القيم الروحية وانتشار أنماط الحياة التي تحكمها الشهوات والملذات العابرة. في هذا السياق، يبرز الصيام كعبادة عظيمة ذات أبعاد عقائدية، صحية واجتماعية، تساهم في تهذيب النفس، وتقوية الإرادة، وتحقيق التوازن بين الروح والجسد.
يُعد الصيام ركنًا أساسيًا من أركان الإسلام، فرضه الله على عباده ليكون وسيلة لتهذيب النفس وتقوية التقوى، حيث يقول الله تعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183).
فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة إيمانية تعلم الإنسان الانضباط والطاعة، وتقوي صلته بالله. كما أنه اختبار حقيقي للصبر والإرادة، يميز بين العابد الحقيقي الذي يصوم خالصًا لوجه الله، وبين من يصوم عادة لا عبادة.
على المستوى الصحي، أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الصيام له فوائد صحية عديدة، إذ يساعد على تنظيم عمليات الأيض، وتخليص الجسم من السموم، وتعزيز صحة الجهاز الهضمي. كما أن الصيام يعمل على تقوية جهاز المناعة، وتنشيط الخلايا الجذعية، والمساهمة في مكافحة بعض الأمراض المزمنة مثل السكري وضغط الدم.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفوائد حين قال:
“صُومُوا تَصِحُّوا” (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني).
في عصرنا الذي يشهد انتشار العادات الغذائية السيئة مثل الإفراط في تناول الوجبات السريعة والمشروبات السكرية، يأتي الصيام ليعيد التوازن للجسد، ويعلم الإنسان كيفية التحكم في شهواته الغذائية، مما يسهم في تحسين جودة الحياة الصحية.
أما اجتماعيا، فيُعلم الصيام المسلمين قيم التضامن والتراحم، إذ يجعل الغني يشعر بمعاناة الفقير، مما يدفعه إلى البذل والإنفاق. وقد حث الإسلام على ذلك بقوله تعالى:
“وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا” (الإنسان: 8).
كما أن الصيام يجمع العائلات على مائدة الإفطار في أجواء روحانية مفعمة بالمودة والتراحم، مما يقوي صلة الرحم، ويعيد إحياء الروابط الاجتماعية التي تآكلت بفعل الحياة العصرية.
وهكذا، في عالم مليء بالضغوط والتحديات، أصبح الإنسان أسيرًا للمغريات المادية، مما أدى إلى انتشار القلق والاكتئاب والإدمان بأنواعه. وهنا تتجلى حكمة الصيام، الذي يساعد على تحقيق السلام الداخلي، وتحرير النفس من العبودية للشهوات، وتقوية الإرادة في مواجهة المغريات.
يقول الله تعالى:
“وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 184).
فالصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب عملي على ضبط الغرائز والسمو بالروح، مما يجعله سلاحًا فعالًا في مواجهة الفوضى القيمية التي تعصف بالمجتمعات الحديثة.
ختاما، يظل الصيام ركيزة أساسية في بناء شخصية الإنسان المسلم، حيث يجمع بين التزكية الروحية، والنقاء الجسدي، والتلاحم الاجتماعي. وفي عالم يزداد اضطرابًا، يقدم لنا رمضان فرصة لإعادة ترتيب أولوياتنا، وتقوية علاقتنا بالله، وتنمية وعينا بأهمية الاعتدال في الحياة.
وبذلك، فإن الصيام هو أكثر من عبادة، إنه منهج حياة يعيد التوازن للنفس والجسد والمجتمع، ويثبت أن الإسلام، بتشريعاته السامية، قادر على معالجة تحديات الإنسان في كل زمان ومكان.
- أوليماغ Oulemag