دراساتslider

مسيحيون في حمى المسلمين

وقبل أن أعرض لذكر وجهاء المسلمين الذين حموا المسيحيين وعطفوا عليهم في حي الميدان وقلعة دمشق، وفي طليعتهم الأمير عبد القادر الجزائري، لابد من كلمة وجيزة هنا للتعريف بالمؤلف اسكندر ابكاريوس المتوفى في عام 1885 ، أي بعد وقوع هذه الفتنة بربع قرن. فهو اسكندر بن يعقوب أبكاريوس من طائفة الأرمن الغريغوريين، وأخوه حنا اللذان نشأ على حب الآداب مند نعومة أظفارهما. (عيسى فتوح – دمشق)


عثرت على مخطوطة ثمينة عنوانها “نوادر الزمان في ملامح جبل لبنان” تأليف المرحوم اسكندر ابكاريوس ، تعق في تسعة فصول. نسخت عام 1910 عن المخطوطة الأصلية الموجودة الأصلية الموجودة في دار الكتاب بالقاهرة حاليا، تحت رقم(5: 171 ) وكان المؤلف قد أهدها لمصطفى فاضل باشا ، وقيل لباي تونس (1) .
تقع المخطوطة التي بين يدي في مثنى صفحة من القطع الصغير، كتبت بخط جميل، لكنها لا تخلو أحيانا من بعض الخطاء، وبأسلوب يميل إلى السجع، وقد تعرض المؤلف فيها لحوادث جبل لبنان التي جرت عام 1860 ، وامتدت إلى دمشق، وكان وقودها التعصب الزميت، والجهاد الأعمى، وذلك على عهد الوالي التركي أحمد باشا، حتى أن اليهود لعبوا فيها دورا لا يستهان به، وارتوا النار المشتعلة في أكثر من مرة و مكان. مما لم يشير إليه مؤرخو هذه القبيلة المشؤومة. فقد كانوا يلقون الردم على النصارى المختبئين في أبار المياه والأوكار والدهاليز.
وقبل أن أعرض لذكر وجهاء المسلمين الذين حموا المسيحيين وعطفوا عليهم في حي الميدان وقلعة دمشق، وفي طليعتهم الأمير عبد القادر الجزائري، لابد من كلمة وجيزة هنا للتعريف بالمؤلف اسكندر ابكاريوس المتوفى في عام 1885 ، أي بعد وقوع هذه الفتنة بربع قرن. فهو اسكندر بن يعقوب أبكاريوس من طائفة الأرمن الغريغوريين، وأخوه حنا اللذان نشأ على حب الآداب مند نعومة أظفارهما.
حال اسكندر في أنحاء أوربا، ثم عاد إلى بيروت. واشتغل بالتاليف، ثم سافر إلى مصر وخدم أصحابها ومدحهم، فأجازوه بتقلد عدة مناصب، لكنه، عاد أخيرا إلى بيروت الاستشهاد، فتوفي فيها بعد إصابته بمرض “السحج”، وترك مؤلفات عديدة منها : “نهاية الأرب في اختبار العرب” طبعه في مرسيليا عام 1852 ، كما ألف سنة 1858 كتاب “روضة الدب في طبقات شعراء العرب” قرظه أبو الحسن الكستي، وديوان شعر، يقول الأب لويس شيخو(2) أنه لم يزل مخطوطا، بينما يقول جرجى زيدان(3) انه مطبوع علما بأن زيدان توفي سنة 1914 ، وألف شيخو الجزء الثاني من كتاب “الآداب العربية في القرن التاسع عشر” سنة 1925.
ومن كتب أبكاريوس أيضا “المناقب الإبراهيمية” في سيرة إبراهيم باشا، و “نزهة النفوس وزينة الطروس”..
نعود إلى المخطوطة، وبشكل خاص إلى الفصل الثامن الذي سماه “في ملحمة الشام وما أجراه الأمير عبد القادر الجزائري في حق النصارى من مزيد من العناية والاهتمام” والذي تعرض فيه لذكر تلك الفتنة المشؤومة التي اشترك فيها الدروز و المسلمون، ولعب فيها اليهود دور الثعلب المكار، ودامت تسعة أيام – ويقول زيدان سبعة أيام – من 9 – 18 يوليوز سنة 1860 ، بدافع من والي دمشق أحمد باشا الذي كان قصير النظر، سيء المعاملة، ولولا الأمير عبد القادر الجزائري ومن حوله من المغاربة، وأعيان دمشق من أهل الميدان كسعيد النوري، وصالح المهايني لدامت الفتنة مدة أطول من تسعة أيام. ولذهب ضحيتها أكثر من خمسة ألاف مواطن.
لاحاجة بنا لوصف ما جرى في تلك الأيام السوداء، بل أحب أن أشير مع المؤلف إلى الدور العظيم الذي لعبه الجنود الطيبون المجهولون في حي الميدان، بعكس ما كان متوقعا فقد كان كثيرون من المسلمين يحمون كثيرا من المسيحيين، وكانوا يقدمون لهم الأطعمة الفاخرة، ويصرفون عليهم المصاريف الوافرة، وكان في الميدان صالح آغا المهايني، وسعيد آغا النوري، وهما من أصحاب المروءة والدين، فمنعا إسلام الميدان أن يتعرضوا للعيسويين، وكان صالح آغا يقبل في بيته أجواقا من النصارى الهاربين. ويقدم لهم الأطعمة و الفواكه حينا بعد حين”.
أما الأمير عبد القادر الجزائري- طيب الله تراه – الذي خلع عليه المؤلف الكثير من الصفات التبجيل و التعظيم والاحترام، فهو “سعاد الهمام الأكرم. والسيد الماجد الأنخم. الفائز من العلوم بأعلى المراتب. والمرتقي في الشرف أسمى المناصب، ذو الفضل الباهر، والأصل النقي الطاهر”.
“لما رأى تلك الأهوال، وما وقع في المدينة من الاختلال. والبوار و النكال. أخدته الشفقة والحمية، ودعنه شيمته الأبية، إلى إغاثة الطائفة النصرانية، وتخليصها من هذه البلبلة، فسارع مبادرا إلى الأسواق. وفرق أبطاله في كل شارع وزقاق، وخاض في جمهور المردة، وأطفأ تلك النار المنقدة، وخلص عددا كثيرا وجما غفيرا، من الرجال و الصبيان، والبنات والنسوان، ورفع عنهم سيوف البغي والعدوان. وأبدل خوفهم بالأمان ،وكان يتلطف بهم غاية التلطيف، ويؤانسهم بالكلام الرقيق الطيف ويعزيهم على ما أصابهم وما دهاهم ونابهم، فأنفق عليهم مبلغا عظيما، ومقدارا من المال جسيما. فتضاعفت في الارتقاء مرتبته، وارتفعت عند الملوك منزلته، وأتاه الشكر من جميع ملوك الدول، وقدموا له مزيد الثناء على هذا العمل، وتواردت إليه منهم الهدايا و التحف، والرتب الأولى من نياشين الشرف ، واكتسب بذلك صيتا حميدا وذكرا جميلا، يفوح كالمنبر جيلا فجيل، ولو أردنا أن نستوفي بالتفصيل ما فعله هذا الأمير الجليل و السيد الفاضل النبيل، من المعروف و الخير الكثير، لاحتجنا إلى مجلد كبير…”.
هذا هو الوجه المشرق من تلك الفتنة النكراء، وهؤلاء هم أصحاب الأيادي البيضاء، الذين حموا اخوانا لهم في الأرض و العروبة و الوطن الواحد.
ويشير المؤلف إلى أن أهل الميدان و المغاربة وبعض أعلام المدينة، كانوا أكثر وعيا من أولئك الذين شغبوا حبا بالسلب و النهب و الاستيلاء على الأموال، يدفعهم طمعهم و جهلهم، أكثر مما يدفعهم تعصبهم، ولا بدع أن يستشرى مثل هذا في زمن انقطع فيه حبل الأمن، وشاعت الفوضى وانتشر التعدي، دون وازع من ضمير، أو عقاب من حاكم أو مسؤول. وعلى أثر هذه الفتنة عزل الوالي أحمد باشا، وحل مكانه فؤاد باشا الذي تولى المستدعين فورا، وفرض عليهم العقوبات الصارمة، فاستتب الأمن، وهدأت الأحوال، ولذلك المدائح تنصب عليه ليس من المسيحيين فحسب بل من المسلمين الذين قال الشاعر محمود نسيب باشا بلسانهم :
أشرقت بالعدل أقطار الشام
مذ فؤاد الملك أعطاها نظام
أشرقت من بعد ما قد أظلمت
برهة لا ينجلي عنها ظلام
يا اهيل الشام ماذا غركم
إذ غدرتم ملة حازوا زمام
إذ لهم من كل حق ما لنا
وعليهم ما على أهل السلام
والقصيدة تقع في خمسة عشر بيتا، كلها لوم وتقريع لأولئك المتمردين الذين عاثوا في البلاد فسادا .
ولا تخلو المخطوطة أيضا من الإشارات إلى بعض الأسر الكريمة المجهولة، دون أن يسمى أسماءها، منها أن أحد الهاربين من وجه السيف قرع باب أجد الدور في ضواحي المدينة يطلب الأمن فسارع ابن صاحب البيت إلى فتح الباب، والسيف في يمينه، وهم أن يطير رأس الطارق عن جسده فنهض الرجل في الحين، ورد ذلك الرجل المسكين، وأدخله إلى البيت، وطيب قلبه، وسكن روعه ورعبه، وقابله بالبشاشة والإكرام، وقدم له ما حضر من الطعام، وبعد ذلك ألبسه ثوبا نظيفا ، وأمر له بالفراش فنام. وبقي عنده على هذه الحالة عشرة أيام، وكان في أثناء ذلك قد تغيرت صحته فداركه بالعلاج حتى زال عنه السقام، وبعد ذلك التمس منه الكشف عن أهل بيته الذين كانوا في القلعة فقال : حبا وكرامة، وركب وسار يوجه السرعة، ولما وصل أتى هناك واجتمع بهم فوجدهم في خال السلامة. وطمنهم عليه أنه موجود عنده بكل عزاٍٍٍرة و كرامة. وارتد راجعا فطمنه عليهم. وبعد ذلك ركب معه وأوصله إليهم فقبل الرجل رأسه ويديه، وشكره وأثنى عليه و قال له :
“لقد غمرتني بأفضالك على طول الزمان، وليس عندي ما أكافيك به على هذا الإحسان، ولكن يكافيك عني القدير المنان”، فقال : “إن عملي معك لم يكن لأجل المكافأة، لأن أجري لايضيع عند الله”.. وكثير من الحوادث التي جرت من المسلمين، ولولاها لم يسلم أحد من النصارى الدمشقيين…
ويختم اسكندر أبكاريوس هذا الفصل مؤكدا عللا أن “هذه القضية الكلية لم ترضى بها أمة الإسلام، إنما هي صادرة من الأوباش المتمردين، الذين تجاوزا بارتكاباتهم حدود الشريعة والدين، والله الذي أمره بين الكاف و النون، يجازي كل قوم بما يعملون” .

(1) تاريخ آداب اللغة العربية لزيدان ج ص 260 وقد سمى المخطوطة “نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان”.
(2) تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر ج2 ص 132 .
(3) تاريخ آداب اللغة العربية ج 4 ص 260

عيسى فتوح -كاتب وأديب ومترجم سوري

المصدر: مجلة دعوة الحق، العدد 207، غشت 1980

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى