العلاقة بين الدين والفلسفة
هذا بحث ممتع، كتبه الدكتور مباهات تيركير أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة أنقرة، ونظرا للقيمة التي يظهرها لكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي خصوصا، والتي تبين بوضوح الخطأ الذي وقع فيه بعض الباحثين العرب عن تهافت الغزالي، ولاسيما الأستاذ سليمان دنيا في مقدمته للطبعة الأخيرة للكتاب الصادر عن دار المعارف، وحبا في إطلاع قراء (دعوة الحق) على أسلوب البحث الجديد عند مفكري الإسلام غير العرب، فقد ترجمته للعربية عن العدد الثاني من مجلة (الدراسات المتوسطية) التي تصدر بفرنسا.
إذا نحن رجعنا إلى آداب ومكتبة القرن الأخير فيما يخص كتاب التهافت للغزالي (1111-1055) وتهافت التهافت لابن رشد (1198-1420) وكتاب التهافت أيضا لهواكازادة (1482-1420) وجدنا أن هذه الكتب لم تدرس من جهة الصلة القائمة بين الدين وبين الفلسفة، وإنما تحدث عنها بسرعة في تواريخ الفلسفة الإسلامية المنشورة في أوروبا منذ ما يقارب سنة (2) 1900.
قد درس بعض الفلاسفة مثل رينان ومهران، وجونيير، وهورتن، ودونكور، وأللار، موضوع علاقة الدين بالفلسفة عند ابن رشد فحسب.
وأخيرا إذا نحن اعتبرنا الترجمة الإنجليزية المعتنى بها لتهافت التهافت مع تعاليق س، فإن بن برغ (3) لا تتأخر عن تقرير كون ابن رشد درس أكثر مما درس الغزالي وهو أكازاده، فإن تهافت الفلاسفة للغزالي لم يترجم كله بعد، بأية لغة من لغات أوروبا(4)، أما تهافت الفلاسفة لهواكازادة فلم يدرسوه قط في أوروبا (5) وأيضا فقد وقعت تحريفات كثيرة في الكتب العربية فيما يتعلق بهذا المؤلف، وكذلك في الفرنسية والإنجليزية وحتى في التركية.
فمن جهة يمكن تدارك النقص الذي بيناه، إذا نحن درسنا الكتب الثلاثة من جهة علاقة الدين بالفلسفة، ومن جهة أخرى يجب إصلاح نظريات المؤلفين الذين حكموا على هذه العلاقة عند ابن رشد، وتصحيح الأغلاط الراجعة لكتاب تهافت الفلاسفة لهواكازادة.
والفرق إلاهم بين الفلسفة والدين(6) راجع إلى منشأ القضايا هو العقل عند البعض والوحي عند الأخر، فأصل قضايا الدين من الدين، وأصل قضايا الفلسفة من الإنسان.
فهل هناك إذن توافق بين بيانات الفلسفة وبين بيانات الدين لأن كيليهما يرمي إلى توضيح الحقيقة؟ هذه هي المسألة التي تعرض في وقت واحد مع وجود الدين والفلسفة، وقد كان أول من واجه المسألة مفكرون يهود، وحاولوا الجواب عنها (7) ثم وجد المسيحيون(8) والمسلمون(9) أنفسهم إزاء نفس القضية(10).
والذين رموا في العالم الإسلامي إلى التوفيق بين الفلسفة وبين الدين فيما يرجع للمسائل القائمة من الوجهة التاريخية والاجتماعية (11) أو لمعارضة بعض آيات القرءان يدعون بالمتكلمين إذا كان أساس نظرهم الدين أو الفلاسفة إذا كان أساس مبدأهم الفلسفة (12).
وقد أرادوا أن ينسقوا بين الفلسفة وبين الدين فيما يخص المسائل المشتركة، مثلا: هل العالم أبدي لا بداية له؟ هل للعالم خالق؟ هل يمكن لماهيته تحديد؟ هل السماء حية؟ ما هي أسباب حركاتها؟ هل تعرف نفوس السماوات الجزئي؟ ما هي طبيعة النفس؟ هل البعث وسائر الخوارق ممكنة؟ كل موضوعات التهافت راجعة لهذه المسائل.
وللوصول إلى الحكم على العلاقة الموجودة بين الفلسفة والدين طبقا لما في كتب (التهافت) سنحاول أن نجيب في هذا المقال على الأسئلة الآتية:
1) ما هي حالة كل شرح ENONCES من كل كتاب تهافت بالنظر إلى النقطة الأولى عند مؤلفه.
2) ما هو موقف كل كتاب تهافت من الآخر؟.
3) ما هي قيمة كتب التهافت من جهة علاقة الفلسفة بالدين؟.
وهكذا سنتمكن من دراسة أفكار المؤلفين المذكورين، ونصلح الأغلاط التي وقعت فيما يرجع لكتاب التهافت لهواكازادة.
أ- لقد أوضح الغزالي غاية (التهافت) في الخطبة والمقدمات الأربع لكتابه، وهذه الغاية تعمل على إثبات بطلان أفكار الذين ينكرون الدين مدعين أن النظريات الفلسفية تهيمن على جميع البراهين الكلامية وبعض المسائل الطبيعية، وذلك عن طريق الاستدلال بمختلف الحجج المستمدة من المذاهب المتناقضة أحيانا، ويرى الغزالي من المحقق أن للفلاسفة براهين ضرورية في سائر العلوم الرياضية وبعض العلوم الطبيعية، ولكنهم لا يملكون براهين مماثلة في علوم الإلاهيات، وإذن فيجب التنبيه على التناقض الذي حصل في أفكار الفارابي وابن سينا فيما يخص المسائل المشتركة بين الفلسفة وبين الكلام حسب قواعد المنطق(13)، ولإدراك روح الغزالي يجب أن نهتم بهذه المقدمات وأن لا ننسى محتوياتها، وكذلك للحكم على (تهافت التهافت) لابن رشد، لأن الغزالي بين في هذه المقدمات المصادر المهمة لانتقاداته(14) ولم يزعم قط بأنه يعطي فيما يرجع للدين حججه البرهانية بعد أن أعطى الدليل على أن الفلاسفة لا يملكونها.
وبناء عليه فلا موجب لكون (مهران) لا يعطي أهمية لهذا المقدمات (15) ويقبل موقف ابن رشد الذي يرى إبقاءها جانبا، على أننا سنرى أن ابن رشد كان بعيدا عن فهم مقدمات الغزالي حتى لا يعتبر محتوياتها، وليس في كتاب تهافت الفلاسفة مكان يسمح لمهران أن يفكر كما يلي: (لقد تخيل الغزالي أنه أوضح نظرياته السنية على أساس حجج فلسفية (16) بينما كان ابن رشد محقا حينما اعتبر بعض حجج الغزالي جدلية وصورية، وليست برهانية)، لأنه ليست لهذا أهمية خصوصية بالنسبة للغزالي، لأن هذا الأخير لا يدعي أنه يعطي حججا برهانية.
المصدر: علال الفاسي، مجلة دعوة الحق، العدد 7