sliderدراسات

العلاقة بين الفلسفة والدين حسب كتب التهافت الثلاثة

هذا بحث ممتع، كتبه الدكتور مباهات تيركير أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة أنقرة، ونظرا للقيمة التي يظهرها لكتاب تهافت الفلاسفة للغزالي خصوصا، والتي تبين بوضوح الخطأ الذي وقع فيه بعض الباحثين العرب عن تهافت الغزالي، ولاسيما الأستاذ سليمان دنيا في مقدمته للطبعة الأخيرة للكتاب الصادر عن دار المعارف، وحبا في إطلاع قراء (دعوة الحق) على أسلوب البحث الجديد عند مفكري الإسلام غير العرب، فقد ترجمته للعربية عن العدد الثاني من مجلة (الدراسات المتوسطية) التي تصدر بفرنسا.

إذا نحن رجعنا إلى آداب ومكتبة القرن الأخير فيما يخص كتاب التهافت للغزالي (1111-1055) وتهافت التهافت لابن رشد (1198-1420) وكتاب التهافت أيضا لهواكازادة (1482-1420) وجدنا أن هذه الكتب لم تدرس من جهة الصلة القائمة بين الدين وبين الفلسفة، وإنما تحدث عنها بسرعة في تواريخ الفلسفة الإسلامية المنشورة في أوروبا منذ ما يقارب سنة (2) 1900.

وقد درس بعض الفلاسفة مثل رينان ومهران، وجونيير، وهورتن، ودونكور، وأللار، موضوع علاقة الدين بالفلسفة عند ابن رشد فحسب.

وأخيرا إذا نحن اعتبرنا الترجمة الإنجليزية المعتنى بها لتهافت التهافت مع تعاليق س، فإن بن برغ (3) لا تتأخر عن تقرير كون ابن رشد درس أكثر مما درس الغزالي وهو أكازاده، فإن تهافت الفلاسفة للغزالي لم يترجم كله بعد، بأية لغة من لغات أوروبا(4)، أما تهافت الفلاسفة لهواكازادة فلم يدرسوه قط في أوروبا (5) وأيضا فقد وقعت تحريفات كثيرة في الكتب العربية فيما يتعلق بهذا المؤلف، وكذلك في الفرنسية والإنجليزية وحتى في التركية.

فمن جهة يمكن تدارك النقص الذي بيناه، إذا نحن درسنا الكتب الثلاثة من جهة علاقة الدين بالفلسفة، ومن جهة أخرى يجب إصلاح نظريات المؤلفين الذين حكموا على هذه العلاقة عند ابن رشد، وتصحيح الأغلاط الراجعة لكتاب تهافت الفلاسفة لهواكازادة.

والفرق إلاهم بين الفلسفة والدين(6) راجع إلى منشأ القضايا هو العقل عند البعض والوحي عند الأخر، فأصل قضايا الدين من الدين، وأصل قضايا الفلسفة من الإنسان.

فهل هناك إذن توافق بين بيانات الفلسفة وبين بيانات الدين لأن كيليهما يرمي إلى توضيح الحقيقة؟ هذه هي المسألة التي تعرض في وقت واحد مع وجود الدين والفلسفة، وقد كان أول من واجه المسألة مفكرون يهود، وحاولوا الجواب عنها (7) ثم وجد المسيحيون(8) والمسلمون(9) أنفسهم إزاء نفس القضية(10).

والذين رموا في العالم الإسلامي إلى التوفيق بين الفلسفة وبين الدين فيما يرجع للمسائل القائمة من الوجهة التاريخية والاجتماعية (11) أو لمعارضة بعض آيات القرءان يدعون بالمتكلمين إذا كان أساس نظرهم الدين أو الفلاسفة إذا كان أساس مبدأهم الفلسفة (12).

وقد أرادوا أن ينسقوا بين الفلسفة وبين الدين فيما يخص المسائل المشتركة، مثلا: هل العالم أبدي لا بداية له؟ هل للعالم خالق؟ هل يمكن لماهيته تحديد؟ هل السماء حية؟ ما هي أسباب حركاتها؟ هل تعرف نفوس السماوات الجزئي؟ ما هي طبيعة النفس؟ هل البعث وسائر الخوارق ممكنة؟ كل موضوعات التهافت راجعة لهذه المسائل.

وللوصول إلى الحكم على العلاقة الموجودة بين الفلسفة والدين طبقا لما في كتب (التهافت) سنحاول أن نجيب في هذا المقال على الأسئلة الآتية:
1) ما هي حالة كل شرح ENONCES من كل كتاب تهافت بالنظر إلى النقطة الأولى عند مؤلفه.
2) ما هو موقف كل كتاب تهافت من الآخر؟.
3) ما هي قيمة كتب التهافت من جهة علاقة الفلسفة بالدين؟.
وهكذا سنتمكن من دراسة أفكار المؤلفين المذكورين، ونصلح الأغلاط التي وقعت فيما يرجع لكتاب التهافت لهواكازادة.
أ- لقد أوضح الغزالي غاية (التهافت) في الخطبة والمقدمات الأربع لكتابه، وهذه الغاية تعمل على إثبات بطلان أفكار الذين ينكرون الدين مدعين أن النظريات الفلسفية تهيمن على جميع البراهين الكلامية وبعض المسائل الطبيعية، وذلك عن طريق الاستدلال بمختلف الحجج المستمدة من المذاهب المتناقضة أحيانا، ويرى الغزالي من المحقق أن للفلاسفة براهين ضرورية في سائر العلوم الرياضية وبعض العلوم الطبيعية، ولكنهم لا يملكون براهين مماثلة في علوم الإلاهيات، وإذن فيجب التنبيه على التناقض الذي حصل في أفكار الفارابي وابن سينا فيما يخص المسائل المشتركة بين الفلسفة وبين الكلام حسب قواعد المنطق(13)، ولإدراك روح الغزالي يجب أن نهتم بهذه المقدمات وأن لا ننسى محتوياتها، وكذلك للحكم على (تهافت التهافت) لابن رشد، لأن الغزالي بين في هذه المقدمات المصادر المهمة لانتقاداته(14) ولم يزعم قط بأنه يعطي فيما يرجع للدين حججه البرهانية بعد أن أعطى الدليل على أن الفلاسفة لا يملكونها.
وبناء عليه فلا موجب لكون (مهران) لا يعطي أهمية لهذا المقدمات (15) ويقبل موقف ابن رشد الذي يرى إبقاءها جانبا، على أننا سنرى أن ابن رشد كان بعيدا عن فهم مقدمات الغزالي حتى لا يعتبر محتوياتها، وليس في كتاب تهافت الفلاسفة مكان يسمح لمهران أن يفكر كما يلي: (لقد تخيل الغزالي أنه أوضح نظرياته السنية على أساس حجج فلسفية (16) بينما كان ابن رشد محقا حينما اعتبر بعض حجج الغزالي جدلية وصورية، وليست برهانية)، لأنه ليست لهذا أهمية خصوصية بالنسبة للغزالي، لأن هذا الأخير لا يدعي أنه يعطي حججا برهانية.
إن الغزالي يرى، معتمدا فقط على فكرة ضرورة قطع تسلسل لانهائي للعلل، أنه ليس ممكننا أن ننقص من اختصاصات (الفاعل) الذي يجب أن يقطع هذا التسلسل، وهكذا أثبت باعتماده على هذا الدليل أنه ليس للفلاسفة أدلة برهانية على مسائل: توحيد الله وعدم تركيبه ولاجسميته، وصفاته، ولا سيما صفة وجوده في كل مكان، بل إنه أثبت عدم ضرورة قطع تسلسل العلل بواسطة فاعل، كما سبق أن فعله الماديون، كما أثبت أنه ليس للفلاسفة حجة برهانية على قدم العالم وعلى رأيهم في الروح والسماوات (17) وقد عرف كيف يبرر الخوارق حينما ميز بين المستحيل العادي وبين المستحيل العقلي، كما نبه إلى أن علاقة العلة بالمعلول ليست لازمة، ولكنها عادية، فمن الحق أن نقول: إنه كان سلف (هيم)(18) .
وبهذا كان له فضل في إقامة الحجة مع حرية كبيرة في البحث على أن القياس الذي عرضه ابن سينا لحل مسائل الديانة الإسلامية كثيرة إلاهمية ليس قياسا نافعا، نظرا إلى أنه من جهة يتنافى مع الدين حينما يدعي خلود العالم وينكر المعجزات وعلم الله بالجزئيات، ومن جهة أخرى يتهافت مع نفسه في مسائل القدرة على الإدراك والروح والعلوم الإلاهية، وبما أنه قد عالج هذه المسائل بناء على المبادئ الأعم من العقليات فقد كان جديرا أن يعتبر فيلسوفا حقيقيا، وحينما يقابل أيضا بديكارت يعتبر أحيانا من الثائرين على المدارس الرسمية، وبهذا الاعتبار يمكن القول بأن حكم أ. م. بوجتنوف على الغزالي بأنه (فيلسوف رجعي) ليس حكما علميا، فثورته تظهر لا في شكل بحثه القضايا فقط ولكن حتى في أسلوبه الذي يصل بالمسائل إلى مداها، ولو كانت النتيجة ضد الدين تماما، مثلا: حينما عالج مسألة وحدة الله وصفاته على شكل مشرك، أو مسألة خلود العالم على طريق ملحد، فقد عرف أن يتعدى بهذا البحث الحر معلومات المبادئ الأساسية الأرسطوطاليسية، ونقده (للطبع) الذي هو أساس علم الطبيعة الأرسطوطاليسية أدى إلى هذه النتيجة، وهي أن علاقة العلة بالمعلول ليست لازمة، ومن جهة أخرى فقد عرف كيف يقترب من المنطق العصري حينما اعتبر الممكن منفصلا عن المادة، كشرح عقلي لا يعني عكسه التناقض، كما عرف كيف يقترب من الهندسة العصرية حينما تحدث عن المجال خارج المادة، وأدق نظرياته العقلية رأيه عن إرادة الله التي عبر عنها بما يأتي: (لا يقدر الله على عمل إلا إذا لم يكن مستحيلا) (19) ولكن من الصعب توفيق هذه الجملة مع معقوليته (20) (يمكن أن يكون الشيء ممكنا في وقت مستحيلا في وقت آخر) وإن لم يقل هذا إلا مرة واحدة(21).
ولكي يوجه انتقاداته، يدلي أحيانا ببعض الآراء، دون أن يبرهن عليها مثل: (إذا أراد الإلاه فَعل، وإن لم يرد لم يفعل) (والفاعل الحقيقي هو الذي يوجد الشيء من العدم)، فإرادة الله بهذا المعنى قادرة على أن تختار أيضا فعل أحد من الممكنين.
واقع نجاحه في إثبات أنه ليس لابن سينا أدلة برهانية على عدم بعث الأجسام، وفي صفات الذات الإلاهية، لا يعطيه الحق لاستخراج نتائجه الضرورية لمعرفة موضوعاته عن طريق النبوة (22) فقط لأن هذه الحقيقة ليست نتيجة ضرورية لنقده المصيب، ولكنها مبدأ على حدة.
ب- وغاية ابن رشد في (تهافت التهافت) هي تحديد قيمة كلام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وإثبات أن معظم كلامه غير صحيح (23)، وقد أبلغه غرضه حتما إلى البحث عن معرفة هل من الممكن التوفيق بين الفلسفة الأرسطوطاليسية وبين الديانة الإسلامية والوصول إلى حقائق الوحي عن طريق القياس البرهاني؟ وأمر ابن رشد في المسائل الراجعة لله نفسه يظهر هكذا: (للتخلص من فكرة تعدد الإلاه، ومن نظرية الإلاه المركب الناشئة عن محاولة تعريفه، يجب قبول فكرة وجود نوعي، تختلف أفراده بدرجات الشرف والأسبقية الزمنية ) والحال أن هذه الفكرة ليست شرحا، لأنها محتاجة لأن تشرح هي نفسها، وإذن فلم يقم الحجة بصفة برهانية على ضرورة قطع التسلسل في العلل بعلة نهائية.
لقد انتقد حقا وضع الغزالي حينما أخذ هذا الأخير كقاعدة لنقده فكرة إرادة قادرة على خلق المعدوم، ولكنه قبل في العمق نقطة بداية الغزالي حينما أكد عدم وجود دليل برهاني لمسألة إرادة الله لا للفلاسفة لا للمتكلمين وكذلك لمسألة الروح، أما عن مسألة المعجزة فقد زعم ابن رشد أن لكل موضوع (طبعا ضروريا) وهو يرى كما قاله للغزالي: (إذا كان للضدين إمكان الوقوع وجب أن يوجد الشيء وضده في آن واحد) على أن نظرية (الطبع) كما اعتقدها لا يظهر إمكان تبريرها بمبدأ الهوية، لان هذا المبدأ يعبر عن الشيء لا عن سبب وقوعه.
ويمكن أن نجد في (تهافت التهافت) موقعين لابن رشد: (تارة يوافق الغزالي وتارة يخالفه، وقد انتقد ابن رشد مثل الغزالي ابن سينا، بل أحيانا كان أشد في نقده لابن سينا من الغزالي نفسه، خصوصا في المسائل المهمة كوجود إلاه واحد وخلود العالم، والروح، ولم يعط وسيلة لنقل أفكار أرسطو إلى معطيات الوحي دون الوقوع في تناقض، وحينما فر من مسألة التوفيق حاول أن يقول: (إن الحجج البرهانية توجد في كتب أرسطو فيجب الرجوع إليها) وحينما قال: (فيما يخص المسألة الدينية نقط لا يستطيع العقل إدراكها) فقد قبل رغما عنه أساس انتقادات الغزالي، وإذن فليس من الممكن قبول حكم جوتيير (لقد قدم ابن رشد كتاب تهافت التهافت كدفاع مسند، ضد الغزالي ولفائدة مذاهب الفارابي وابن سينا (24)، وهكذا لا يكون كتاب ابن رشد في الحقيقة كتاب (تهافت التهافت)، لقد انتقد ابن رشد الغزالي بحق، لأنه لم يعطنا معيار علوم Epistimologie لما يتعلق بإرادة الله وبإيجاد المعدوم ولكن من العدل أن نعترف بأن الغزالي لم يدع أبدا أنه أدلى بأدلة برهانية على هذا الموضوع.

لم يستطيع ابن رشد في أثناء دراسته الخروج عن علوم أرسطو في نظرياته عن الطبيعة والمعجزة والمجال والأزمنة، ورغم انتقادات الغزالي فقد بقي متعلقا ببعض نظرية أرسطو وبإمامة أرسطو نفسه وقد جاء ببعض الآيات القرآنية لتوضيح بعض المسائل كتعدد الإلاه ومعنى الروح ومصدر نظرية (الطبع) (25) ولكنه نبه على أن بعض نظريات أرسطو أولت على غير معناها عند الغزالي أو حتى ابن سينا، وقد دافع عن نواميس الكون وكذلك عن مشروعية العقل والعلم إزاء إرادة مطلقة، معتمدا على فكرة (الطبع) ولو لم تكن لهذه الفكرة قاعدة منطقية، وقد جاء بانتقاد عادل لزعم الغزالي: (يمكن للمكن أن يصبح مستحيلا) ولتتويج الكل قال: (إن الفلاسفة جديرون بالاحترام لأنهم يبحثون عن الحقيقة وإن لم يملكوها بعد).
ويتخلص مما ذكرناه أن ابن رشد أخذ في (تهافته) المواقف الثلاثة الآتية:
1) زعم أن النظرية الأرسطوطاليسية (قالب) مقبول لتبيين الدين.
2) رفض نظرية إرادة الله كما عرضها وحددها الغزالي.
3) عوضا أن يقدم لنا (قالبا) مقبولا للدفاع عن الدين، منع أن يبحث أمر الدين أمام الجمهور وأمر بقبول تعاليم الدين كما هي.
ولا يمكننا أن نشرح هذه الجوانب غير المتماسكة من تفكيره بالنسبة لغايته إلا إذا راعينا نظريته في (ازدواج الحقيقة).

يرى ابن رشد أن التفلسف واجب بمقتضى شريعة الإسلام، والفلسفة هي أخت الدين، والفلسفة حقيقة، والدين كذلك حقيقة، وفي الواقع هذه الحقيقة المزدوجة مكونة من جانبي حقيقة واحدة (لأن الحقيقة لا يمكن أن تكون ضد الحقيقة) فإذا كانت الآية القرءانية الصريحة تمس جوهر الدين فمن الممنوع قطعا تأويلها، فإذا كانت لا تمسه، فمن الواجب على ذوي الحجة البرهانية أن يتأولوها، بينما من الممنوع قطعا على ذوي (الحجة الجدلية) أن يفعلوا، كما أنه من الممنوع على البرهانيين أن يذيعوا تأويلهم على الجدليين)، ولا ينبغي أن يتحدث للجمهور لا على التأويل الحق ولا على التأويل الباطل (26) والحق أن ابن رشد في كتابه (فصل المقال) حل مسألة العلاقة بين الفلسفة وبين الدين بصفة واقعية كما سبق أن قاله جوتيير (27) وإن كان ابن رشد في هذا المؤلف يلح في التوفيق الضروري بين الفلسفة وبين الدين، ونستطيع أن نتساءل: هل وصل لذلك؟ ويجيب جوتيير بأن ابن رشد، حينما يكون مفوضا FIDEISTE أمام الجمهور وعقليا أمام الفلاسفة، يرى علاقة إيجابية بين الدين والفلسفة، ولكن جوتيير لم يضع مسألة ما إذا كان ابن رشد قد وفق من جهة النظر الفلسفية الأرسطوطاليسية مع الديانة الإسلامية؟ وإذن فقد كان من المنتظر أن يمس هذا الجانب من الموضوع.

ويظهر من الكلام الثاني لجوتيير أن ابن رشد يميز الفلسفة من الدين عوض أن يوفق بينهما وها هي: (النصوص الجديدة لابن رشد تظهر بوضوح أن غاية الدين ليست من النوع النظري ولكن من النوع الاجتماعي … وأحسن الديانات ليس الأحق… ولكن أحسن الديانات هي التي تكون رموزها أكثر تأثيرا على نفوس العوام)، ومن جهة أخرى فقد اتهم التمييز في خلاصة رأيه قائلا: (إن ابن رشد معقولي مطلقا حينما يتكلم مع الفلاسفة… وهو ضد المعقول مفوض، حينما يتجه إلى العوام)(28).
وبناء على هذا فليس من الممكن أن نقبل هذا القول: (نظرية ابن رشد في توافق الدين والفلسفة أسست -على أساس عقلي- علم كلام فلسفي كامل) لا من جهة النظر ولا من جهة الواقع(29)، وكذلك لا يمكننا أن نقبل رأي دونكورDONCOEUR بينما يدعي أن ابن الطفيل وابن رشد حلا المسألة حينما قسما الجمهور إلى نخبة وإلى عوام، لأن تقسيم الجمهور إلى نخبة وإلى عوام (30) ليس حلا للمسألة، ولكنه أولى بأن يعتبر حذفا لها، لأنه سيبقى لهذه النخبة نفسها صعوبات لمعرفة استحالة التوفيق بين النظريات الأرسطوطالسيسة والإسلامية في شأن الله، ونظرية أرسطو في خلود العالم وفي إيجاد المعدوم، خصوصا ونحن لا نجد في أفصله توفيقا حقيقيا، لأن ابن رشد يتهم بالإلحاد أولئك الذين يتأولون الآيات الصريحة ويقبل البواكير PREMISSES المشتركة والمتيقنة كحجة برهانية(31)، وهكذا يخلط بين اليقين العقلي وبين اليقين النفسلوجي، والتوفيق الحقيقي يجب أن نأتي باقناعات منطقية لا نفسلوجية.

ويمكن أن نزيد على هذا التعارض ما يؤدي إليه هذا الكلام: (في مسألتي المعجزة والروح ليس للمتكلمين ولا للفلاسفة حجج برهانية) و(لا أحد يعرف اختصاصات العلم الإلاهي إلا إذا كان الإلاه نفسه)(32).
انتقد جوتيير في مقال متمم لنظريته فكرة روجيير(33) التي تقول باستحالة التوفيق بين الفلسفة وبين الدين، والواقع أن نقده صحيح حينما يريد توضيح الفوارق الموجودة بين تعاليم الإسلام وتعاليم المسيحية، ولكنه لا أثر له على استنتاج روجيير الذي عبر عنه بهذه الجملة: (الحقائق الموحى بها لا يمكن أن تتفق مع الفلسفة الأرسطوطاليسية) (34)، والحاصل أن ابن رشد حينما عارض الغزالي في اعتقاده التوفيق لم يوفق بين الديانة الإسلامية وبين الفلسفة الأرسطوطاليسية، بصفة مقنعة، يعني بحجج برهانية، والقول بأن الحجج موجودة في كتب أرسطو يعتبر نكولا لا إظهارا.
ج- أما هواكازادة فغايته في كتابه (تهافت الفلاسفة) هي في قوله: (إذا كان للفلاسفة نجاح كبير في الرياضيات والحساب، وفي المنطق، فإن لهم أغلاطا في الإلاهيات وفي قسم من الطبيعة، وأساتذة التوحيد حرروا مصنفات لإظهار هذه الأغلاط، ومنهم الغزالي، وقد أمرني الخليفة أن أؤلف كتابا آخر، وإذا أردت أن أشير لبعض نقط الضعف من كلام الغزالي فلكي أوضح ما أقبله ما لا أقبله، لا لأنني أريد التنقيص من قيمته، فإذا أتيت في هذا المصنف بما قاله الغزالي وبما تركه جانبا من عقائد الفلاسفة فيما يرجع للدين والطبيعة فإنما أريد صد هجمات بعض المتفلسفين متوجها إلى أهل الحقيقة، راد أشبه الضالين) (35).

يرفض هواكازادة في مسألة الإلاه نفسه زعم الفلاسفة أن تعريفه يؤدي إلى القول بطبيعة مركبة، فهو يشاطر نظرية ابن سينا الذي يعتقد أن الصفة عين الموصوف (36)، ولكنه لم يجب باسم الفلاسفة عن نقد الغزالي، وهو يتردد في مسألة صفات الله، وفي أمر علم الله بالجزئيات، ويثبت بصفة مغايرة للغزالي أن الفلاسفة تنقصهم الحجج البرهانية، ولكنه لم يعبر بوضوح وتمييز عن اتجاهه الخاص، ولم يقبل اتهام الغزالي لابن سينا في مسألة علم الله بالجزئيات، ولم يأت في مسألة خلود العالم بجواب، بل ترك نظريتي الفلاسفة والمتكلمين دون توفيق، أما في المعجزة وعدم مادية الروح فقد ردد تقريبا ما قاله للغزالي، بينما نرى له اتجاها أرسطوطاليسيا في مسألة عدم بناء الروح وكذلك فيما يرجع لنظرية الممكن، وحينما انتقد رأي الفلاسفة في مسألة التمتع والعقاب الجسميين بعد الموت، بين استحالة الوصول إلى نتيجة بالاعتماد على العقل وحده، وعلى الرغم من عدم وضوحه في بعض المسائل فقد أثبت بتعمق أنه ليس للفلاسفة حجج برهانية في مسائل الدين، ويتبين من أسلوب حله للمشاكل دهاؤه في تطبيق قواعد المنطق بدقة، وليس من السهولة المطلقة أن نجد لديه شعورا بضرورة نقد منطقي عميق يشبه ما نجده عند الغزالي، وعليه فقد بقيت أفكاره غامضة وموزعة، ولكن يجب أن لا نهمل القول بأنه انتقد الغزالي حينما حرف هذا الأخير كلام ابن سينا عن قصد أو غير قصد، وقد عارض رأي أرسطو في (الطبع) قائلا: (إن الحجارة المرمية في الهواء، حينما تسقط تظهر أنها فارقت المكان الذي امتدت إليه طبقا لوظيفة طبعها)، وهذا تناقض، لأنه ليس من الممكن أن تمتد إلى مكان فارقته بالطبع، وكذلك انتقد النظرية التي تقول بأن الكواكب ترتكز على محورها الإلاهي مقدما الاحتجاج الآتي: تشهد الملاحظة بحركة الكواكب فقط لا بارتكازها (37)، ولكن لتترك جانبا مناقشة رأيه المتعلق (بالطبع) أو بالارتكاز).

أما حالة كتب التهافت المتبادلة فيمكن أن يقال فيها: (إن الغزالي انتقد ابن سينا وأرسطو معتمدا على آراء ابن سينا نفسه، أما ابن رشد فقد انتقد بدوره ابن سينا بناء على مبادئ أرسطو، فيؤول الأمر إلى أن كلا من الغزالي وابن رشد انتقد ابن سينا، وعليه فالادعاءات التي تزعم أن ابن رشد دافع عن الفلسفة في كتابه (تهافت التهافت) ضد الغزالي محتاجة إلى تدقيق، وللوصول إلى توفيق حقيقي معتمد على أدلة برهانية، فليس مهما أن يقال ما قاله ابن رشد: إن الأدلة البرهانية موجودة في كتب أرسطو، وعليه فلا يمكن أن يقال بناء على مجرد اسم (تهافت التهافت) أن ابن رشد هدم نظرية الغزالي. وقد دافع هواكازادة رغما عن تضامنه مع الغزالي عن ابن سينا في نقط كثيرة، ولكنه أيضا لم يصل إلى توفيق نهائي، وليس صحيحا ما قيل من أن تهافت الفلاسفة لهواكازادة يرمي إلى مقارنة بين كتابي التهافت للغزالي وابن رشد، كما زعمه كتاب إتحاف السادة للزبيدي شارح الأحياء، وكما ورد في الطبعة الأولى للتهافت المؤرخة سنة 1302 هجرية، إذ أحالت على كشف الظنون، وكاتب سلبي (حاجي خليفة) والسكايك لتسكويريزادة، فليس في نصوص هذه الكتب ما يدل على المدعى، فتعليق كاتب سلبي لا يقول أكثر من أن هواكازادة كتب بأمر محمد الفاتح كتابه تهافت الفلاسفة ليقارن تهافت الغزالي بآراء الفلاسفة (38)، وقد وقع نفس الغلط في فهرس سركيس وفي (مفكري الإسلام) لكارادوفو، وفي مدخل سارتون وفي بعض مؤلفات الأتراك، ولكن هنالك مؤلفات أخرى تظهر بإخلاص غاية هواكازادة وتقول: إن كتابه عبارة عن مقارناته بين مؤلف الغزالي وبين آراء الفلاسفة لا بينه وبين كتاب تهافت التهافت لابن رشد أو لابن رشد نفسه، ومن جهة أخرى فهواكازادة لم يقم بأية مقارنة في كتابه بين تهافت الغزالي وتهافت ابن رشد، بل إنه لم يذكر ولو مرة واحدة اسم ابن رشد ولا عنوان كتابه.

أما موقف كتب التهافت من مسائل الدين والفلسفة فيمكن أن نقول: إنها لم تصل إلى درجة إحدث انسجام بين العقل وبين الإيمان كما فعله فيلون FHILON وترتولين والقديس TERTULIEN أوغستان، وطوماس، وليبنيز، وأيضا فإنه ليس في القرآن غيب لا يتصور العقل وجوده كغيب التثليث أو الحلول أو الفداء، لأن هذه من الغيب المسيحي، ولذلك لم يهتم فلاسفة الإسلام بمسألة تناقض العقل مع الدين، وكذلك يمكن التأكيد بان كتب التهافت الثلاثة لا ترمي إلى إثبات الديانة الإسلامية ولا سيما بالنسبة للغزالي، خلافا لما زعمه مهران MEHREN فليست الغاية إقامة البراهين أمام الفلاسفة على صحة الديانة الإسلامية للدفاع عنها ولا لقلب بعض الأنظمة الفلسفية على بعض كما فعل تيمون السيلوغرافي Le Syllographe THimon خلافا لما زعمه وبير WEBER (39)، بل الغاية المقصودة من هذه الكتب هي نقد ادعاء الذين يزعمون أنهم وضعوا (قالبا) نافعا مقنعا مشتملا على حجج برهانية لتبيين المسائل الأساسية للعقيدة الإسلامية، لأنه بالاعتماد على فكرة ضرورة قطع التسلسل اللانهائي للعلل، لا يمكن إثبات ضرورة قبول التوحيد وإنكار الازدواج أو الشرك بصفة مطلقة، فإن العقل يمكن أن يحكم على الروح كما لو كانت حاجة مادية، ولكنه لا يمكنه أن يؤكد بصفة قاطعة هل هي مادية أم لا، وكذلك بالنسبة للعالم، وللذات الإلاهية، فإذا فكر العقل في هذه المسائل استخرج بعض النتائج الممكنة، ولا يمكن أن يؤكد أية هذه الممكنات يتحقق! يمكن للعقل-كما قال الغزالي- أن يفكر في الحالات ولو كانت متناقضة، وبهذا فإن له الجدارة الكبرى أن يثري بمحتويات الفكر الذي يتصوره العقل، والكتب الإلاهية هي التي تستطيع أن تؤكد أية هذه الممكنات يتحقق، وحينما لا يستطيع العقل أن يتجاوز حدوده تظهر مواطن ضعفه.

وهكذا يصل الغزالي إلى نقطة ينفصل فيها الدين عن الفلسفة، لا لأن الديانة الإسلامية متعارضة مع قانون العقل العام كما هو الحال بالنسبة للعقيدة النصرانية، ولكن لأنه لا يمكن للعقل وحده أن يؤكد أية الممكنات يتحقق، وقد وصل ابن رشد لنفس ما قاله الغزالي حينما أكد إمكان الاتفاق في المسائل الدينية على خصوص النتائج الجدلية لا على البرهانيات، وحينما قبل نقد الغزالي، وقد أدى فعل ابن رشد إلى فصل الديانة الإسلامية عن الفلسفة الأرسطوطاليسية بصفة لا تقبل التوفيق، حيث أنه لم يقبل أولا تحديد الغزالي لإرادة الله كجواب على مسألة ما وراء الطبيعة، لماذا الوجود واللاوجود؟ وثانيا لأنه فسر الخلق بتحويل الشكل لا بإيجاد المعدوم(40).
والخلاصة أن مؤلفي كتب (تهافت) إذ لم يأتوا بأدلة برهانية، كونوا توفيقا حقيقيا بين الفلسفة وبين الدين.

                                                     عن مجلة الدراسات المتوسطية
                                          ETUDES MEDITERRANEENNES

جرأة صبي
بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سائرا يوما في طريق إذ وجد صبية يلعبون، فلما رأوه من بعيد فروا هاربين ما عدا واحدا منهم، هو عبد الله بن الزبير، فقال له أمير المؤمنين: لم لم تفر كإخوانك؟ فقال عبد الله في هدوء وثبات: لم أكن مذنبا فأخافك، ولم يكن الطريق ضيقا فأفسح لك. فسر أمير المؤمنين وربت على ظهر الطفل وقال له سيكون لك يا بني شأن كبير!

(2) ت، ج، دوبوير، التاريخ والفلسفة في الإسلام ص 157، لندن 1903 ليزاك، وج. قادري: فلسفة العرب في أوروبا في العصور الوسطى ص 125 وما بعدها، ترجمة هيري باريز 1947 بايو.
(3) ابن رشد وتهافت التهافت لندن 1954 ليزاك.
(4) وقعت ترجمته بأمر عبد الحميد الثاني للتركية بقلم سليمان حسيبي، رئيس المكتبة الملكية، والنسخة الوحيدة للترجمة بخط المترجم موجودة في خزانة جامعة اصطمبول تحت رقم 4213 وسيقوم صاحب هذا المقال بنشر ترجمة عصرية له مع تعاليق.
(5) في القرن السادس عشر ابن كمال باشا على هذا المؤلف باللغة العربية.
(6) نعني في هذا المقال بالوحي الديانات الإلاهية الموحى بها ولا سيما الإسلام.
(7) انظر دائرة المعارف الدينية للستينج ج 10 ص 745.
(8) فلاسفة اليونان لا يعالجون الشكل الشعبي للدين على أنه وحي، ويقول ميلون اليهودي: إن الكتب الخمسة للعهد القديم موحى بها، وهي قانون الدولة، وهي تامة، ونفس الحقيقة، بينما الفلسفة خادمة العقل يعني من المنشئات ا. ه. وولفسون، الفلسفة ج1 ص 139-145-150 ط 2 لكمبردج 1948 المطبعة الجامعية.
(9) من جهة يجب تبيين فكرة إيجاد المعدوم الذي هو أجنبي تماما عن فلسفة اليونان، ومن جهة أخرى مناقشة التثليث الذي هو مستحيل عقلي، وكذلك مسألة البعث والحلول والإخلاص، انظر ووبير في تاريخ الفلسفة الأوروبية ص 132 الطبعة التاسعة باريز 1925فسكاشرا.
(10) يجب أن ننبه إلى أنه ليس في العقيدة الإسلامية غيبي، وأيضا نظرية المسلمين في العقل تختلف عن نظرية المسيحيين، انظر جارد قنواتي في المدخل للعقيدة الإسلامية ص 321 و345 باريز 1948 فرين
المعرب: في الإسلام غيب وشهادة، ولكنه لا يتنافى مع العقل مثل غيب التثليث المسيحي، وقد أوضح علماء الكلام أن المقصود بموافقة العقيدة للعقل أن لا تكون من قبيل المستحيل العقلي، وهو ما لا يتصور في العقل وجوده دون استناد إلى عادة أو شرع، فإطلاق الأبوين جارد وقنواتي ليس في محله.
(11) أحمد أمين، فجر الإسلام ص 234 طبعة القاهرة 1945 لجنة التأليف، وضحى الإسلام ص 8-11 طبعة 4، 1946 م.
(12) المعرب: كلام الكاتب هنا ليس على إطلاقه، فعلم الكلام ليس مبدأه الدين المحض، ولكن مبدؤه النظر كالفلسفة، وإنما الفرق بينهما هو أن علم الكلام فلسفة إسلامية مبتكرة لا تقوم على أسس التي وضعها اليونانيون، ولكنها تقوم على أصول أثبتها فلاسفة المتكلمين، ضاهوا بها فلسفة اليونان، وإن اختلفت عنها، ويمكن تبيين ذلك من مراجعة كتاب ابن تيمية (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)، وقد بين الأستاذ النشار في كتابه (منهج التفكير عند المسلمين) هذا المعنى، فاجتهاد المسلمين اتجه أولا من جهة النظر إلى استعمال العقل لإثبات أصول أولية، ثم اعتمدوا عليها في إثبات بقية المبادئ الإلاهية وقد بذلوا كل جهدهم لإثبات أن حجج الملاحدة وقدماء الفلاسفة في المسائل المعروضة ليست صحيحة أو على الأقل ليست برهانية، وفي هذا الإطار يدخل كتاب تهافت الفلاسفة كما بينه الكاتب نفسه.
وللمسلمين مدرسة فلسفية يونانية خاصة بهم، وهي مدرسة ابن سينا وابن رشد وأمثالهما ممن اعتمدوا في بداية فكرهم على تعاليم أريسطو وحاولوا التوفيق بينها وبين الدين، وهو ما لم يصلوا إليه، أوضحوا في سبيله أصولا دينية لا يمكن التنازل عنها لتحقيق جوهر الدين، وهو ما عني فلاسفة المسلمين من غير المدرسة اليونانية بتوضيحه.
(13) الغزالي: تهافت الفلاسفة ص 5-6-9.
(14) كان مينك MUNK الذي فهم الغزالي، على حق حينما انتقد شمولديرس
انظر: مزيج من فلسفة اليهود والعرب ص 372 باريز 1859.
(15) مهران، درس لفلسفة ابن رشد وصلتها بابن سينا والغزالي بعثة الشرق 1887-1888 ص 622.
(16) للمناقشات التفصيلية انظر التهافت ص 144-193-221.
(17) (ابن رشد والرشدية) لرينان ص 89 ط بسيشاري باريز 1949 كالمان ليفي، وإبراهيم مذكور: مكان الفارابي في مدرسة الفلسفة الإسلامية ص 54 باريز 1934 الدار الجديدة. وقادري: الفلسفة العربية ص 123-135 وصلبية: الغزالي وزعماء الفلاسفة صحيفة 412.
(18) التهافت ص 293 ويجب التنبيه إلى الفرق الكبير القائم بين الغزالي وبين الرشديين المسحيين في القرن السادس عشر الذين يقبلون النظرية الإرادية التي تقول بإمكان الإلاه أن يجعل المستحيل ممكنا، وعليه فيمكن وقوع الشيء وضده في آن واحد، وانظر ساسان في: سيجرد وبربان وعقيدة (ازدواج الحقيقة ص 179، مجلة المدرسة الكلامية الجديدة للفلسفة Neoscolastique
.La PHilosophie de عدد 29، المشرق 1939، وأيضا جونيير نظرية ابن رشد في صلة الدين بالفلسفة ص 57، باريز1909.
(19) التهافت ص 65-66.
(20) المعرب: يظهر أن كاتب المقال لم يفهم مقصود الغزالي هنا، فصاحب التهافت لا يقصد بقوله: (ما كان ممكنا في وقت يصير مستحيلا في وقت آخر ) إمكان وقوع المستحيل العقلي، لأنه بين أن قدرة الله لا تتعلق بالمحال العقلي، وإنما قصده أن ما كان ممكنا كالماضي يصير بمروره مستحيل الرجوع أو عدم الوقوع لأنه قد وقع، ولا يمكن رد الزمن إلى وراء، وإلا لزم عليه أن المستحيل يصير ممكنا، وإذن فلا تناقض في كلامه، أما الرشديون المسيحيون فقد ادعوا عكس قضية الغزالي، المنطق الذي يسلم بعدم وقوع المستحيل العقلي، وهو ما أجمع عليه فلاسفة الإسلام، سواء رجال المدرسة الكلامية أو رجال المدرسة الأرسطوطاليسية أو غيرهم.
(21) التهافت 353.
(22) المعرب: يفهم الكاتب أن جملة الغزالي: (إذا أراد الإلاه فعل، وإن لم يرد لم يفعل) مجرد إقرار لمبدأ لا يصحبه برهان، وهذا غير صحيح، فالغزالي يضع برهانه في جملته، لأن ذكر الإلاه قصد به الاستدلال بهويته على صفة إرادته، فالغزالي يعتمد على أن وجود الإلاه معترف به من الذين يجادلهم وتلك هي المقدمة الأولى، ثم يأتي بمقدمة كبرى وهي أن الإلاه إذا أراد فعل الخ… وهي تعادل ما لو قال: وكل إلاه لابد أن يوصف بأنه يفعل ما يريد، والكل متفق على أن ماهية الإلاه لا تتحقق إلا بقدرته على الخلق دون أن تحده الممكنات.
ومثل هذا يقال في الجملة الثانية وهي: (الفاعل الحقيقي هو الذي يوجد الشيء من العدم) فإن فيها برهانا، لأن من يركب المنحل ويحل المركب يصنع الأمر من مواد سابقة، والفاعل الحقيقي هو الذي يوجد هذه المواد من لا شيء، وهو الذي يستحق اسم الإلوهية، لأنه الفاعل الذي يقطع تسلسل العلل، فليس في كلام الغزالي تناقض، خلافا لما فهمه كاتب المقال، وجملة الغزالي هنا شبيهة بقوله تعالى: ?‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا? [الأنبياء: 22]، ففي الثانية حجة برهانية لمن يقر بوجود إلاه، وإنما ينازع في وحدانيته، وهو المقصود بالخطاب، لأنه إذا اعترف بوجود إلاه، وكانت ماهية الإلاه لا تتحقق إلا بتنفيذ إرادته المطلقة وكان هنالك إلاه ثان بكامل الماهية، تناقضت الارداتان ووجب تحققهما معا وهو ما لا يمكن، وما تفسد معه السماوات والأرض.
(23) تهافت التهافت ص 532 المطبعة الكاثوليكية بيروت سنة 1930.
(24) من هذه الجهة لم يبالغ ابن سبعين حينما انتقد ابن رشد، انظر ماسينيو: ابن سبعين والنقد النفسي في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وروجيير في: (الفلسفة الكلامية والطومية ص 346-348، ومعقولية ابن رشد من دراسة للخلق ص 55 نشرة الدراسة، المشرق، دمشق 1954) فقد أشاروا بنفس التلميح لعمل ابن رشد العقلي، وعليه فليس من الممكن أن نقبل رأي هوار HUART الذي اعتبر ابن رشد (كأعظم وجه مدافع عن حرية البحث ضد الغزالي)، انظر الجريدة الأسبوعية 15 المجموعة العاشرة 1910، ص 355-357.
(25) تهافت التهافت ص 520.
(26) فصل المقال ص 8-19-21-32 وبهذا الاعتبار عد ابن رشد الغزالي ملحدا حيث أنه عالج المسائل الدينية أمام الجمهور.
(27) النظرية ص 111.
(28) المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ص 130-131 باريز 1923 لوروكس.
(29) جوتيير، ابن رشد ص 226 باريز 1938.
(30) الدين وأساتذة الرشدية، مجلة العلوم الفلسفة والكلامية 1911.5. ص 491.
(31) الفصل ص 18-19.
(32) تهافت التهافت ص 443.
(33) اقبسة كاذبة للجدل du SYLLOGISME des PAROLOGISMES 1910 والعلوم الكلامية والطومية 1925
(34) علم الكلام الإسلامي ص 238-240-356-357.
(35) تهافت الفلاسفة ص 5 القاهرة 1302 (1885) المطبعة الأميرية.
(36) في هذا الموضوع انظر جواشون في (الفرق بين الجوهر والوجود عند ابن سينا ) باريز 1937 برووب
(37) هواكازادة في تهافت الفلاسفة ص 86.
(38) عدنان (العلوم عند الترك العثمانيين من البداية إلى آخر العصور الوسطى) أرشلون ص 356-19-1937.
(39) هوتن في الفلسفة من دائرة معارف، الإسلام.
(40) وعليه فلا يمكن إذن التوفيق في الغمق بين الفلسفة الأرسطوطاليسية وبين الديانة الإسلامية، انظر جولد زهير في كتابه: موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل، تعريب عبد الرحمان بدوي، في (الثرات اليوناني) ج 2 ص 125-126 القاهرة 1946. مطبعة النهضة. وانظر اللار في (معقولية ابن رشد) ص 53.

المصدر: علال الفاسي، العدد 7 دعوة الحق، يناير 1958

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى