المعارضة بين الأمس واليوم.. من النضال الفكري إلى النصب والارتزاق السياسي

لطالما كانت المعارضة في المغرب امتدادًا لصراعات فكرية وإيديولوجية كبرى، حيث شكلت تيارات اليسار، والقومية، والإسلام السياسي، والليبرالية بدائل فكرية وسياسية حاولت تقديم رؤى متباينة لمستقبل المغرب. لم يكن المعارضون مجرد أصوات صاخبة، بل كانوا قادة رأي ومفكرين يمتلكون تصورات واضحة، ويعتمدون على برامج سياسية تستند إلى مرجعيات فكرية عميقة.
المعارضة في المغرب.. من النخبة الفكرية إلى الشعبوية المشبوهة
في العقود الماضية، برزت أسماء مثل المهدي بنبركة، الفقيه البصري، أبراهام السرفاتي، وادريس بنزكري، شخصيات عبرت عن مواقفها السياسية بجرأة، لكنها كانت تحظى باحترام النظام نفسه. لقد كان هؤلاء رموزًا للمعارضة الفكرية والبراغماتية، التي رغم اختلافها مع السلطة، لم تكن تنطلق من مواقف غوغائية أو شعبوية، بل من أسس فكرية متينة.
بل إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يقدر هذه الشخصيات، رغم مواجهاته السياسية معها. ومما يُروى أنه عندما تم اعتقال عبد الرحيم بوعبيد سنة 1981 بسبب موقفه الرافض للاستفتاء حول الصحراء، كان يوصي به خيرًا، إدراكًا منه أن بوعبيد ليس مجرد معارض يبحث عن الإثارة، بل رجل مؤمن بمواقفه السياسية، يحمل رؤية ومسؤولية تجاه بلده، رغم معارضته لقرارات السلطة.
لكن مع مرور الوقت، تبدلت قواعد اللعبة، وظهرت أنماط جديدة من المعارضة لا تمت بصلة إلى النخبة الفكرية والسياسية الحقيقية، بل تمثل ظاهرة الشعبوية الموجهة، والارتزاق السياسي، والنصب الإلكتروني وخدمة الأجندات الخارجية. وهنا يبرز نموذج هشام جراندو، الذي لا يحمل مشروعًا سياسيًا أو فكريًا، بل يجسد “المعارض المأجور” الذي يسعى فقط لإثارة الفوضى والتشكيك في كل شيء، دون أي التزام حقيقي بقضايا الوطن.
من معارضة البرامج إلى معارضة “الضجيج”
في الماضي، كانت المعارضة تقوم على أرضية فكرية متينة، حيث نجد أن كل حزب أو تيار معارض كان يمتلك برامج اقتصادية، اجتماعية، ودبلوماسية بديلة، وكان هناك خطاب نقدي عقلاني يستند إلى الحقائق والبيانات. أما اليوم، فقد تحولت المعارضة إلى ظاهرة صوتية قائمة على استثمار الأزمات والترويج للأكاذيب والإثارة الإعلامية.
يتمثل نموذج هشام جراندو في هذا النمط من المعارضة، حيث لا يقدم حلولًا، بل يركز على إثارة القضايا بطريقة مشوهة، معتمدًا على التضليل الإعلامي، واستهداف رموز الدولة، ومحاولة إضعاف المؤسسات الشرعية، خدمة لأجندات غير وطنية.
من المعارضة الوطنية إلى معارضة الخارج
المعارضة الحقيقية تنشأ داخل الوطن، وتناضل من داخله، وتسعى إلى الإصلاح دون المساس باستقرار الدولة. لكن اليوم، نشهد بروز معارضة افتراضية، تتبنى مواقف ممولة خارجيًا، لا تلتزم بأي رؤية وطنية، بل تعمل على تنفيذ مخططات مشبوهة تهدف إلى إضعاف الدولة وزعزعة الاستقرار.
الفرق الجوهري هنا هو أن معارضة الأمس كانت تعمل من أجل إصلاح الدولة، بينما معارضة اليوم تعمل لصالح أجندات تهدف إلى إضعافها.
المعارض الحقيقي كان مستعدًا لدفع ثمن مواقفه وتحمل تبعاتها، بينما معارضو اليوم يمارسون “المعارضة المريحة”، حيث يحصلون على دعم مالي وإعلامي خارجي دون أي التزام أخلاقي تجاه الوطن.
الشعبوية كأداة لتشويه الوعي الجماعي
تعمل المعارضة الحديثة، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على خلق خطاب شعبوي يهدف إلى إثارة الرأي العام دون تقديم أي تحليل عميق أو رؤية مستقبلية. ومن أبرز ملامح هذه الشعبوية:
– التركيز على الإثارة بدلاً من تقديم الحجج العقلانية.
– تشويه صورة الدولة دون تقديم بدائل حقيقية.
–استغلال القضايا الاجتماعية والاقتصادية بطريقة انتهازية مشبوهة.
– توظيف وسائل الإعلام الأجنبية للترويج لروايات مشوهة عن الواقع المغربي.
إن الهدف الأساسي لهذا النمط من المعارضة ليس الإصلاح، بل التشكيك وزرع الفوضى في العقول، مما يجعله أداة خطيرة لإضعاف الثقة بين المواطنين ودولتهم.
نحو إعادة الاعتبار لمفهوم المعارضة الحقيقية
إذا كان المغرب قد عرف معارضة حقيقية في الماضي، فإن التحدي اليوم هو إعادة بناء فضاء معارض قائم على الفكر والمسؤولية، وليس على المغالطات والاسترزاق السياسي.
إن المعارضة الحقيقية هي التي تعمل على تقديم بدائل، لا الاكتفاء بالصراخ والتشكيك. و المعارضة المسؤولة هي التي تعترف بإنجازات الدولة، وتنتقد أخطاءها بطريقة بناءة. و المعارضة الوطنية هي التي ترفض التمويل الأجنبي المشبوه، وتبقى وفية لمصلحة البلاد، لا لمصالح جهات خارجية.
إن المغرب بحاجة إلى معارضة قوية، ولكن ليس من طراز هشام جراندو وأمثاله، الذين حولوا المعارضة إلى تجارة، وباتوا مجرد أبواق مأجورة تخدم مخططات خارجية ضد بلدهم.
المعارضة الحقيقية هي مسؤولية وأمانة قبل أن تكون موقفًا سياسيًا، ومن يريد أن يعارض، فعليه أن يكون في مستوى القامات التي صنعت تاريخ المغرب النضالي، لا مجرد ظاهرة إعلامية زائلة وفقاعات سرعان ما تتلاعب بها الرياح وتختفي في غياهب التفاهات.
أوليماغ Oulemag