يتعرض الباحث في تاريخ إفريقيا السوداء إلى صعوبات جمة ناشئة عن انعدام المصادر. وخاصة منها المصادر البعيدة عن الأغراض والتي لا يتطرق الشك إلى صحة روايتها. وهناك عقبة كأداة لم يستطع الباحثون لحد الآن أن يدللوها لمعرفة حقيقة المدنيات التي تعاقبت على إفريقيا السوداء وهي فقدان الكتابة خلال قرون عديدة، إلى القرون الوسطى حين أدخل الفتح الإسلامي في الجزء الغربي بالخصوص من هذه القارة الكتابة العربية فأصبحت لغة التراسل والمعاملات والعقود وما إلى ذلك. وإذا عرفنا أن نشوء الممالك الإفريقية يرجع إلى بدء التاريخ، أدركنا ما أضاعه عدم استعمال الكتابة من أخبار الدول والمدنيات التي نشأت في إفريقيا السوداء.
وإن الباحث ليندهش من وفرة الدول والممالك التي شهدتها هذه الأرض والتي لم يبق من أغلبها إلا الأسماء. فلقد عفت آثارها تحت مفعول الأحداث الجسام التي مرت على إفريقيا السوداء منذ فجر التاريخ إلى الآن. إذ كانت على الدوام مسرحا لقيام دول وزوال أخرى. وكل دولة تأتي إنما كانت تقوم على أنقاض سابقتها. فلا يبقى من آثارها -بسبب انعدام الكتابة- إلا ما يتناقله المنشدون والعامة من أساطير وخرافات مما جعل الباحثين المعاصرين ييأسون من كتابة تاريخ هذه القارة عبارة عن مشاجرات قبلية لا تستحق الذكر. وهو زعم باطل كما سنرى من خلال حديثنا عن بعض الممالك الإسلامية.
ثم إن الغزو الأوروبي منذ القرن السابع عشر إلى اليوم قضى على ما تبقى من المصادر التي يمكن أن يرجع إليها الباحث في تاريخ إفريقيا السوداء. إذ زيادة على ضياع الكثير من الكتب التاريخية خلال الأحقاب الأخيرة بسبب الإهمال والحروب، فقد نقلت وثائق كثيرة إلى المكاتب الأوربية ولم يعرف ما تتضمنه لحد الآن. بينما أخذ بعض أدعياء التاريخ من الأوربيين يضعون مؤلفات أبعد ما تكون عن النزاهة فيرفعون من شأن الغزو الأوروبي ويحطون من قدر المقاومين الأبطال الذين اعترضوا سبيله، كما ينالون من مكانة الدول التي نشأت قبل هذا الغزو بعدة قرون. وأغرب من هذا وذاك أن تاريخ إفريقيا السوداء في نظر هؤلاء إنما يبتدئ من الغزو الأوربي. وكل ما سبق هذا الغزو إنما هو لغو وأساطير إن لم يكن همجية ووحشية.
على هذا الأساس كان يلقن تاريخ إفريقيا السوداء إلى الناشئة.
ومن حسن الحظ أن استرجاع هذه القارة لحريتها اقترن بنهضة تاريخية بدأنا نشاهد بوادرنا الآن، حيث راح كثير من الباحثين الأفارقة ينقبون على دفائن تاريخهم، ويحاولون استكناه أسرارها. وظهرت بعض المؤلفات التي تشير إلى المدنيات التي تعاقبت على هذه القارة. ويشارك في هذا المجهود بعض المنقبين الأوربيين كذلك.
إنه مجهود ما يزال على طور الابتداء، لكنه ينبئ عن حضارات زاهرة سبقت الحضارة الحديثة بقرون.
وفيما يخص الموضوع الذي جعلناه حديثا اليوم وهو الممالك الإسلامية في إفريقيا السوداء، فإن هناك بعض المصادر التي يمكن أن يرجع إليها الباحث. فهي وإن كانت لا تفي بكل جوانب الموضوع إلا أنها تعطي صورة تقريبية عما بلغته هذه الممالك من ازدهار ورقي.
وفي المقدمة نجد المصادر العربية لأشهر المؤرخين والجغرافيين والرحالة. وذلك أن إفريقيا السوداء مذ كانت وهي متصلة بالمغرب وإفريقيا الشمالية عموما، خصوصا بعدما دخل الجمل إلى هذه القارة قبل فجر التاريخ بقليل فأحدث ثورة في طرق المواصلات لا تقل في ذلك العصر عن الثورة التي أحدثتها المواصلات الجوية في تقارب الشعوب في عصرنا هذا.
ومن العرب الذين عنوا بأخبار إفريقيا السوداء نجد ابن حوقل في القرن العاشر. وقد رحل إلى إفريقيا، والبكري في القرن الحادي عشر، والإدريسي في القرن الثاني عشر، وياقوت الحموي في القرن الثالث عشر، وابن خلدون، والعمري في القرن الرابع عشر، ثم ابن بطوطة في القرن الرابع عشر كذلك وحسن بن محمد الوزان المعروف بليون الإفريقي في القرن السادس عشر وكلاهم رحل إلى إفريقيا السوداء.
ثم خلف هؤلاء المؤرخين سود من بينهم محمد الكوتي من أبناء النيجير، وقد ألف تاريخا أسماه “تاريخ الفتاش” وعبد الرحمان السعدي من مواليد تيمبكتو وهو صاحب كتاب تاريخ السودان. ونجد أيضا مؤلفا ثالثا اسمه تذكرة النسيان لمؤلف مجهول.. ثم بدأت أوربا تشرئب لتملك الأقطار الإفريقية وأخذت تزحف بإرسالياتها وجيشها لاحتلال القارة السوداء، ومنذ لقرن السابع عشر، عنى المؤلفون البرتغاليون والهولنديون على الخصوص بأخبار هذه الأقطار، وتبعهم باقي الكتاب من مختلف الأجناس.
من خلال الأخبار التي رواها المؤرخون والجغرافيون والرحالة العرب ثم المؤرخون السودانيون نستطيع أن نكون فكرة عن الممالك الإسلامية التي نشأت بإفريقيا السوداء ومدى ازدهارها. ويجدر أن نشير بادئ ذي بدء أن عدد هذه الممالك من الوفرة بحيث لا نستطيع أن نلم بها، فضلا عن استقصاء أخبارها في هذا الحديث، ولهذا فسنقتصر على ذكر الممالك التي نشأت بالخصوص في إفريقيا الغربية والتي كانت لها علاقات مكينة ببلادنا من أقدم العصور. وأثر في المغرب تأثيرا مباشرا. ونعني بهذه الممالك على الأخص : مملكة غانا ومملكة مالي ومملكة السغاي. ويحسن قبل أن نتعرض إلى أخبار هذه الدول أن نشير إشارة خفيفة إلى أصل امتداد الإسلام إلى إفريقيا السوداء.
امتداد الإسلام إلى إفريقيا السوداء.
لقد امتد الإسلام إلى هذا الجزء من قارتنا عن طريقين : طريق المغرب متخطيا جنوب بلادنا تجاه موريتانيا ومتغلغلا في السوادل الغربية إلى ضفاف النيجير، وطريق مصر على طول النيل أو طرابلس إلى البلاد الإفريقية الشرقية الواقعة على البحر الهندي. ولم يكن إشعاع نور الإسلام من هذين اطرفين بدعا، فهما الطريقان اللذان سلكتهما كل من مصر الفرعونية وقرطاجنة وبيزنطة قبل ذلك لحمل مدينة البحر المتوسط إلى أعماق إفريقيا. وقد كانا طريقي المبادلات التجارية بين إفريقيا الشمالية وإفريقيا السوداء قبل التاريخ بعدة قرون.
ونجتزئ في هذا الحديث بالتعرض إلى امتداد الإسلام عن طريق المغرب، لعلاقة ذلك بالممالك التي سنفضل الحديث في شأنها.
لقد دخل الإسلام إلى إفريقيا الغربية عن طريق المغرب كما تقدم لنا عبر صحراء موريطانيا التي كان يسكنه الملثمون من قبيلة صنهاجة البربرية على ما ذكره المؤرخون وفي مقدمتهم ابن خلدون. وأقام الملثمون دولة قبل الإسلام في الصحراء بعدة قرون وكانوا يدينون بالمجوسية. فقد روى ابن خلدون : “كان دين صنهاجة أهل اللثام المجوسية شأن برابرة المغرب، وما يزالون مستقرين بتلك المفالات الصحراوية حتى كان إسلامهم بعد الأندلس” وروى صاحب كتاب الاستقصاء أبو العباس أحمد بن خالد الناصري أن امتداد الإسلام إلى صحراء موريتانيا كان على يد القائد العربي والصحابي الجليل عقبة بن نافع في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وفي هذا الصدد يقول صاحب الاستقصاء: “وصل عقبة بن نافع إلى جبال درن ودوخ بلادهم ثم أجاز إلى بلاد سوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام، وهم يومئذ على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية..”
وغير خاف أن الفتح الإسلامي الأول لبلاد المغرب بمفهومه العام أي شمال إفريقيا قد أعقبته فتن كثيرة امتدت عدة أجيال، فاصطدم هذا الفتح بعراقيل، ومقامات. وكان السكان يعتنقون الديانة الجديدة ثم يرتدون عنها، ونشأت عدة فرق إسلامية تبعا لما أصبحت عليه الحال من تفريق كلمة المسلمين بعد موت عثمان. ولم تتوطد أركان الدعوة الإسلامية في المغرب إلا بعد مجيء إدريس وقيام دولة الأدارسة، ومن ذلك الحين أصبح المغرب القاعدة الأمامية للإسلام، وشعت من جوانبه الرسالة المحمدية نحو الصحراء وما تلاها من إفريقيا السوداء إلى حدود نهر النيجير.
دور الصحراء في نشر الإسلام
وإذا كان سكان الصحراء الملثمون من برابرة صنهاجة قد اعتنقوا الإسلام تدريجيا، فإن إسلامهم كان سطحيا حيث احتفظوا بتقاليدهم وأساليبهم الموروثة عن عهد ما قبل الإسلام. ولم يتعمقوا في هذا الدين إلا على عهد المرابطين. ولا محل هنا لذكر تفاصيل الدعوة التي قام بها عبد الله بن ياسين ويحن إبراهيم الكدالي والصعوبات التي لقياها في نشر الإسلام إلى أن أقاموا رباطهم على ضفاف نهر السينغال، فكان لهذا الرباط الدور الحاسم في قيام دولة المرابطين وامتداد نفوذها في المغرب بأسره والأندلس، كما كان له الأثر البعيد في تغلغل الدعوة الإسلامية بأعماق إفريقيا السوداء.
إن دور الصحراء موريتانيا في نشر الدعوة الإسلاميةبإفريقيا السوداء وحمل مشعل الحضارة العربية بصورة عامة والمغربية منها بوجه خاص دور عظيم لم يقدر له أن ينشر بعد ليعرف النشء الحديث كيف أن الأجداد لم يكونوا يقيمون وزنا للفيافي والقفار وأنهم أخذوا من هذه الصحراء القاحلة جسرا يعبرونه بدلا من أن يعتبروها حاجزا يتوقفون عند حده، هذا في وقت كانت فيه المواصلات تقتصر على الإبل، وهو أمر يدعو إلى الاندهاش والإعجاب في آن واحد.
إن الإمبراطورية الرومانية رغم اتساع رقعتها لم تستطع أن تتوغل في القارة الإفريقية. والمعروف أن زحفها وقف عند حدود معينة في المغرب، فلم يتعدها، بينما امتد الفتح الإسلامي إلى القارة السوداء في سرعة فائقة، لم يكد العرب المسلمون يمهدون إفريقيا الشمالية والصحراء الغربية أي موريتانيا بالاصطلاح الحديث حتى جردوا فصيلة لغزو السوادين، فما كاد يمضي قرن على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دخل الغزاة العرب إلى الجزء الغربي من إفريقيا السوداء بقيادة حبيب بن أبي عبيدة “ومن ذلك التاريخ لم ينقطع الاتصال بين العالم العربي وإفريقية الغربية السوداء(1).
وذكر أحد علماء الآثار المعاصرين(2)، إن الفترة المتراوحة بين 622 و1434 تمتاز بصفة جديرة بالإشارة، وهي “تأثير المدنية العربية –البربرية الإسلامية وحدها من الخارج على إفريقيا الغربية : إن الاتصالات التي استمرت طوال ثمانية قرون كان لها الأثر الحاسم على هذه البلاد وخاصة على الصحراء والسهول التي أصبحت تحمل علامة ثابتة لهذه المدنية. لقد استعمر العرب الصحراء الغربية فكونوا باختلاطهم مع البربر الشعب الموريطاني. ثم اعتنقت الإسلام شعوب الصحراء وكذلك سكان سهول إفريقيا السوداء. وأخذت ترد على هذه النواحي آثار المدينة العربية على اختلاف أنواعها. وجعل سكان المغرب من هذه النواحي مناطق تابعة لهم من الوجهة الاقتصادية”.
وأشار نفس المؤلف في موضع آخر إلى أن غرب إفريقيا ظل متجها نحو إفريقيا الشمالية حتى بعد تسلط أوربا على القارة السوداء.
قاسم الزهيري
يتبع
1- L’ouest africain au moyen-Age : R. Mauny p 25.
2- نفس المؤلف ص 18
المصدر: دعوة الحق، العدد48، مارس 1962