دراساتslider

الهجرة الأوربية إلى إفريقيا قبل الحرب العالمية الأولى

ترجم هذا المقال من كتاب «تاريخ العلاقات الدولية» الجزء السادس -الفصل الخامس عشر، والكتاب جزء من سلسلة تاريخية تطبع تحت إشراف المؤرخ الكبير بيير رنفن. وأما الجزء السادس فمن تأليفه وهو يعالج الفترة التاريخية (1870 – 1914) .
باتت أرض إفريقيا مستعمرة أوربية باستثناء دولتين كانتا مستقلتين وهما جمهورية ليبيريا ( Liberia) وايثيوبية ( Ethiopie) . وكان جزء من السكان في الأولى يتكون من الزنوج الذين أرجعتهم الولايات المتحدة إلى موطنهم. وفي الثانية عمدت كل من بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا (سنة 1906) إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ اقتصادي. وقد أحدث الاستعمار الأوروبي المباشر تعديلات في أصناف العقلية. لكن الأحوال كانت تختلف جدا في المناطق المتوسطية – من البحر الأحمر إلى المغرب حيث يسود الدين لإسلامي بشكل لامع، عنها في إفريقيا الجنوبية التي كثر فيها الأوربيون كثرة قوية، وأخيرا في إفريقيا السوداء.
نعم ارتبطت إفريقيا الشمالية بصرف النظر عن طرابلس وبرقة ارتباط وثيقا عن طريق التوسع أما الاحتلال الايطالي للمقاطعتين الليبيتين فلم يكن آنذاك إلا في مهده حيث لا زال الايطاليون لم يشرعوا في الهجرة السكنية.
ففي مصر نجد أن أغلب السكان مسلمون وأن الأقباط يشكلون أقلية لا يستهان بها وأن الأوربيين الذين استوطنوا البلاد والذين بلغ عددهم 120 ألفا، كانوا لا يشتغلون بالنشاط الزراعي إلا قليلا: إذ كان ستة الآف من بينهم فقط يملكون قطعا أرضية وكان مجموع مساحة هذه القطع يبلغ350 ألف هكتار أي ما يعادل ١٤ في المائة من الأراضي المزروعة. أما الأعمال الأخرى المتعلقة بالطرق العامة والمواصلات وبالصناعة والتجارة فكانت كلها تقريبا في يدهم. وكم كان هناك من خلاف، مع هذا كله، بين الانجليز (20 ألفا) الذين كانوا يشغلون مناصب القيادة المدنية أو العسكرية كضباط وموظفين ومهندسين ونجار كبار وبين الفرنسيين (14 ألفا) الذين كانوا يمثلون مختلف الطبقات الاجتماعية من رجل الأعمال الكبير إلى التاجر البسيط، وبين الإيطاليين (30 ألفا معظمهم من ترييستا) الذين كانوا كلهم صناعا على وجه التقريب وبين اليونانيين وبتقديم القروض المالية بالفائدة إلى جانب بيع المشروبات. ومع أن هؤلاء الأوربيين جميعهم كانوا ضعاف الحال إلا أنهم يتمتعون بنظام امتيازي كانوا بموجبه معفون من أداء الضرائب المباشرة ومن الخضوع للمحاكم المحلية القضائية.
ليس من شك في أن هذا الوجود الأوروبي وبوجه خاص وجود الانجليز منذ سنة 1882 أدى إلى نهوض عظيم في الحياة الاقتصادية: فأشغال الري المنجزة خلال إدارة اللورد كرومر (لم تنته هذه الإدارة إلا في سنة 1907) زادت في مساحة الأراضي المزروعة وساعدت على تنمية القطن أو قصب السكر. كذلك أقيمت سكك حديدية (4 آلاف كم في سنة 1913) في مصر بالمعنى الضيق لهذه الكلمة أي بغض النظر عن الخط الذي يربط الإسكندرية بالخرطوم.

أن مصر مدينة بهذا التحول إلى توارد رؤوس الأموال الأجنبية عليها. وإلى غاية سنة 1903 كان نصيب الاستثمارات الفرنسية وافرا جدا ولم يلبث أن أنهار بين سنتي 1904 و 1914 لفائدة الاستثمارات الفرنكات الذهبية.
إلا أن هذا الازدهار لم يعمل على تحسين مصير الفلاحين، بل نراه في أغلب الأحيان يزيد في خطورة الحالة عندهم، لأن هذا العدد الصغير من الملاكين لقطع الأرض لم يكن قادرا على تغيير طرائقة في الإنتاج، نتيجة لانعدام الوسائل المادية، فكانت النتيجة أن تحطم الفلاح وصار مملوكا، ثم أن أحداث مصرف زراعي لتقديم القروض له قد عطل لم تكن هذه الفئة من الفلاحين تفكر في الإخلال بالاستقرار السياسي: ولم تظهر مقاومة الوجود الإنجليزي إلا في أوساط الشبيبة المثقفة، إذ في سنة1904 أسس «الحزب الوطني» الذي كان يمثل الجانب المتطرف في الاتجاه الثوري في حين أن «حزب الأمة» الذي أنشئ سنة 1907 بقيادة سعد زغلول باشا كان يصرح أنه سيظل في الطريق القانونية. وأعتقد كرومر أن باستطاعته الانسجام مع المعارضة «الدستورية»، بل كان على ما يبدو يشجع مبادرة زغلول ليتحايل على «الحزب الوطني» وتلكم بادرة ندم عليها خلفاؤه
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن تغلغل التأثيرات الأوربية كان متفاوتا جدا في الجزائر حيث يرجع الاحتلال إلى ثمانين سنة، عنه في تونس التي لم يمر على إخضاعها للسيادة الفرنسية سوى ثلاثين سنة. ففي الأولى كان هناك نظام الإدماج الإداري والجمركي وكان هناك سكان بيض (فرنسيون وأسبانيون) يبلغون ربع مجموع السكان تقريبا، إلى جانب تشريع زراعي كان يهدف إلى إلغاء أشكال التملك الجماعي شيئا فشيئا وإعطاء الأهالي رسوم التملك الشخصي، وأخيرا أعطاء حق الانتخاب لبعض الإفراد من الأهالي. أما في الثانية فنظام حماية وتشريع جمركي هادف إلى احترام المصالح الأجنبية، وهجرة سكنية بيضاء كان الإيطاليون فيها أكثر عددا من الفرنسيين إذ كانوا (أي الإيطاليون) يتمتعون بموجب اتفاقات 1896 بقانون خول لهم بالنسبة لباقي الأجانب امتيازات متفوقة.

لكن النشاط الاقتصادي في كلتا الحالتين كان ينمو بفضل رؤوس الأموال الأجنبية سواء فيما يرجع لاستغلال مناجم الحديد في الونزة ( Ouenza) أو البوطاس في الجنوب التونسي أو الحلقة في النجود العليا الجزائرية أو الكروم (الدالية) في التل ( Tell) .

وفي الدولة العلوية ( Empire cherifien) لم يحس بعد بالوجود الفرنسي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، إذ المعارك التي سميت (بمعارك التهدئة) مايو ١٩١٤). ولم يكن ممكنا في هذا الوقت -كما لاحظ الجنرال ليوتي في تقريره- تشجيع الهجرة السكنية، ما دامت البلاد مجردة من الأعمال الأولى للتجهيز الاقتصادي. وبالفعل كانت هذه الأعمال ضعيفة جدا: لم تكن قد انتهت الطرق الثلاثة التي أقيمت لوصل الدار البيضاء بالرباط والجديدة ومراكش كما أن الإعلان عن المناقصة المتعلقة بأشغال مرفأ الدار البيضاء لم يكن قد تم إلا في مارس ١٩١٣: ثم أن مد السكك الحديدية كان لا يزال في طور الدارسة. إلا أن التجهيز المدرسي كان قد أنجز في المدن، لكن التلاميذ الأهليين لم يكونوا بشكل يشكلون إلا الثلث من المجموع الذي بلغ آنذاك عشرة آلاف تلميذ.

ولا جرم في أن جنوبي أفريقيا كان الجزء الأفريقي الذي انقلبت أحواله بأسرع ما يمكن نتيجة للتأثيرات الأوروبية، ذلك أن اكتشاف مناجم ألماس وبعدها مناجم الذهب في تخوم الترانسفال والأورانج أدى منذ فترة 1890 – 1895 إلى توارد المهاجرين الأوربيين، وذلكم ما دعا سيسيل من آل رودس إلى بسط السيادة البريطانية على أرضين جديدة وقصده من هذا تطويق جمهورتي البوير وتنمية الشبكة الحديدية التي بلغت سنة 1913 ما قدره من الكيلومترات 17000، ثم أن هذا الاكتشاف كان سببا حاسما في الحرب التي أدت سنة 1902 إلى إلحاق الدولتين الصغيرتين

وتبع استغلال هذه الثروات الباطنية توارد لرؤوس أموال أخرى: فبلغت الاستثمارات الانكليزية في إفريقيا الجنوبية 1250 مليونا فرنكا ذهبيا – أعني نفس المقادير التي استثمرت في الهند تقريبا. ونتج عن هذا الاستغلال أيضا تبدلات هامة في الوسط الاجتماعي الأهلي، فالزنوج الذين بلغوا درجة من التطور كالبانتوس ( Bantons والكافر Cafres ) ) أخذوا يوفرون باشتغالهم في المناجم مبالغ مالية خصصوها لشراء القطع الأرضية. فكانوا والحالة هذه فلقين أكثر من أي وقت مضى على انتقال جزء من الأرض من مالك أبيض إلى مالك آخر. وأخيرا فإن هذا التحول في الحياة الاقتصادية أغرى عددا من الصينيين وآخر من الهنود بوجه خاص على الهجرة. وقد أصبح الهنود في الناتال يفوقون من حيث العدد السكان البيض إلى درجة أنهم طالبوا، بتأثير من غاندي، بحق الانتخاب. وإلى جانب هذه النتائج الاجتماعية المترتبة عن النمو الاقتصادي حدثت تبدلات في عقلية الأوساط الأهلية بتأثير من البعثات التبشيرية: 300 ألف أسود في الدين المسيحي بواسطة البعثات البروتستانتية.

كان جنوبي أفريقيا والحالة هذه في منتهى النضوج. حقا أن السكان البيض (31 في المائة من مجموع السكان سنة 1910) كان عددهم كثيرا نوعا ما الأمر الذي دفع بهم للإمساك بيد من حديد على مقاليد الوضع. إلا أن البربر والانكليز كانوا أعداء، وأتى تضارب المصالح الاقتصادية فيما بينهما فزاد من حدة الأحقاد والضغائن. فمستقبل السيادة البيضاء كان رهينا أذن بالتوفيق بين هذين الجانبين. وتلكم هي الغاية التي كانت ترمي إليها السياسة البريطانية منذ سنة 1906. وهكذا منحت للترانسقال والأورانج قانونا خول لهما استقلال ذاتيا تشريعيا شبيها بالذي كانت تتمتع به بالفعل كل من مستعمرتي رأس الرجاء الصالح والناتال. أن تجاور هذه الأراضي الأربعة التي سلكت فيها الحكومات سياسات مختلفة من حيث الجبايات المالية والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية كان مع ذلك يمثل محاذير خطيرة: فكيف السبيل إلى تنظيم مد السكك الحديدية واستغلالها بشكل يرضى الجميع؟ وكيف الوصول إلى انسجام في التدابير الراجعة للعلاقات بين البيض وبين الأهالي؟ لقد تغلب صك الاتحاد ( Aete d’union) الذي دخل في حيز التطبيق ابتداء من 31 مايو 1910 على هذه الصعوبات. وحينذاك أصبحت سائر القضايا الأساسية من اختصاص برلمان جنوبي أفريقيا. وكان يقع انتخاب هذا البرلمان من قبل الانكليز والبوير علاوة على جزء من السكان البيض الذين كانوا يملكون أملاكا عقارية في مستعمرة رأس الرجاء الصالح. لا شك أن هذه التسوية لم ترض مجموع البوير: إذ ظلت هنالك (في الأورانج بالخصوص) حركة مقاومة ثابتة كان يغذيها «الحزب القومي»، إلا أن تحقيق اتحاد جنوبي أفريقيا في هذه الآونة كان ناجحا فيما يبدو.

وبالنسبة لإفريقيا السوداء -سواء تعلق الأمر بإفريقيا الغربية الاستوائية الفرنسية، أم المستعمرات الانكليزية في غامبيا ( Gambie) وسييراليون ( Sierra Leone) وشاطئ الذهب ونيجيريا وأفريقيا الشرقية، أم بالأراضي الألمانية في الكاميرون والتوغو وأفريقيا الشرقية، أم بالكونغو الذي أصبح مستعمرة بلجيكية منذ سنة ١٩٠٨، أم بالمستعمرات البرتغالية في كابيندا ( Cabinda) وأنغولا والموزابيك أم بالأراضي الصغيرة الاسبانية والهولندية في غينيا ( Guinee) – نجد أن الدول المستعمرة كانت ترمي إلى غاية مباشرة من الناحية الاقتصادية إلا وهي تنمية إنتاج المواد الغذائية والمواد الأولية التي كانت تخصص للتصدير إلى أوروبا. وللوصول إلى هذه الغاية نراها أقرت تشريعا زراعيا وأصدرت نصوصا قانونية تتعلق بتشغيل اليد العاملة وبتنظيم الاستغلاليات الزراعية والغابية والمعدنية.

إن التشريع الزراعي الذي قال عنه لوروابوليو ( Leroy-Beaulieu) منذ سنة 1880 بأنه «كان ما يظهر حجر الزاوية في أي نظام استعماري هادف إلى الهجرة السكنية»، هذا التشريع كان يهدف إلى إقامة توزيع للأراضي بين المستعمرين وبين الأهالي، ففي المستعمرات الفرنسية قررت الإدارة أن تدخل «الأراضي الشاغرة والتي لا مالك لها» في أملاك الدولة دون أن تبين السبيل إلى تمييز الحقوق التي أكتسبها السكان الأصليون، وأخذت الإدارة الانجليزية بأساليب مختلفة، فهنا في كينيا طبق نظام «الاحتفاظات» ذلك النظام الذي خصص للأهالي بعض المناطق دون أن يسمح فيها للمستعمرين بشراء الأراضي أو اكترائها، ثم احتفظ بباقي الأجزاء للأجانب لكي يستعمروها ولا يمكن للأهالي فيها إلا أن يكونوا عمالا بعرق الجبين، وهناك في أوغندا ألحق كافة الأراضي التي لم تكن في الملكية الخاصة للأهالي بأملاك التاج البريطاني. وتم ذلك بموجب أمر صدر سنة 1903، فكان أمرا خطيرا بحيث أنه لم يأخذ بعين الاعتبار التملك

ترجمة الأستاذ: عبد الحق بنيس

المصدر: ، دعوة الحق، نوفبر 1961

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى