رحلة العلامة عبد الله كنون إلى الحج

تقدم مجلة Oulemag لقراءها الكرام مقالة للعلامة عبد الله كنون يروي فيها جوانب من رحلته إلى الحج.
ويعد عبد الله كنون واحدا من أعلام الكبار ، ساهم في إرساء قواعد النهضة العلمية والأدبية في المغرب. ورفض تقديم البيعة لابن عرفة الذي أرادت فرنسا تنصيبه ملكا.
ويعد كتابه (النبوغ المغربي في الأدب المغربي) من أهم ما أنجز في ميدان البحث الأدبي العربي.
شغل العلامة كنون منصب رئيس رابطة علماء المغرب 1961 حتى وفاته عام 1989 في مدينة طنجة.
مشاهداتي في الحجاز
لما تفضل جلالة الملك نصره الله بتعييني في وفد الحج الرسمي لسنة 1958 كان ذلك مفاجأة لي حقا، وإن تكن مفاجأة سارة، وليس السبب هو أنني لم أكن أفكر في الحج، وهو فرض من فروض الإسلام، ولكن لأن موسم الحج كان قد اقترب، ولم يبق له إلا أيام قلائل، أسبوع أو أسبوعان، بل أسبوع فقط، لأن الأسبوع الثاني فيه سيكون السفر، فكيف يأتي الاستعداد لهذه السفرة الطويلة والشاقة في مثل هذه المدة القصيرة؟ وهناك مهمة الوفد، وما هي هذه المهمة؟ لم أجد من يشفي غليلي من أمرها، أو على الأصح لم أكن على استعداد في غمرة هذه المفاجأة لاستيعاب جميع تفاصيلها.
ثم هذه ثلاثة أيام تقتطع من هذه المدة؛ إذ كنا سنقابل جلالة الملك بعاصمة الرباط صبيحة يوم السبت 22 يونيو، فإذا بجلالته يمدد إقامته بمراكش-وقد كان في زيارة رسمية لها- فيقع النداء علينا معشر أعضاء الوفد يوم الأربعاء 19 منه للمقابلة بمراكش صبيحة يوم الخميس غده.
وقد كانت مقابلة مؤثرة جدا؛ زودنا فيها جلالته بنصائحه الغالية وغمرنا بعطفه السامي، ثم كان مسك ختامها الحضور مع جلالته في زيارة قبر أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين والوقوف على التصميم الذي وضع لبناء قبر مؤسس مراكش العظيم.
إنه عصر المفاجآت كما يقولون وعصر السرعة، فلنكن من أبناء عصرنا، ولننغمر فيه، ولنقبل على ما نحن بصدده متوكلين على الله.
وهذه مفاجأة أخرى سارة كذلك، وهي الرفقة الطيبة، التي لو كان لكل واحد منا رأي في اختيارها، لما اختار أوفق منها وأكثر انسجاما فكريا وخلقيا؛ زيادة على ما بين غالب أفرادها من المودة القديمة التي لا تنفصم عراها، وهذا أيضا عامل من عوامل التشجيع على هذه الرحلة المباركة، وسيكون له أثر فعال في تسهيل مهمة الوفد.
وقد عدنا يومنا من مراكش، وقضينا 21 و22 يونيو في الرباط وسلا بين اتصالات كريمة بإخوان أعزاء، واتخاذ بعض الإجراءات الضرورية، كقطع تذاكر الرجوع بالطائرة عبر الأقطار العربية التي قررنا زيارتها بعد الحج، والتأشير على جواز السفر من طرف ممثلي البلاد التي سنمر بها، والتزود ببعض العملات الأجنبية، فضلا عن ترتيب حقائبنا بحسب المعلومات التي استفدناها من شركة الطيران.
وفي منتصف ليلة 23 يونيو كنا نحلق بالطائرة فوق مطار سلا في طريقنا إلى جدة، وكان المطار غاصا بالنسمات الغزيرة من أسر الحجاج التي جاءت لتوديعهم، على أنه لم يخل من بعض الشخصيات الرسمية والصديقة كوزير التاج الحاج المختار السوسي، ووزير الأشغال العمومية السيد محمد الدويري، ومدير التشريفات السيد الحاج أحمد بناني، والمكلف بوزارة الأوقاف السيد المكي بادو، والأستاذ السيد محمد الطنجي رئيس قسم الوعظ والإرشاد بهذه الوزارة، والسيد قاسم الزهيري مدير الإذاعة الوطنية، والفقيه السيد الحاج محمد التطواني، وغيرهم.
وسارت بنا الطائرة بقية الليل وصبيحة يوم الأحد حتى الساعة الثامنة بتوقيت المغرب والعاشرة بتوقيت ليبيا حيث حطت بمطار ابن غازي … ولم نلاق في سيرنا ما يزعج، وصلينا الصبح قياما مستقبلين، ولكن أفرادا لضيق المكان -على أننا في بقية أسفارنا في الطائرات الأخرى لم نكن نستطيع الصلاة إلا جلوسا في مقاعدنا … وذلك لأن مكان الوفد في طائرة المغرب كان في المقدمة ومتسعا قليلا؛ بخلافه في غيرها من الطائرات.
ونزلنا للاستراحة بمطار ابن غازي فوجدنا في استقبالنا كاتب السفارة المغربية بتونس السيد عبد الرحمن غازي، فآنسنا بحديثه وأبدى مزيد الاعتناء بالوفد والحجاج كافة، وقابلنا هناك فوج من الطلبة المغاربة الذين أنهوا دراستهم الثانوية بمعاهد ليبيا، وأبدوا لنا رغبتهم في الرجوع إلى المغرب ورؤية بلادهم مستقلة، وقد كانوا خرجوا منها وهي ترزح تحت نير الحماية في أيام الأزمة، فأرشدناهم إلى الاتصال بوزارة المعارف عن طريق سفارة تونس.
وعلى الساعة الثانية عشرة بالتوقيت الليبي، أي بعد استراحة ساعتين تحركت بنا الطائرة في اتجاه جدة وأثناء السير أحسسنا بتغير الجو واشتداد الحرارة، ولم يكن منظر الصحراء من الطائرة إلا مما يزيد النفس انقباضا، وعند التحليق فوق القطر المصري، كانت العمارة على ضفتي النيل تلوح لنا كخط دقيق في وسط هذا الخضم الهائل من رمال الصحراء … وكنا أثناء خروج الطائرة من إقليم الصحراء إلى الأقاليم الجبلية أو إلى البحر، نشعر بخفقات قوية من التي يسمونها في مصر (مطبات) وقد سألت عنها الدكتور منصور فهمي سكرتير المجمع اللغوي المصري، ونحن في ضيافة سماحة مفتي فلسطين السيد الحاج أمين الحسيني، وعرضت في حديث، فقال إنها من كلام العامة.
وبعد أن قضينا سبع ساعات ونصفا في الجو أي بعد المغرب بقليل، كنا ننزل في مطار جدة، ونتقابل مع صديقنا سفير المغرب بالحجاز الفقيه السيد محمد غازي … وقد بذل لنا يد المساعدة هو ومساعدوه فمرت الإجراءات الجمركية وغيرها على ما يرام .. وفي تلك الأثناء كنت أتأمل في حركة المطار فأرى أفواجا عديدة من البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم يتسابقون إلى حيث ينجزون مع الموظفين السعوديين الإجراءات اللازمة للدخول إلى المملكة العربية، وهؤلاء الموظفون الذين يعدون بالعشرات، ما بين شاب وكهل ومعمم ومطربش، يقومون بأعمالهم في منتهى النظام والأدب، ورجال الشرطة مبثوثون هنا وهناك، يسهرون على الأمن ويمنعون الفوضى، وبما أن الجو كان في غاية الحرارة، فإن بناية المطار كانت تعج بالمراوح الكهربائية لتلطيف الهواء … والمهم أننا لم نر أجنبيا واحدا يقوم بعمل ما في إدارة المطار ولم نقرأ كلمة واحدة غير عربية على مكتب أو لافتة.
وركبنا على إثر ذلك السيارة إلى دار السفير، حيث نزلنا ضيوفا على سيادته، وكانت السفارة لم تتمكن بعد من حجز غرف لنا في أحد فنادق جدة، لأنها لم تعلم بقدوم الوفد إلا يوم وصوله، وكانت جميع الفنادق حينئذ قد غصت بالنازلين فيها، فمن المستحيل أن تلقى محلا فارغا في فندق لنزول فرد فأحرى أفراد، وليت شعري من المسؤول عن هذا الإهمال الذي أدى بنا إلى (التثقيل) على سفيرنا الكريم …. ؟
أصبنا يوم الاثنين 25 ذي القعدة نتجول في شوارع جدة، وقد زرنا السفارة ثم ذهبنا إلى مصرف الهند الصيني؛ حيث حولنا ما معنا من صكوك مالية إلى أوراق مالية سعودية، وأعلى ورقة مالية سعودية تبلغ عشرة أريلة، فليتصور الإنسان أي حمل ضخم يكون عليه أن يصحبه في كل أيام الحج، وخصوصا إذا كان معه نصيب لا بأس به من المال، ولا يمكن أن يأخذ بذلك المال حوالات صغيرة على بعض المصارف في مكة والمدينة، لأن هذه المصارف كما قيل -تقفل في أيام الحج.
وبعد الفراغ من هذه الأعمال جعلنا نطوف على الفنادق علنا نجد فيها فراغا يؤوينا … وكان زميلان لنا وجدا غرفة ثنائية في (فندق الحرمين) فهنئا بها، وتناولنا طعام الغداء في فندق جميل يسمى (قصر قريش) وقد قضينا في بهوه المكيف مدة أنعشت نفوسنا من التعب والحر، ولم نتركه حتى وعدنا المكلف بإيجاد محلات لنا من الغد، ولكن الغد لم يحن حتى كنت أنا وأحد الرفقاء قد أصبنا بهذا الزكام الآسيوي، أو حمى الأنفلونزا، كما تسمى هناك، وأقمنا تحت العلاج بدار صديقنا السفير.
شعرنا بأن الجو في هذه البلاد لا يطاق، وكان من رأي أكثر الرفقاء أن نتمتع بحجنا وبهذه البلاد العزيزة كل التمتع، فجعلوا يعدلون عن هذا الرأي، وقررنا جميعا أن نقوم بواجباتنا أتم القيام وفي أقل الأيام، ولذلك فقد عزمنا على تقديم الزيارة والرجوع لأداء مناسك الحج حتى إذا فرغنا منها غادرنا الحجاز في أول فرصة .. وكان الناس يتحدثون بأن الحكومة ستوقف السفر إلى المدينة المنورة بعد يوم أو يومين منعا للازدحام، فكيف يتأتى لنا السفر ونحن لا نزال في قبضة المرض، وقد أصيب منا رفيق ثالث أيضا؟ ومع ذلك فأمامنا مقابلة جلالة الملك سعود وتقديم رسالة الاعتماد إليه …
إن الأمور في بعض الظروف لا تسير على أحسن منوال إلا عند ما تتأزم الحال، وهكذا فمن كان يدري أننا نقدم طلب المقابلة مع جلالة الملك سعود الذي لم يكن في جدة يومئذ فيأتي غدا؛ وينعم بمقابلتنا بعد غد، أعني يوم الأربعاء 26 يونيو -27 ذي القعدة … ولا ?
يأتي اليوم الموعود حتى نكون قد شفينا من المرض والحمد لله، وأخذنا أهبتنا للمقابلة الملكية التي كانت في قصر جدة على الساعة الحادية عشرة بتوقيتنا، ولا تسألني عن التوقيت المحلي فإني من عشاق البساطة ولا أحب التعقيد.
وقصر جدة قصر فخم يقع وسط حديقة واسعة وبالتعبير المغربي، وسط رياض فسيحة (والرياض جمع لا مفرد) وهو مسور بسور لطيف، والطرق إليه وسط الرياض، ممهدة أحسن تمهيد، وقد نصبت عليها عرائش ما زالت لم تستتم نباتها، وخللت بالمصابيح الكهربائية القوية، التي تجعل منظره بالليل بديعا للغاية. وقد رأيناه من الطائرة في ذهابنا إلى المدينة وإيابنا منها فكان قيد الأنظار، أما بناؤه فهو على الطرز التركي في هذه المدرجات الطويلة، وهذه البوابات العظيمة، وهذه القبب الضاربة في الهواء، وهذه البلاطات الفسيحة، فإذا صرت بداخله رأيت من الأعمدة الرخامية، والعقود المزخرفة، والثريات العظيمة والزرابي الكبيرة، ما يتناسب وعظمة الخارج، وقيل لنا إن هذا القصر هو من بناء الملك سعود نفسه، وكذلك جميع القصور التي يسكنها في أنحاء مملكته الشاسعة الأطراف هي من بنائه، وقد عوض بها القصور التي كان يسكن فيها والده المرحوم، والتي تنازل عنها جميعا لوزارة التعليم فجعلت منها معاهد علمية لأبناء رعيته.
وعلى كل حال فقد دخلنا هذا القصر العظيم، وقادنا رئيس التشريفات إلى قاعة الانتظار الفسيحة التي لقينا فيها بعض الوجهاء السعوديين، وسفير الصين الوطنية، والقاعة مفروشة بزربية حمراء، وبكراسي وأرائك فخمة من ذات اللون المخمل الأحمر أيضا، وهي مكيفة الهواء بحيث يخيل إليك أنك بالمغرب في أيام الربيع … وجاء الإذن بالدخول إلى المحل الذي يوجد فيه جلالة الملك، فإذا هو قاعة أعظم وأعظم بكثير مما وصفنا، وقد جلس جلالته في صدرها على كرسي فخم، واصطف على جانبها الحرس السعودي ببنادقهم والأضواء تنبعث من مصابيح الثريات الفاخرة فتزيد المنظر بهجة، وقد سرنا من بابها إليه نحو العشرين خطوة، فإذا به يقف ويصافحنا واحدا بعد واحد، ويجلسنا عن يمينه ويساره، ويرحب بنا أحسن ترحيب فنقدم إليه رسالة جلالة مولانا الملك، ونبلغه تحياته وعواطفه نحوه، فيسألنا عن جلالته ويثني عطر الثناء عليه، ويذكر زيارته للمغرب وما قوبل به من حفاوة بالغة، ويسألنا عما كان يقال من عزم جلالة الملك على الحج هذه السنة، فنقول: إنها أمنية جلالته التي لا يلبث أن يحققها حالما تحين الفرصة لذلك، فيجيب بأنه يكون مسرورا غاية السرور باستقبال جلالة محمد الخامس في هذه البلاد المقدسة، وأنه يضع يخته وطائرته الملكيين تحت تصرف جلالته، وشكرنا جلالته على هذه العناية الكريمة وقدمت لنا القهوة والمبردات وانصرفنا مودعين بما قوبلنا به من حفاوة وإكرام.
لقد قضينا من جدة لبانتنا الكبرى، فخرجنا نطوف على أسواقها وشوارعها، وإياك، يا قارئي العزيز أن تظن أن ذلك ممكن بالنهار في غير السيارة لشدة الحر، وقد ذهب بعض الأصدقاء لزيارة قبر أمنا (حواء) عليها السلام فلا ندري كيف وصل إليه.
والذي يلفت النظر في جدة هذه الحركة الدائبة في البناء والتعمير، فكم من دور شاهقة – والدور في جدة على الطراز الهندي تتكون من عدة طبقات – نراها تتهدم لأن شارعا جديدا يخترقها، وكم من بنايات جديدة الطراز العصري تقام هنا وهناك … ومن جملتها الفندق الجديد الذي يعد أفخم فندق بجدة الآن، والذي دشنه الملك سعود في أيام الحج … والشوارع الجديدة معبدة على أحدث أسلوب، وقد غرست الأشجار بجانبها وان كانت ما زالت لم تكبر وتترعرع، وقد قيل لنا إنه قبل سنتين فقط كان من المستحيل أن ترى نبتة أو شجرة هناك، والسبب في ذلك قلة الماء بجدة، إذ كان ماء الشرب فيها إنما يستقطر من ماء البحر، والآن لما جرت الحكومة الماء إلى المدينة من هذه العين التي تسمى عين فاطمة، دبت الحياة في جدة فنشطت حركة البناء والغرس، فكثيرا ما ترى حدائق (فيلات) أنيقة يداعب النسيم أشجارها، وينقل عبير أزهارها، وسوف لا يمر زمن طويل حتى يتلطف جو جدة ويعتدل هواؤها، بما ينشأ فيها ويستنبت من رياض ومنتزهات جميلة، وصدق الله العظيم حين يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ {[الأنبياء: ٣٠]
المصدر: دعوة الحق، السنة 1، العدد 4و 5 ، نونبر 1957