لنمض في جولتنا مع “رولف ايتالياندر” حول افريقيا.. لنتوقف قليلا عند هذا الساحل الويل الذي يدور مع البحر الأبيض في الشمال الغربي من افريقيا، لنتأمل هذه الأرض الطيبة الدافئة التي أصبحت تجري فيها أنهار الدماء والدموع والآلام.. الجزائر، (الجزائر الفرنسية) التي لا تقل في (فرنسيتها) عن نورماندي أو بريتاني، وأي باس في أن يعترض على ذلك عشرة ملايين من الإفريقيين المسلمين ما دام نحو مليون من الأوربيين يرددون تلك (الحقيقة) صباح مساء؟
في السطور التالي نقدم عرضا لكتاب “افريقيا الجديدة” الذي وضعه الكاتب الألماني الأستاذ “رولف ايتالياندر” المتخصص في الشؤون الإفريقية، وهو كتاب نرى أنه يجدر بكل إفريقي أن يقرأه حتى يعرف بلاده خيرا مما يعرف، وإذا كنا نقول ذلك عن أهل افريقيا فإن كل أوربي وأمريكي أولى بأن يطالع هذا الكتاب، ولو أنهم فعلوا لأقنعهم بانتهاج ريق غير الذي انتهجوا حتى الآن إزاء قارتنا المقاسية المكافحة، وهو أخيرا كتاب يدل على أنه مازال في أوربا كتاب ومفكرون استروحت قلوبهم نسمات الإنسانية والعدالة بصورة تستحق الإعجاب والتقدير.. وهو كتاب يدل على أن الدنيا ما زالت بخير…
حضارة أوربا:
(ليست الحضارة الأوربية إلا جهازا هائلا لنشر الدمار والخراب، فهي لا تستهدف إلا امتصاص الشعوب التي تبسط سيرتها عليها، وإبادة الأجناس التي تجرؤ على الوقوف في طريقها، إنها على الرغم من كل ما تصطنعه من مظاهر الرقي والتطور لا تعدو أن تكون “حضارة آكلي لحوم البشر”، فهي تقوم على أساس اضطهاد الضعفاء والاغتناء على حسابهم، ونشر الكراهية والحسد بين مختلف الأجناس والأمم. إنها مدينة علمية ـ لا ننكر ذلك ـ ولكنها متجردة من الإنسانية.. هي قوية جبارة ليس في ذلك شك، ولكن قوتها تعود إلى أنها تركز جهودها من أجل الوصول إلى هدف واحد: هو جمع الثروة، وهي ـ باسم القومية ـ لا تتورع عن الخيانة وإخلاف الوعود، ولا تكف عن نصب حبائل الأكاذيب وخداع السذج البسطاء.. هي حضارة وثنية وإن اصطنعت غير ذلك، فنحن نراها في كل مكان تسيطر عليه مقيمة أصناما هائلة للإله الوحيد الذي تدين له بالعبودية: إله الترف..
ترى الإنسانية راضية بأن تقودها مثل هذه الحضارة إلى هاوية الخراب؟).
هكذا تساءل (رابندرانات طاغور) فيلسوف الهند الأكبر، حينما نشبت الحرب العالمية الأول في سنة 1914، وبهذه العبارة ختم الكاتب الألماني الحر “رولف ايتالياندر” كتابه عن “افريقيا الجديدة”.
ولعل هذا الكاتب أحد الأوربيين القليلين الذين حاولوا أن يتفهموا مشاكل القارة الإفريقية بعيدا عن التعصب والغرور اللذين يطلان دائما من سطور ما تكتبه عن افريقيا أقلام الأوربيين، وهو أستاذ جامعي يتولى تدريس تاريخ افريقيا وحضاراتها في عدد من الجامعات الأمريكية، كما أنه عضو في كثير من معاهد أوربا وأمريكا المتخصصة في دراسات علم الأجناس، وقد نشر من قبل كتبا كثيرة حول القارة الإفريقية من أذيعها وأوسعها انتشارا كتاب “القارة القلقة”، وكتاب “متى تذهب أيها الرجل الأبيض؟” وكتاب “من الغابة إلى الصحراء، وفيه ضمنه انطباعاته حول زيارته للكونغو وتشاد والصحراء الكبرى.
طريق السلام:
ونعود إلى كتاب افريقيا الجديدة” الذي اختار مؤلفه لخاتمته تلك الكلمة المأثورة عن رابندرانات طاغور، وفي هذه الخاتمة يعلق الأستاذ ايتاليتندر على هذه العبارة، فيقول أن الحق يقتضي من الأوربيين جميعا أن يعترفوا بأنها صادقة صحيحة بريئة من التعصب والمبالغة، وهو أمر مؤسف إلا أنه إذا أردنا أن نصلح أخطاء الماضي وننتهج طريقا جديدة يؤدي بالعالم إلى السلام فإنه لا بد للمفكرين الأوربيين الأحرار أن يتحملوا تبعيتهم في “تحرير” شعوبهم من تلك الجرائم التي طالما ارتكبوها ولوثوا بدمائها أرض القارة الإفريقية.
ماذا فعلت بأخيك؟
وقد كان من أول هؤلاء المفكرين الأحرار الذين رفعوا صوتهم منادين بذلك الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي قضى الشطر الأعظم من حياته مدافعا عن الثقافة الأوربية حتى فطن أخيرا إلى ندى ما في هذه الثقافة من عناصر الفساد والانحلال، فإذا به في سنة 1916 يكتب قائلا:
(إن حضارتنا الأوربية أصبحت تفوح منها رائحة الجيف .. إنها جسد ميت يدعو إليه الدافنين حتى يريحوه ويريحوا منه بمواراته في التراب).
ويذكر رومان رولان في معرض الحديث بين الرجل الأبيض وإفريقيا السوداء أن هناك أسطورة شائعة بين الإفريقيين يفسرون بها علة بياض بشرة الأوربي، إذ يقولون أن الله تعالى سأله: ما ذا فعلت بأخيك الإفريقي؟ فشحب وجهه وابيض من فرط الخجل والخزي، وبقي هكذا إلى الأبد..
على من تقع التبعة؟
إن التبعة في كل ما قاسته شعوب القارة الإفريقية في الماضي وما تقاسيه في الحاضر، إنما تقع على الأوربيين وحدهم، وإذا كنا نريد اليوم ـ نحن الأوربيين ـ أن نكفر عن جرائمنا فينبغي علينا أن ننسى غرورنا واعتقادنا الخاطئ بأننا أسمى من غيرنا.. علينا أن نحاول إقامة علاقاتنا بشعوب افريقيا وآسيا على أساس جديد من الاحترام والحب والإخاء.. علينا أن نطهر أنفسنا من شوائب الماضي قبل أن ندعو الشعوب الإفريقية إلى احترامنا أو الثقة فينا، فإننا ما دمنا على ما نحن عليه فإنه ليس من شك في أننا غير جديرين بأي ثقة ولا احترام..
التبشير:
لقد اعتدنا مثلا على اعتبار ديننا هو المثل الأعلى للقيم الروحية دون أن نحاول تفهم ما في الأديان الأخرى من فضائل، وساقنا الغرور إلى محاولة فرض المسيحية على كثير من الشعوب الإفريقية المسلمة عن ريق سياسة تبشيرية حمقاء، كان التبشير يسير فيها مع الاستعمار في ركاب واحد، لقد تدخل المبشرون في السياسة بشكل مباشر وأصبحت مهمتهم هي تخدير الإفريقيين واتخاذ نشر الدين ذريعة لمد السيطرة الاستعمارية عليهم، وإبقائهم خدما إن لم نقل عبيدا للرجل الأبيض، أترانا نعجب إذا رأينا الإفريقيين يسعون في أول عهدهم بالاستقلال إلى طرد هؤلاء المبشرين الذين لا يمثلون إلا ظلم الاستعمار وطغيانه وأما المسيحية فإنها منهم بريئة..
الثقافة:
وقد اعتدنا ألا نعترف بثقافة ألا تكون ثقافتنا الأوربية وكان العالم خلا من الثقافات قبلنا، وكأننا نسينا أن حضارتنا لم تولد إلا على أساس ما اغترفته مع منابع الحضارات الوثنية التي قامت في العالم القديم والحضارة الإسلامية التي ازدهرت في العصور الوسطى، وقد أثبتت الأبحاث التاريخية أن كل “المجاهل” الإفريقية التي غزاها الرجل الأبيض فيما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر لم تكن من “المجاهل” في كثير ولا قليل، وإنما كانت مهاد حضارات عظيمة عريقة في القدم، وأن سكان تلك المناطق لم يكونوا من التأخر والجهل بحيث يتصورهم الأوربيون في العصر الحاضر، وقد كان من أبشع الجرائم التي ارتكبها المستعمرون البيض هو تدمير معالم تلك الحضارات حتى يصوروا للناس بعد ذلك أن افريقيا لولاهم لكانت فريسة للجهل والوحشية، ولنذكر من أمثلة ذلك أن المستعمرين البيض حينما حلوا في جنوب افريقيا عثروا هناك على آثار ترجع إلى آلاف السنين، وتدل على أن هذه المنطقة كانت قد ازدهرت فيها حضارة عظيمة لعلها أقدم حضارات العالم، غير أن التعصب ـ ولا أبالغ إذا قلق التوحش ـ قد بلغ بهؤلاء المستعمرين إلى حد طمس جميع تلك المعالم والآثار حتى لا يخالج الناس شك في أن أوربا هي التي جعلت من سكان هذه البلاد بعد أن كانوا إحدى الفصائل الحيوانية..
واعتدنا كذلك أن نتحدث في كثير من الاحتقار والسخرية عن الأمية المنتشرة في شعوب افريقيا، ونسينا أنه إذا نظرنا إلى بلد أوربي مثل ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر فإننا نجد أن نسبة بالغة الضآلة كانت هي القديرة على تذوق أدب “غيتة” أو تفهم (شيللر) وأن الأمية كانت بلا شك منتشرة في أمم العالم القديم التي أنتجت لنا حضارات خالدة نرمقها اليوم في إعجاب يكاد يصل إلى حد التقديس، ثم إن الأمية تختفي اليوم من أوساط الشعوب الإفريقية في سرعة مذهلة ولا سيما بين البلاد التي نالت استقلالها أخيرا، وهو أمر يدلنا من ناحية على طموح هذه الشعوب وإقبالها على العلم والثقافة في حماس يستحق الإعجاب، ومن ناحية أخرى على أن الدول المستعمرة لم تسع إطلاقا إلى رفع مستوى التعليم بين تلك الشعوب كما درجت على أن تزعم.
أرستقراطية اللون:
وقد اعتدنا أن نتحدث في فخر وعجرفة عن الحرية والإخاء والمساواة، واعتبرنا أنفسنا ـ نحن الأوربيين ـ خالقي هذه المبادئ، وعلى الرغم من ذلك فإننا لم نجد بأسا في أن ننادي بنظريات تناقض تلك المبادئ كل التناقض، بل تصور إلى أي حد يصل تفكيرنا من السخف والغرور، حينما قام كثير من مفكرينا في القرن التاسع عشر بوضع تلك النظريات التي لا تقوم على أي أساس علمي، والتي تزعم أن للأوربيين فضلا على الساميين وللبيض امتيازا على السود أو الصفر، ولنذكر ما كتبه الفريد روزنبرج “مفلسف” الحركة النازية حينما قال أن الرجل الأبيض ينبغي أن يتخذ قرارا حاسما في مسألة إبادة الجنس الأسود والقضاء عليه حتى لا “تتلوث” به قارتنا الأوربية، ولنذكر ما كتبه الكونت “جوبينو” الذي ضمن أمثال هذه الآراء رسالة له سماها “اختلاف الأجناس البشرية”، وكانت أساسا لكل ما كتبه حول ذلك المفكرون المدافعون عن مبدأ التفرقة العنصرية، وما أصدق ما كتبه عن هذا المبدأ المفكر بومون إذ قال: (لقد ابتليت البشرية بكثير من ألوان الأرستقراطية، ولكني لا أعرف منها أكثر سخفا ولا حماقة من ارستقراطية اللون والبشرة).
سيدي … الولد:
واعتدنا كذلك على أن نعامل الإفريقيين معاملة (خاصة).. على أنهم أقل بدرجات في مراتب الإنسانية عن أمثالنا من البيض الأوربيين، ولم تفلح دعوات المصلحين الإنسانيين في تحويلنا عن تلك المعاملة.. ولا ذكر على ذلك مثلا بسيطا شهدته بعيني في الكونغو قبيل استقلاله، فقد جرت عادة البلجيكيين هناك على أن يتوجهوا بالخطاب إلى أي فرد من أفراد شعب الكونغو بكلمة (الولد) مهما كان مركزه أو ثقافته أو سنه، ثم أرادت الحكومة البلجيكية قبل أن ينال الكونغو استقلاله بقليل أن تخفف من اثر الوقع السيء الذي يتركه مثل هذا التعبير، فأصدرت أمرا بما يستخدمونه في الخطاب بين بعضهم البعض، فماذا كانت النتيجة؟ كان البلجيكي إذا تحدث مع أي مواطن من الكونغو ناداه بقوله: أيها السيد.. الولد.. وأطلق ضحكة ساخرة.. أترانا نعجب بعد ذلك إذا نظر إلينا الإفريقي اليوم بعيون ملؤها الكراهية؟
وليعذرنا القارئ إذا كنا بدأنا في عرض محتويات هذا الكتاب من آخره، فالواقع أن خاتمة الكتاب التي سقنا موجزا لبعض فقراتها المهمة إنما تتضمن ناحية من أبرز نواحيه.. إذ أن هذا الكاتب الأوربي يتحدث فيها بصراحة مرة عن موقف أوروبا إزاء قارتنا الإفريقية، وحديثه أشبه ما يكون (بالاعترافات) ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يدعو الضمير في مختلف بلاد العالم ولا سيما الأوربية والأمريكية إلى التفكير عن كل تلك الخطايا بانتهاج سياسة جديدة لا تقوم على الارتجال والتسرع، وإنما على تربية (وعي جديد)، ولا سيما في طبقات شباب المثقفين، وهو يطلقها صيحة جريئة داعبة إلى )مراجعة حساب أوربا) في هذه القارة، وإلى تطهير النفوس والنوايا قبل أن تستمر أوربا في سياستها الغاشمة الحمقاء.
وهو يختم كلامه بقوله: إني أخشى أن تكون الفرصة قد فاتت، ومع ذلك فإننا إذا أخلصنا الضمائر واستمعنا لصوت الحق والعدالة فقد يكون هناك مجال لإصلاح بعض ما أفسدت أيدي السفهاء منا.. وإنهم لكثير..
والمؤلف بعد ذلك يستعرض صورا من حياة القارة الإفريقية يرسمها في صدق ودقة من خلال زيارته الأخيرة لبلاد هذه القارة ولقائه لكثير من زعمائها وقادتها، هذا وإن كان لم يكتف بذلك بل حاول أن يعرف آراء رجل الشارع العادي في كل بلد زاره، مما أتاح له الإلمام باتجاهاته المختلفة وتطور الحركات القومية فيه..
أوربا لا تسمع:
ولنمض في جولتنا مع “رولف ايتالياندر” حول افريقيا.. لنتوقف قليلا عند هذا الساحل الويل الذي يدور مع البحر الأبيض في الشمال الغربي من افريقيا، لنتأمل هذه الأرض الطيبة الدافئة التي أصبحت تجري فيها أنهار الدماء والدموع والآلام.. الجزائر، (الجزائر الفرنسية) التي لا تقل في (فرنسيتها) عن نورماندي أو بريتاني، وأي باس في أن يعترض على ذلك عشرة ملايين من الإفريقيين المسلمين ما دام نحو مليون من الأوربيين يرددون تلك (الحقيقة) صباح مساء؟
“الجزائر الفرنسية.. وإن احتجت على ذلك أغلبية البلاد من لمسلمين الذين لا يريدون أن يصبحوا فرنسيين، وماذا يهم؟ أن أوربا لا تسمعهم ولا تعيرهم التفاتا.. هكذا قال ملك فرنسا لويس فيليب في سنة 1835 حينما نشبت حرب الجزائر: (.. وماذا يضيرنا إذا انطلقت في سماء الجزائر مائة ألف قذيفة؟ إن أوربا لا تسمع).
وأوربا في ذلك الوقت كانت هي العالم.. هي الضمير البشري.. هي كل شيء.. وهكذا يعتقد حتى الآن أولئك المليون من الأوربيين المستعمرين ممن لا يزالون مؤمنين بأن أوربا هي سمع لعالم وبصره وأن الناس في خارج أوربا ـ إذا جاز أن يعتبروا ناسا ـ ليس لهم عيون ترى ولا آذان تسمع..
ويقول جان بول سارتر: هناك “حقيقة” لا يعرف هؤلاء المستوطنون الأوربيون غيرها في الجزائر: هي أنهم اختصهم الله بنعمة البشرية، وأن أهل البلاد الأصليين “أشياء” لم ترتق بعد إلى هذه الدرجة.
وقد كنت قمت بأول رحلة إلى الجزائر في سنة 1931 حينما لم يكن الشعور القومي في هذه البلاد قد نضج ولا تشكل في صورته الحاضرة، وكان أول ما صدمت به هناك أن هؤلاء الأوربيين الذين تعاقبت أجيالهم منذ قرن من الزمان لم يوفقوا إلى فهمها قط.. بل لم يحاولوا ذلك حتى مجرد محاولة، ولهذا لم يكن من العسير على أي عقل قدر له نصيب من التحرر أن يتنبأ بما سوف يحدث..
ومن الغريب أن أوربا التي لم تكن ترى ولا تسمع في سنة 1835 ظلت عاصبة عينيها ومصمة أذنيها أكثر من مائة سنة، ففي 8 مايو 1945 قام الجزائريون المساكين وفي نفوسهم بقية من ثقة منتصرين بانتصار الحلفاء “الديمقراطيين” على ألمانيا النازية، ومطالبين “أصدقاءهم” الفرنسيين بتحقيق وعودهم لهم بمنحهم نصيبا من الحرية، فماذا كانت النتيجة؟ انطلقت المدافع الفرنسية إلى صدور الجزائريين فقتلت منهم في سطيف بضعة آلاف في ساعة أو بعض ساعة..
وما ذا يهم؟
أن فرنسا ـ ومعها أوربا ـ ما زالت بعد لا ترى ولا تسمع..
“الديمقراطية” في كينيا:
ولنترك الجزائر، وننتقل إلى طرف آخر من أطراف افريقيا.. إلى كينيا التي تسمى مع تنجانيقا وأوغندا “افريقيا الشرقية البريطانية”. وكينيا بلد تسوده الديمقراطية الخالصة التي اجتهد الانجليز في تلقينها للإفريقيين. وقد بدأ حكمهم لها في سنة 1885 ـ كما هو المتبع في السياسة البريطانية ـ عن طريق الشركات التجارية، وكانت “الشركة البريطاني لشرق افريقيا” هي التي وقعت على عاتقها “تبعة” نشر الحضارة والديمقراطية في كينيا، وسرعان ما أصبحت هذه البلاد ملكا (بكسر الميم وسكون اللام) للتاج البريطاني حتى يضطلع فيها بمسؤوليته الكاملة.
ويعيش الآن في كينيا نحو ستة ملايين ونصف من البشر منهم 152000 من الهنود، و33000 عربي ونحو 57000 من الأوربيين، ولا تزيد نسبة السكان البريطانيين في كينيا على (0,9 بالمائة) من مجموع السكان.
“إصلاح زراعي” من نوع جديد:
وقد أقبل الانجليز منذ حكمهم لهذه البلاد على التطور بها تطورا سريعا، فسنوا لها قانونا للإصلاح الزراعي، والإصلاح الزراعي في كل بلاد العالم يستهدف توزيع الأراضي توزيعا أقرب إلى العدالة، ولكن إصلاح الانجليز كان شيئا جديدا يمتاز بالطرافة والأصالة، فقد أصبحت بمقتضاه كل أراضي كينيا الخصبة الصالحة للزراعة أو لتربية الماشية من نصيب الأوربيين، أما الكينيون فقد تركت لهم معظم المساحات المجدبة من البلاد.
وواصل الانجليز جهودهم في سبيل نشر الديمقراطية في كينيا، ففي سنة 1954 طبق القانون المعروف باسم “ليتلتون” وأصبح مجلس الوزراء على أساسه يتألف من ستة أعضاء: ثلاثة أوربيين واثنين هنديين وعضو إفريقي واحد.
ويبدو أن هذا الطراز من الديمقراطية لم يعجب أهل كينيا، ومن ثم ولدت الحركة الوطنية في تلك البلاد، وتزعمها جومو كينياتا، ثم توم مبويا، حينما زج بكينياتا في السجن، وكانت مطالب هذه الحركة هي إعادة توزيع الأراضي على أساس يضمن للإفريقيين حقوقهم، ثم زيادة نسبة تمثيل الإفريقيين في أجهزة الحكم والمجالس النيابية.
روديسيا ونياسا:
لعل أول ما يصدم الداخل إلى سالزبوري عاصمة اتحاد روديسيا ونياسالاند، وهو ما زال في المطار هو ذلك البيان الطويل المعقد الذي يقدم للأجنبي لكي يملأه، وأول ما ينبغي أن يثبته في هذا البيان ليس ذكر وطنه الذي ينتمي إليه، وإنما هو النص على جنسه: أبيض، إفريقي، آسيوي، مولد.
للأوربيين فقط:
والعاصمة مدينة جميلة في وسطها عدة ناطحات للسحاب، وفي ضواحيها بيوت ريفية على الطراز الانجليزي القديم، والذي يستوقف نظر المتردد على معالم هذه المدينة الجميلة لأول وهلة هو خلوها من الإفريقيين. على أن المتسائل عن ذلك لا يلبث أن يجد الجواب في اللافتات التي يراها حيث مر في أنحاء المدينة (للأوربيين فقط)، وقد حاولت مرة أن أدعو في فندقي سياسيا افريقيا مرموقا يتولى منصب (الوزارة) في حكومة الاتحاد، وتاجرا هنديا معروفا إلى تناول الغذاء معي، فلم تسمح لي بذلك إدارة الفندق، بل نظر إلي موظفوه في مزيج من الدهشة والإشفاق والغضب، كأنني ارتكبت جرما لا يغفر لي منه إلا الجهل والسذاجة..
وتبلغ مساحة الاتحاد الفيدرالي بين روديسيا الشمالية والجنوبية ونياسالاند خمسة أضعاف مساحة بريطانيا، أما عدد السكان فيبلغ أمثر بقليل من سبعة ملايين ونصف من بينهم نحو 187000 أوربي، وقد بدأ النفوذ البريطاني في الامتداد إلى هذه البلاد منذ أن قدم إليها سيسل روديـــــــس (1853 ـ 1902)، وهو الذي أطلق اسمه على هذه البلاد، ثم استولت عليها (الشركة البريطانيى لجنوب افريقيا) في نهاية القرن التاسع عشر (من أجل النهضة بالتجارة والصناعة والثقافة في ظل حكومة صالحة تقدمية)، وما زالت هذه الشركة تباشر عنايتها بالتجارة والصناعة والثقافة (كذا) حتى أصبحت المقاطعات الثلاث جزءا من ممتلكات التاج البريطاني.
الدكتاتور اليهودي:
أما الاتحاد الإئتلافي الذي أقيم بين تلك المقاطعات الثلاث فهو حديث العهد، إذ أنه يرجع إلى سنة 1953، بفضل سياسي استعماري انجليزي هو السير اندريه كوهين الذي يدلنا اسمه على أصله اليهودي.
ولعل في ذلك ما يفسر لنا كيف يحكم هذا الاتحاد الآن يهودي آخر بولوني الأب هولندي الأم، هو روي فيلينسكي رئيس وزراء الاتحاد منذ سنة 1956، وحياة هذا الرجل يمكن أن تكون صورة مصغرة من حياة أمثاله من الأوربيين الذين يتحكمون حتى الآن في مصائر البلاد الإفريقية.
ولد “روي فيلينسكي” في سالزبوري في سنة 1907، وكان أبوه صاحبا لإحدى الحانات ثم لفندق متواضع، ولم يأخذ هو إلا قسا ضئيلا من التعليم، ثم اشتغل أجيرا في بعض المناجم والمزارع، وقضى فترة من حياته جزارا وخبازا وبائعا، ثم احترف الملاكمة حتى سنة 1928، وبعد لك أصبح سائق قطار، وارتفع نجمه بسرعة بفضل بعض الأرستقراطيين الأنجليز، حتى تولى منصب النيابة في المجلس التنفيذي في سنة 1940، وفي السنة التالية أسس الملاكم اليهودي السابق (حزب العمال لشمال روديسيا) وقد بدأ يطالب بفكرة الاتحاد الإئتلافي بين المقاطعات الإفريقية الثلاث منذ سنة 1948، وهو ما تحقق أخيرا على يد أندرو كوهين، وهكذا أصبح فيلينسكي بفضل ذلك رئيسا لوزراء الاتحاد.
“بدعة” الاستقلال:
ويشرح السير روي فيلينسكي مبادئ سياسته، فيقول من خطاب ألقاه في جوهانسبورج أخيرا: (إن من الظواهر المؤسفة التي أصبحت “بدعة” هذا العصر ما نراه من مطالبة الشعوب المتخلفة بما تسميه استقلالها وحريتها، وكأن هذا الاستقلال سلة من الخبز يتقاسمون ما فيها فور حصولهم على الاستقلال، لقد حانت الساعة لكي نفهم هؤلاء الغوغاء الرعاع أن ذلك ليس إلا حلما تقبع وراءه الحقيقة المرة.. إن ما يسمونه “الاستقلال” لن يغنيهم من فقر ولن يسمنهم من جوع، وإنه يجب أن يعرف هؤلاء المخدوعون المضللون أن الوطن الصحيح لا يقوم إلا على دعامتين رئيسيتين: أقلية مثقفة مستنيرة تعرف كيف توجه الحكم وتديره، وأغلبية تضطلع بما يسند إليها من عمل في طاعة ونظام.. بهذا يكفل الرخاء والاستقرار في البلاد، وإلا أصبحت أمورها فوضى تعود بالكوارث على الجميع، إن البلاد الإفريقية جميعا بلا استثناء ما زالت في حاجة إلى جهودنا ـ نحن الأوربيين ـ ورعايتها وأخذنا بأيديها، وأنا أصرح بأن هذا الوضع قد يستمر قرونا قبل أن نسمح لأولئك الملونين المتخلفين بالأخذ بنصيب في حكم بلادهم وإدارتها بأنفسهم، وحتى إذا حانت هذه الساعة لذلك أليس من حقنا نحن الذين ضحينا بالكثير من أجل إسعاد هذه الشعوب أن ننال نصيبا من الجزاء وأن يعترف بفضلنا عليها؟).
ولست أظن هذه الكلمات التي تصور صفاقة صاحبها وتجرده من الإنسانية محتاجة إلى أي تعليق..
7000 أبيض = 500000 إفريقي:
ويعتبر السير روي فيلينسكي نفسه كما يعتبره الأوربيون البيض هناك من (أبطال الاستقلال)، فالجميع يعترفون بأن نفوذ وزارة المستعمرات البريطانية في توجيه سياسة الاتحاد الإئتلافي، قد تضاءل حقا في عهده، غير أن مفهوم (الاستقلال) هنا يختلف عن مفهومه في سائر بلاد العالم، إذ أن معناه في روديسيا هو أن تنتقل السلطات من أجهزة الاستعمار البريطاني إلى يدي روي فياينسكي نفسه، وأيدي أمثاله من الأقلية الأوربية الحاكمة.
ولروديسيا ونياسالاند برلمان فريد من نوعه، إذ يتألف من 59 عضوا من بينهم 15 يمثلون الأغلبية الإفريقية و44 يمثلون الأقلية البيضاء، ومعنى ذلك أن كل نصف مليون من أهل البلاد يمثلهم عضو واحد، أما الأوربيون فلهم نائب عن كل 7000 شخص.. أترانا في حاجة إلى مزيد من الأمثلة على مدى (الديمقراطية) التي طالما امتنت أوربا على الإفريقيين بأنها لقنتهم إياها؟
وقد ظل العالم لا يعرف إلا القليل عن الحياة في هذا البلد الإفريقي، حتى استطاع الزعيم الروديسي “موانجانكو مبولا” أن يطلع الرأي العام العالمي في مؤتمر أكرا سنة 1958 على حقائق تقشعر منها الأبدان.
وفي نفس ها المؤتمر تحدث زعيم إفريقي آخر هو “كاموتزوباندا” عن أحوا نياسالاند التابعة للاتحاد الإئتلافي الذي يحكمه روي فيلينسكي، وقد قضى باندا أربعين سنة من حياته في المنفى وسنوات أخرى في السجن لا لشيء إلا لأنه قال للبريطانيين ولربيبهم اليهودي: اخرجوا من بلادي.. وقد أدى ذلك أخيرا إلى نشوب تلك الاضطرابات الدامية التي وقعت في فبراير سنة 1959.
قابيل وهابيل في جنوب افريقيا:
ولنترك اتحاد روديسيا ونياسالاند إلى اتحاد جنوب افريقيا في الرف الجنوبي الأقصى من القارة، حيث كان مهب آدم وحواء من الجنة بعد أن طردهما الله من الفردوس على ما يعتقد بعض علماء الحضارات القديمة. ترى لو أن أبا البشر عاد اليوم إلى عالمنا الأرضي ورأى ما يفعل بعض أبنائه في مكان مهبطه.. أتراه يشعر بالندم والأسف على خروجه من الجنة، بقدر خجله من هؤلاء الأبناء الذين انحدروا من صلبه؟
إن قصة قابيل وهابيل تتكرر في كل لحظة في هذا الميدان الذي يسمونه (اتحاد جنوب افريقيا)، وقابيل هنا هو هذا العدد من الأوربيين الذين وصلوا إلى تلك البلاد في القرن السابع عشر، وكان معظمهم من أصل هولندي، ثم زاحمهم الأنجليز الذين احتلوا مدينة “كيبتون” في سنة 1795، ووفد عدد آخر من البريطانيين في سنة 1820، وسرعان ما نشب النزاع بين المستعمرين الهولنديين والبريطانيين، إذ حاول كل من الفريقين الاستئثار بخيرات البلاد، ومن ثم استعرت نار الحرب المعروفة باسم حرب البوير فيما بين سنتي 1899 و 1902، وأخيرا أعلن (استقلال) اتحاد جنوب افريقيا في سنة 1909 في نطاق جامعة الدول البريطانية (الكومنويلث)، وظل الأمر على ذلك حتى خرج الاتحاد من تلك الجامعات أخيرا، وإذا كانت الكراهية لا تزال حتى الآن على أشدها بين الهولنديين والبريطانيين فإن هناك شيئا واحدا يجمع بين الفريقين: ذلك هو إبغاض الإفريقيين وصب كل ألوان الاضطهاد والعسف عليهم.
ويبلغ عدد سكان الاتحاد خمسة عشر كليون نفس، من بيتهم نحو أحد عشر مليون من الأفريقيين والمولدين ونصف مليون آسيوي، وثلاثة ملايين من الأوربيين.
التفرقة العنصرية قانون إلهي:
ويرأس حكومة الاتحاد في الوقت الحاضر الدكتور “هيندريك فيرودر” الذي ولد في هولندا سنة 1901 واشتغل في شبابه مدرسا، ثم أصبح رئيسا لتحرير جريدة (دي ترانسفالر) الناطقة بلسان الهولنديين البوير، وتولى بعد ذلك عدة مناصب في حكومة الاتحاد، كان آخرها رئاسة الوزارة منذ شهر أغسطس سنة 1958.
ولعل فيرودر هو أكثر الساسة الأوربيين في افريقيا تعصبا وأغلظهم قلبا وأجمدهم تفكيرا، ويكفي أن نذكر أن هذا الرجل يصرح دائما بأن التفرقة العنصرية (الأبارتايد) إنما هو قانون إلهي ينبغي أن يطبق في كل مكان يحل فيه أي أوربي، وأن هذه التفرقة ليست ظلما لما يسميه (العناصر المنحطة) أي الإفريقية، وإنما هي الإجراء العادل الذي يكفل لها أن تعيش (في المستوى الذي خلقت له).
ولهذا لم يكن من الغريب أن يلاقي الإفريقيون في هذه البلاد على يد هذا الرجل ما لم يشهد له التاريخ مثيلا، فدستور الاتحاد ينص على أن الإفريقيين لا يمكن أن يكونوا أعضاء في البرلمان ولا محامين ولا قضاة ولا ضباطا في الجيش ولا في الشرطة، وكل ما سنح لهم به هو أن يشتغلوا مزارعين أجيرين أو عمالا، بشرط ألا يتخصصوا في أي عمل فني أو صناعي، أما الأعمال التي تتطلب مستوى عاليا من التخصص كالهندسة أو الطب أو الصيدلة أو العمارة فكل ذلك محرم على غير الأوربيين.
وأما ملكية الأرض في هذه البلاد فإنها تصور بشاعة ما يجري بها، فالأحد عشر مليونا من الإفريقيين لا يملكون من أرض بلادهم إلا نحو 13 بالمائة من جملة مساحتها، والمليونان ونصف المليون من البيض يستأثرون بالباقي، ها وتتصرف الحكومة والسادة البيض في الشعب الإفريقي كما لو كان قطعانا من البهائم، إذ يكفي أن يطلب أحد الأوربيين بضعة آلاف من الإفريقيين للعمل في مزرعته أو منجمه حتى يصدر قرار حكومي بنقل سكان قرية كاملة إلى حيث يريد السيد الأبيض لخدمته بدون مقابل، وليس للافريقي أن يحتج أو يطلب استبدال سيده بآخر إذا أراد أن يتجنب عقوبة الجلد أو السجن أو الإعدام في بعض الأحيان، أما الأوربي فإنه ليس مطالبا بدفع أجر للعامل أو الفلاح الإفريقي الذي يعمل في خدمته من شروق الشمس إلى غروبها، وكل ما يلتزم به هو أن يلقي إليه كل يوم قليلا من الذرة والدقيق والملح، ولا يستطيع الإفريقي أن ينتقل من منطقة إلى أخرى إلا بتصريح من الحكومة، وهذا التصريح يعين السلطات على أن تجمع العدد الذي تريده من العمال تحت تصرفها في أي وقت وفي أي مكان.
وقد أصدرت الحكومة أخيرا قانونا يحرك على الرجل الأبيض أن يصافح الإفريقي بيده طيلة حياته، فإذا مات (أعني الإفريقي) فإنه لا يسمح لجسده بأن يدفن في المقابر المخصصة للبيض.
وقد كان من نتائج هذا (الإرهاب الأسود) الذي يباشره البيض هناك أن وقع ذلك الانفجار الشعبي الشديد في مارس سنة 1960، والحركات الوطنية، وعلى رأسها رجال مثل “إيزيكيل ميغاليلي” و “ألبيرت لوتولي” تسير بخطى سريعة إلى الأمام، هذا ولست أريد أن أصرح بأسماء بقية القادة الوطنيين الذين تعرفت إليهم أثناء إقامتي هناك حتى لا أتسبب في مزيد من الاضطهاد لهم على أيدي زبانية (الاتحاد الإفريقي).
وهكذا يمضي الكتاب في عرض صور من حياة افريقيا والإفريقيين، فيحدثنا طويلا عن مدغشقر والكاميرون والكونغو ونيجيريا وغانا وغينيا ومالي وليبيريا والسينغال وغيرها، وتصويره لكل ذلك يفيض بالحياة والصدق إلى جانب تحري العدل والبعد عن العصبية.
وإذا كان هناك ما ينتقد على الأستاذ “إيتالياندر” في هذا الكتاب، فهو أنه لم يوجه مثل هذا الاهتمام إلى شؤون افريقيا العربية، إذ أن فصوله عن المغرب وليبيا وتونس والجمهورية العربية المتحدة والسودان ليست في مستوى ما كتبه عن بلاد القارة الإفريقية، ولعل عذره في ذلك أن تخصصه إنما في شؤون تلك البلاد التي ذكرنا قبل، وهو مشكور على ذلك على أية حال.
وفي خلال كل ما كتب يردد الأستاذ إيتالياندر سؤاله إلى أوربا: ترى هل لدى الشعوب الأوربية من الشجاعة الأدبية ما يحملها على الاعتراف ببشاعة ما ارتكبته أو ما ارتكبه بعض أهلها من الجرائم في القارة الإفريقية؟.
وهل بوسعها أن تهتدي إلى ريق الإخاء الإنساني.. إلى طريق السلام؟
هذا هو ما نرجو..
المصدر: محمود علي مكي، مجلة دعوة الحق، العدد 46، يناير 1962