قصة تأسيس دار الحديث الحسنية (1)
بمناسبة التكريم الذي نظمته دار الحديث الحسنية للعلامة أحمد الخمليشي مؤخرا، تقدم مجلة Oulemag لقراءها الكرام باقة من مقالات لعلماء ومفكرين استعرضوا فيها السياق والدواعي التي كانت وراء اتخاذ أمير المؤمنين الحسن الثاني طيب الله ثراه قرار تأسيس دار الحديث الحسنية وتأسيس المجالس العلمية، وتنظيم الدروس الحسنية الرمضانية.
دار الحديث الحسنية درة لامعة في العهد الحسني
دار الحديث الحسنية، هاته المؤسسة الناشئة، التي أمر جلالة العاهل الكريم بإخراجها إلى حيز الوجود، دعما منه للثقافة الإسلامية، والتربية الدينية، عندما شعر جلالته بالحاجة الملحة، تدفع إلى مثل إقامة هذه المؤسسات إلى جانب أخواتها، كليات الشريعة، وأصول الدين، واللغة العربية وغيرها من المعاهد الأصلية، التي تعتبر روافد بجامعة القرويين، حتى يكتمل من ذلك كله هذا الصرح الهرمي العظيم والذي تتحصن به ثقافتنا التي نعتز بها، ويتصل بها حاضرنا بماضينا ومستقبلنا، أصدر جلالته هذا الأمر الكريم في شهر رمضان المعظم، سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف، في حفل كبير تحققت فيه كل دواعي الفخر والقداسة والجلال.
فقد كان شهر رمضان المعظم، وفي ليلة بارك الله فيها من فوق سبع سماوات هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفي مكان ذي قداسة وإكبار، فهو يضم رفات أماجد كرام، وملوك عظام، كلهم ضرب بسهم وافر في إعزاز دين الله، ورفع راية القرآن، ودعم الإصلاح الديني والثقافي في هذا الوطن العزيز، أولئكم هم أجداد مولانا أمير المؤمنين الغر الميامين، المنعمون في ظلال الفردوس: محمد بن عبد الله، أمير المحدثين، وإمام المصلحين، والحسن الأول المكافح المناضل، الذي كان عرشه صهوة جواده، من أجل المحافظة على سلامة الأمة وكرامتها ووحدة ترابها، وبطل الحرية المجاهد العظيم، المصلح الكبير المغفور له مولانا محمد الخامس.
في هذا المكان الذي اختير ليكون معهدا يلتقي فيه أقطاب الثقافة الإسلامية من جميع أنحاء المعمور وفي شهر الله المبارك رمضان المعظم، صدر هذا الأمر المنيف في خطاب كريم، ألقاه جلالة الملك أعزه الله، بمحضر أكابر العلماء ورجال الدولة، وأعلن فيه عما كان يختلج في صدره من أماني عزيزة وغالية، أصبح يحققها بتدشين دار الحديث الحسنية في حفل يضم نخبة من حاملي مشعل الهداية في هذه المملكة السعيدة، ويعلل عمله هذا أعزه الله بأنه ظل يعمل منذ ولاه الله مقاليد هذه الأمة، وبحكم التربية التي نشأه عليها والده المنعم قدس الله سره، على أن يستمر مشعل الهداية الإسلامية، ينير بإشعاعه الخالد هذه الديار، باذلا في ذلك كل نصح وتوجيه، محصنا بذلك المقومات الروحية، التي تعتز بها أمته الوفية، من كل زيغ وتحريف، مؤمنا أعزه الله بأن لا صلاح للأمة الإسلامية إلا بما صلح به أولها، وأن التراث الإسلامي الذي أصبح تراثنا نحن المغاربة عموما، لجدير بأن يحملنا على الاعتزاز به وأن نعمل من أجل المحافظة عليه، بكل ما أوتينا من قوة حتى نقيه من خطر العفاء والاندثار ونحميه من كيد الهدامين والمضلين.
ويشير جلالة الملك في خطابه الكريم، إلى الخطة التي سينهجها هذا المعهد بتوجيهاته الكريمة، فيقول: نحن موقنون بأن الدروس العلمية، التي عرفتها حلقات الدراسة في أول جامعة عالمية، (جامعة القرويين) التي حج إليها رواد المعرفة من جميع أنحاء المعمور، بما في ذلك أوربا، كانت في عصورها الذهبية عصارة ما انتهى إليه الفكر البشري، الذي تلاقح بمختلف نتائج الحضارات، بيد أن عملا تجديديا كان لابد أن يصاحب ذلك التراث، ليتطور وينمو ويثبت على مر الزمان أمام مختلف التيارات الفكرية، والاكتشافات العلمية.
وإذا كانت عناية الله، قد أحاطت هذا التراث الخالد بمن حافظوا عليه في مختلف الأعصر من ملوك هذه الأمة الخالدين، فإنه في زمننا هذا، القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي، يوجد هذا التراث في أشد الحاجة إلى من يعمل على حمايته وإحيائه، ويحافظ على مقوماته، وقد دهمته التيارات المختلفة من كل جانب، وهي تيارات تغزو العقول والأفكار، بوسائل التقنية الحديثة، في ميدان الإلحاد والكفر والزندقة، والشك والتشكيك، يعززها في ذلك الحلف الثلاثي الهدام، الصهيونية العالمية والشيوعية والاستعمار، والكل يعلم خطورة هذا الثلاثي البغيض على كيان الحضارة والثقافة الإسلامية.
وقد فيض لهذا العهد، وهاته الرسالة الشريفة من يقوم بأعبائها خير قيام، فكان واضع الأسس لهذا الاتجاه، جلالة المغفور له، محمد الخامس طيب الله ثراه، وجاء خلفه الأمين، ووارث سره العظيم جلالة الحسن الثاني، وها هو يعلي البناء، ويحصن هاته الثقافة وهذا التراث الذي يربط الحاضر بالماضي، ويسير بالأمة قدما نحو الازدهار المنشود، في ظل تعاليم الإسلام الخالدة، وتقاليدنا الطيبة الموروثة، فيؤسس المعاهد على اختلاف مراتبها وأهميتها، لتكوين الأبطال المكافحين، والرجال العاملين، من أجل استمرار عقيدتنا الإسلامية، ومقوماتنا الفكرية، ومميزاتنا الحضارية، سالمة غير مشوبة بما يعكر صفوها، ويخدش صفاءها، مما تموج به الاتجاهات الفكرية المعاصرة، من مثالب ومفاسد.
وفي هذا النطاق جدد جلالة الحسن الثاني لجامعة القرويين نظامها، وأرساه على قواعد ثابتة، تضمن لها السير في مهيعها الرشيد، وتطعم مناهجها، بما تدعو إليه وضعية الكفاح الفكري المتجدد من وسائل وأسباب، وتحيي ما اندرس من فنون، أصبحت من ضروريات العصر التقني الذي نعيشه، مع المحافظة على قداسة الرسالة الخالدة، التي حملت الجامعة مشعلها منذ أزيد من ألف ومائة عام.
وهذه دار الحديث الحسنية، التي وضعها جلالة الحسن الثاني في قمة هذا الصرح الهرمي للجامعة، قد أتت أكلها الطيب في ظرف قصير، بفضل العناية السامية، والرعاية المولوية، التي يوليها لها مؤسسها العظيم، أدام الله توفيقه وعزه.
فهاهي الطليعة الأولى من خريجي الدار أضحت تشارك في مختلف المجالات العلمية والفكرية، على مستوى مشرف، في الدروس الملكية في رمضان، وفي الدروس الشهرية التي يشرفها برئاسة جلالة الملك بأقاليم المملكة الشريفة، إلى جانب الدروس التي تنظمها وزارة الدولة للشؤون الثقافية والتعليم الأصلي كل أسبوع في مدن المملكة وقراها، طيلة السنة الجارية، الأمر الذي جعل ذكر دار الحديث الحسنية يجري على كل لسان من ملايين المؤمنين ويفيض بالثناء والشكر لصاحب هاته النعمة، ومؤسس هاته الدار.
والخريجون يعملون على إعداد رسائلهم، التي سينالون بمناقشتها شهادة الدبلوم في الدراسات الإسلامية العليا، والتي ستزود المكتبة المغربية الإسلامية عما قريب، بأكثر من خمسين كتابا، في الدراسات والبحوث الفكرية، وإحياء التراث الإسلامي، وهذا عمل إن لم يمكن رؤيته اليوم، فسيعلن نفسه غدا، وإن غدا لناظره قريب.
وقبل أن ننهي هذا الحديث الوجيز عن أهداف هاته المؤسسة الناشئة، فمن الاعتراف بالفضل لذويه أن ننوه بالمجهود الجبار الذي قامت به وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية التي قامت بتنفيذ رغبة مولانا الملك المنصور بالله في الإسراع بإنجاز المشروع فأعدت المقر الحالي الذي توجد به المؤسسة وهيأته تهييئا لائقا وأنشأت المكتبة الخاصة لدار الحديث والتي تضم أزيد من أربعة آلاف مجلد من أهم الكتب في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه والفقه وأصوله والسيرة النبوية والتاريخ والجغرافية والنحو واللغة والبلاغة والمنطق وعلم الاجتماع وغير ذلك مما يعتمده الطلبة والأساتذة في بحوثهم ودراساتهم كما شجعت طلاب الفوج الأول ببعض المنح، قبل أن تصبح المؤسسات تابعة لجامعة القرويين ويسند الإشراف عليها إلى كل من وزارات التعليم الأصلي والشؤون الإدارية والأوقاف، كل فيما يخصه، طبقا للمرسوم التأسيسي الذي صدر في غشت من السنة المنصرمة.
كما نشكر وزارة التعليم الأصلي ووزارة الشؤون الإدارية على العناية التي توليها كل منهما لدار الحديث الحسنية، ونشير إلى الأثر العظيم الذي لها، والسمعة الطيبة التي تتمتع بها، في الأقطار الإسلامية القريبة والبعيدة على السواء، وذلك عندما يعلم القارئ الكريم مدى الإقبال المتوالي على دار الحديث، من لدن المثقفين من مختلف الأقطار الإسلامية.
فقد وصلتنا عشرات الرسائل، يستفسر أصحابها عن مناهج الدار، وشروط القبول فيها، وصلتنا هذه الرسائل من الأقطار الإسلامية في إفريقيا وآسيا: من تونس والجزائر وليبيا والجمهورية العربية المتحدة والسنغال وغانا، ومن المملكة العربية السعودية، والأردن، والكويت، والعراق، وسوريا ن ولبنان، والهند، وباكستان، وتركيا، وإيران.
وهذا ما يؤذن بأن لهاته المؤسسة مستقبلا طيبا وأن مستقبل الثقافة الإسلامية عموما مستقبل زاهر، وسوقها نافقة رائجة، وأنه لا يضيرها ولن يؤثر فيها إعراض المنتسبين إلى اتجاهات أخرى قد توصف بالتقدمية الواقعية، وصدق الله العظيم حيث قال: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام: 89]. أعلى الله منار الدين وأيد بعونه وتوفيقه كل من يعمل لنصرة الإسلام والمسلمين وحفظ دار الحديث في مؤسسها وراعيها جلالة الحسن الثاني (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].
دعوة الحق ، العدد 257 شوال-ذو القعدة 1406/ يونيو-يوليوز 1986