دراسات

أبعاد إمارة المؤمنين في السياق الإفريقي

د. إبراهيم أحمد مقري -جامعة بايرو كنو- نيجيريا.

الحمد لله ربّ العالمين حمدًا جامعا لسائر وجوه المحامد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد،

فإن وحدة المسلمين التي حثّ عليها الكتاب والسنة لا تتأتى بدون قيادة رشيدة؛ فالحياة بدون قيادة فوضى، والسيادة لا تستقيم بدون نظام حكيم، وقد نصّت الشريعة على وجوب الإمامة واشترطت لها شروطا، واتفق الأئمة من أهل السنة والجماعة على وجوب نصب الإمام، وأنه يجب على الأمة الانقياد له، يُقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويسوس حياتهم وفق تعاليم الشريعة السمحة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يمكن اجتماع الأمة تحت كلمةٍ واحدةٍ. وقد دلَّت الأدلة على وجوب البيعة للإمام، والتحذير من الخروج عليه، ففي حديث ابن عمر عند مسلم إن «من مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهليةً1» .

وللإمام صفاتٌ ومؤهِّلات صرّح بها الأئمة من العدالة والعقل والحُرّيّة وغير ذلك، ولكن أخصها بالتمييز هو النسب القرشي الذي يفتقده الكثير من مُدّعي الخلافة النبوية، وهو أمرٌ قد أثبتته شواهدُ السُّنّة الصحيحة، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفقِ عليه «لا يزالُ هذا الأمرُ في قريشٍ ما بقي منهم اثنان2» وقد ذهب أهل السنة قاطبةً إلى العمل بهذا الحديث واشتراط النسب القرشي في الإمام، كما قال الإمام مالك رحمه الله: «ولا يكون –أي الإمام- إلا قرشيا، وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام3» .

وإن عناية المغرب بإفريقيا لتتجذر بعيدا لتعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، فجاء الإسلام ونشّطها وأعطى لها معنى رُوحيًّا ساميًا، فلم تعد العلاقة مبنية على الأسس الجغرافية، وإنما على ثوابت دينية وثقافية مشتركة، تتمثّل في التبادل والتفاعل الإيحابي أخذًا وعطاءً، وما أن اكتَشفت إفريقيا عبقريةَ المغرب في ريادة العلوم والثقافة والدين حتى بايعت له وأسلمت الكثير من دويلاتها وممالكها أمر دينها ودنياها لإمارة المؤمنين، وأخذت إفريقيا علومَ الإسلام ومنهجَ التعليم عن المغرب، وامتزج الشعبان ليتمخض عن ذلك وجود حضارة مغربية إفريقية متميزة بالأشعرية عقيدةً، والمالكية مذهبًا، والتصوف سلوكا، وهلم جرا.

وكانت إمارة المؤمنين منذ تـأسست بالمغرب تُربّي هذه العلاقة وتُنمِّيها بكل السبل، فتراها حينا تعزِّز أواصر العلاقة الروحية التي تربط المغرب بالدول الإفريقية عن طريق توسعة المشاريع الدعوية ونشر التصوف السني في أنحاء القارة، كما تُولي العلومَ والثقافةَ أهميةً كبرى في تنمية الشعب الإفريقي باستقبال البعثات المتلاحقة للعلماء المغاربة للتعليم، وتمتدّ يدُ إمارةِ المؤمنين الحانية -لواجب الخلافة الشرعية التي أنيط بها سلالة بيت النبوة للذود عن حمى الإسلام. وهذا يجعلنا نجد عبارة المغفور له الملك الحسن الثاني في الصميم عندما يقول بأن المغرب «يُشبه شجرةً تمتدُّ جذورها المغذية امتدادا عميقا في التراب الإفريقي، وتتنفّس بفضل أوراقها التي يُقوِّيها النسيمُ الأوربي4» .

وسوف أتناول هذا موضوع من خلال ثلاثة محاور:

الأول: الأبعاد التحكيمية والمرجعية لإمارة المؤمنين: ويتعرض لما تمثله إمارة المؤمنين من مرجعية للمسلمين في إفريقيا، ودفاعها عنهم، وعن مصالحهم الدينية، وكذلك يتعرض لدورها التحكيمي عبر التاريخ.

الثاني: الأبعاد الروحية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي: ويتطرق إلى الروابط الروحية من خلال مدارس التصوف والخطط الدينية كالخطب والدعاء لأمراء المؤمنين عبر التاريخ الإفريقي.

الثالث: الأبعاد العلمية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي: ويتطرق لعناية إمارة المؤمنين عبر التاريخ بالعلم والعلماء الأفارقة.

أولا: الأبعاد المرجعية والتحكيمية:

إن إمارة المؤمنين مسؤوليّةٌ شرعيةٌ ووراثةٌ نبوية جعلها الله في القرشيِّين الفضلاء الأخيار، وقد نهضت بهذا الواجب الشرعي الدولة العلوية الشريفة بعد أن رأت تمزُّق الأمة وشتاتها شذر مذر، ولم يبق لها سوى إمارة المؤمنين المغربية تقف شامخة على وجه أعداء الدين، مع ما تمتاز به عن غيرها بالنسب الهاشمي الشريف، ما يضفي لها شرعية وامتيازا على غيرها ممن يدعي ما تكذبه عليه شواهد السنة الصحيحة، هذا كله إلى جانب السياسة الرشيدة التي تقود بها العباد والبلاد.

وبصفتهم أمراء للمومنين يرى الملوكُ العلويون الدفاعَ عن ديار الإسلام وحفظ مقدَّرات المسلمين وأراضيهم واجبًا شرعيًّا، كما كانوا يرون ضرورة حمل المسلمين على الوحدة والاجتماع تحت لواءٍ واحدٍ مرة باللين ومرة بالشدة في مراقبة تامة للضوابط الشرعية في كلتا الحالتين، وكانوا كذلك يرون ضرورة النظر في مصالحهم الدينية والدنيوية، ويُعبِّر عن ذلك صاحبُ الجلالة المغفورُ له الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه يقوله: «وهذه البيعة تُلزمني وتلزمك، وتضع على كاهلك وعلى كاهلي أعباء وواجباتٍ لم يكتف القدرُ بأن نقول بها، ونصيح بها، بل أرادت ألطاف الله ونعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى علينا ولله الحمد على أن يبوح العالمُ كله، وأن تعترف بها الدوائرُ السياسية العالمية» .5

وقد أسرعت الشعوبُ منذ فجر تاريخ التعانق المغربي الإفريقي إلى مبايعة إمارة المؤمنين المغربية والانضواء تحت لوائها، بيعةً تخوّل لها «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها6.

ومن أقدم تلك البيعات بيعة الإمبراطور إدريس الثالث ملك مملكة كانم برنو 1582م، وقد كُتِبَتِ البيعةُ بفاس ونُقِلت إلى انجمينا (عاصمة كانم برنو وقتذاك) وأَشْهدَ الإمبراطورُ على نفسه وعلى أتباعه بمنطوقها وتبعاتها، وجاء في نص البيعة الطويل: «تدارك الله سبحانه الوُجودَ، وأعزَّ العالمَ الموجودَ، واستطارت الأنوارُ المضيئةُ للأغوارِ والنُّجود، بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمارة الهاشمية العلوية، ففاضت على البسيطة أنوارها، وارتفع إلى السما والفرقدين منارُها… مولانا أميرَ المؤمنين وخليفةَ الله في الأرضين، وسليلَ خاتم النبيّين، ووارثَ الأنبياء والمرسلين، المفترضةُ طاعتُه على جميع العالمين… أمير المؤمنين المنصور بالله أبو العباس…. فإنه إمام الجماعة حقا، المستوفي شروطها، والوارث للخلافة النبوية، والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها…»7

وجرت مراسلات كثيرة بين أمراء المغرب وزعماء مملكة كِبِّي الواقعة حاليا في شمال نيجيريا والملوك العلويين التي تُفيد بالبيعة لهم بيعة شرعية، خلافة عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ومن صحراء شنقيط، وبين خناذيذها الكبار يأتي أحمد المصطفى الودّاني التشيتي، المعروف بابن طوبر(ت1266ه-1850م)، يمدُّ يدَ البيعة للسلطان مولاي عبد الرحمن في القصر السلطاني بمراكش، وقال «يا سيدي، أخبرني شيخي قدس الله روحه، أنه في الحديث {من مات ولم يدخل تحت بيعة سلطانٍ مات ميتةً جاهلية}، والآن امدد يَدَك أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.8

ثم تتوافد بعد ذلك رسائل البيعة من كل نواحي شنقيط وخارجها، وفي السياق يقدِّم إمامُ تندوف الشيخُ محمد بن المختار بن اللَّعْمَش الجكني (ت1285ه-1869) للسلطان محمد الرابع، وقد خاطبه فيها بقوله: «وقد بايعناك على السمع والطاعة، ولزوم السنة والجماعة، والتمسك بالدعوة ببقائها إلى قيام الساعة، في الرضى والسخط، والمكره والمنشط، والعسر واليسر، والقل والكثر، والشدة والرخاء، والسرّاء والضرَاء، على ما بويع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون… وهات يدك يُقبِّلها قرطاسي نائبا عني وعن ناسي» .9

وما فتئت هذه الممالك التابعة لإمارة المؤمنين تدعو لأمراء المؤمنين فوق منابرهم وفي خلواتهم وفي سائر أعمالهم الدينية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مملكة سونغاي.

وخضوعا لواجب الخلافة النبوية في حفظ الرَّعيَّة والسعي في مصالحهم، ظلَّت إمارةُ المؤمنين تحوط إفريقيا المسلمة بعنايتها الكاملة من النواحي الدينية والدنيوية، عن طريق نشر العلم والثقافة وتعزيز الروابط الروحية، كما سيتضح في المحاور القادمة، وكان أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله يشير في مناسبات عديدة إلى متانة العلاقات المغربية الإفريقية، ويقول: «أما علاقتنا مع عمقنا الإفريقي الذي يشكل مجالا لفرص واعدة، فإننا حريصون على نهج مقاربة متجددة، قائمة على التضامن، ومبنية على تعزيز الأمن والاستقرار، خاصة في منطقة الساحل والصحراء، فضلا عن خلق شروط التنمية البشرية، تسهم بالنهوض بالإنسان الإفريقي طبقا لأهداف الألفية للتنمية».10

وعندما دبَّ النزاع والشقاق بين صفوف المسلمين بغرب إفريقيا، وعجزت الأسلحة عن كبح جماحها «عالج المغربُ المسألة داخليا بأدوات دينية من قبيل ترسيخ قيم الإسلام، ودعم التيارات الصوفية المحافظة، والتعايش مع المكوِّنات الإسلامية التي تعترف بإمارة المؤمنين ومستلزماتها السياسية والدستورية» 11وهذا من جماليات السياسة الرشيدة لإمارة المؤمنين التي تقطع دابر الفساد عن طريق العلم والتربية، وبيان ذلك هو الحديث القادم.

ثانيا: الأبعاد الروحية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي:

إن الإسلام قد دخل إفريقيا صوفيًّا من أوَّل يومٍ بفضل الحركة المرابطية التي كان نظامُ الدولة عندها يقوم على أُسس روحية وإيمانية، ومن ثَمّ فإن العناية بالتصوف يعتبر عناية بهوية إفريقيا الروحية والثقافية، حيث «لم يخل مصدرٌ سودانيٌّ من تراجم وأحداث تُظْهرُ طبقةً من الناس بمظهر التبتُّل والتقشُّف والزُّهد، كما أنّ الحديث عن الربط والزوايا يتجلى في تلك المصادر بشكل لا يحمل على الشك بأن الحركة الصوفية في السودان سارت بنفس القوة التي عرفها المغرب»12 والمغرب العربي يبني علاقاته دائما على مرتكزات روحية وثقافية، ويرى محقا بأن «أيّ مبادرة دولية يتمُّ التنسيق بشأنها دون إيلاء البُعد الثقافي والعقائدي الأهمية التي يستحقها، سيكون مصيره الفشل».13

وإن المغرب دولةٌ أقيمت أركانُها على قواعد التصوف، وشُيِّد بنيانُها بلبنات الأخلاق والتزكية الروحية، فقد عُرف يوسفُ بن تاشفين بأخلاقه الكريمة وزهده وعزوفه عن الدنيا، ولم يكن يلبس من الثياب سوى الصوف، وفي دولة الموحِّدين أظهر يعقوبُ المنصور زُهدًا وتقشُّفًا فائقين، واستدعى إلى بلاده جماعةً من الصوفية الأخيار، وكان لا يخرج إلى الجهاد إلا معهم، ولعظيم عنايته بالتصوف زَعَمَ ابنُ بطوطة وابن خَلِّكان أنه ترهْبَنَ وانخلع من الملك. وعلى إثر سلفها سعت الدولة المرينية في الاعتناء بالتصوف والصوفية، من أمثال الأمير أبي محمد عبد الحق، والأمير أبي يوسف الذي بنى الزوايا في الفلوات وأوقف عليها الأوقاف لخدمة عابري السبيل، وقُل مثل ذلك عن أبي الحسن المريني والسلطان عبد الله الغالب، وهكذا.. وهكذا.. ذيول الكثرة.14

وقد قامت زوايا لبعض الطرق الصوفية بعضها مشرقية المنشأ مثل القادرية والرِّفاعية، لكنها انحدرت جميعا إلى إفريقيا عبر المداخل المغربية بعد أن اصطبغت بالصبغة المغربية، ثم انتشرت في إفريقيا، فالطريقة القادرية مثلا انتشرت بفضل الشيوخ الكنتيين «الذين أقامت أسرتهم فترةً بمنطقة توات ثم تعمقوا في قلب الصحراء ومناطق السودان الغربي». ويرى البعض بأن الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي هو أول من أدخل الطريقة القادرية في غرب إفريقيا، فالمجاهِدُ الكبيرُ عثمانُ بن فودي مؤسِّسُ الدولة الإسلامية الفودية، تتصل سلسلةُ إسناده في الطريقة القادرية بالشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي.

لكن التطور الحقيقي للعلاقة الروحية بين المغرب وإفريقيا إنما بدأ مع قيام الزاوية التجانية في فاس على يد مؤسِّسها مولانا أبي العباس الشيخ أحمد بن محمد التجاني، الذي بذل المولى سليمان كلَّ تالدٍ وطريفٍ لتيسير واجب الدعوة له في ربوع القارة، حتى عمّ طريقُه جنوبَ الصحراء، وظلَّ أتباعُ هذه الطريقة محتفظين بالولاء الكامل لهذه الدولة العلوية السنية، وصارت زواياها امتدادات روحيّة لهذه الدولة، فلا تسأل عن الولاء والحب وخالص الدعوات في الخلوات الجلوات في جميع أوقات العبادة والأذكار.

ولا زال التجانيّون يُؤدون واجب هذا الولاء الروحي للدولة العلوية الكريمة، ومن أنصع صور هذا الوفاء التجاني أن الشيخ إبراهيم انياس الكولخي التجاني كان من بين القلة الذين بادروا بزيارة المغفور له الملك محمد الخامس في منفاه بمدغشقر عندما نفاه المحتل. 15ولم لا والولاء التجاني لن يكتمل شكلا ومضمونا بدون العهد العلوي الشريف، حيث كان المغفور له المولى سليمان هو الذي آوى سيِّدَنا الشيخ أحمد التجاني وعزّره ونصره حتى انتشر النور الذي كان معه، وقد أكَّد لهذه البيعة والولاء جماعةٌ من الشيوخ والمقدَّمين التجانيِّين في الجمع الأخير للمنتسبين إلى الطريقة التجانية الذي انعقد بفاس عام 2007م حيث أشادوا بالدور الذي تقوم به إمارةُ المؤمنين بالمغرب في تمتين الروابط الروحية بين المغرب وإفريقيا، وجدّدوا بيعتهم لإمارة المؤمنين وأقرّوا باتخاذهم مدينة فاس العاصمة الروحية والثقافية لهم أينما كانوا.16

وقد أسَّس الحاجُ عمر الفوتي حركةً تجانيةً إصلاحيةً تقوم على العلم والتربية والإصلاح، وخلفه ابنه إبراهيم الذي درس بمراكش واشتغل بالعلم فيها كمُدرِّس، واتخذ بيته منتدًى للوزراء والعلماء، وكان يذهب مذهب المتصوفة على طريقة ابن عربي الحاتمي، ويُعَدُّ في المغرب من أعلام الطريقة التجانية.

وعلى كل، فإن إفريقيا وصحراءها قد وجدتا في الثنائية السنية أي الدولة العلوية والطريقة التجانية خير مزيج لنشر الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رُوَّادَ الوحدة الإسلامية من المتوسط إلى النيجر.

ومن ناحية أخرى نرى الأمراء الغانيين وقد «اعتنقوا الإسلام وانضووا تحت الإمارة المرابطية مع أتباعهم من السراكولي والوانغارا والديولا والمانديغا، وأصبحوا يقومون نيابة عن المرابطين بحملات لنشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من البهل والموسى»17ولا يخفاك أن نشر الإسلام عند المرابطين وسائر أصحاب السلطة المغربية ينبني على الترغيب لا الترهيب، وفي الغالب على البيان لا على السنان.

وليس يخفاك ما تقوم به إمارة المؤمنين تحت حكم العلويين الأشراف من بناء الجوامع والمساجد في بعض عواصم غرب إفريقيا، كما فعلت في نواكشوط، وداكار وباماكو، وسعيها الحثيث لترسيخ قيم المذهب المالكي، والعقيدة السنية السنية اللذين تشرّبا بروح المغرب الصوفية، في البلدان الإفريقية كما سيأتي تفصيله في المحور القادم.

ثالثا: الأبعاد العلمية لإمارة المؤمنين في السياق الإفريقي:

إن الأسرة العلوية الشريفة مشهورةٌ باهتمامها البالغ بنشر العلم وتكريم العلماء، مما جعلها قبلة المسلمين العلمية طلابا وعلماء، فلجأ إليها الكثير من العلماء الشوام والمصريين والحجازيين حين أثخنت بلادهم الحروبُ المتتالية من التتار والصليب وغيرهما.

وكأن القدر يُهيِّئها للريادة العلمية والثقافية فقامت السيدة فاطمة أم البنين بنت محمد بن عبد الله الفهري ببناء أقدم جامعة على وجه الأرض وهي جامعة القرويين عام 245ه، الجامعة التي غدت مدينةُ فاس بفضلها مصدرَ إلهام إفريقيا، ومصنعَ قادتها الكبار، حتى قال عنها باديا لابليش المعروف بعلي باي العباسي: «إن مدينة فاس هي في إفريقيا أشبه بأثينا (عاصمة الفكر) في أوربا» ، 18وقد رحل إليها المشارقة قبل المغاربة، فلا تسأل إذن عن قائمة أسماء القادة الأفارقة الذين نهلوا من معينها وكرعوا من غدرانها الفائضة ليعودوا إلى بلدانهم شعلة نور تضيء الآفاق، فتلك قائمة تمتد مدّ البصر.

وقد تجاوزت العلاقة المغربية الإفريقية في المجال العلمي مجرد الأخذ إلى التثاقف التام بكلِّ ما تحمله الكلمة من أبعاد تفاعل عناصر وجود الإنسان، ويتجلى تأثير المغرب القوي على إفريقيا في هذا المجال من خلال المذهب المالكي الذي انتشر في غرب إفريقيا ولا يزال يتمتع بوجوده القوي متحديا جميع الأعاصير التي تحاول زعزعته عن مراسه، وقد أورد المرحوم الأستاذ إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق فتح الشكور للولاتي قائمة طويلة بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في السودان الغربي جميعه.

وأما المنهج المتَّبع في التعليم فقد رسمه العلماءُ المغاربة، ولا تزال جميعُ المعاهد العلمية العتيقة تتبناه «منذ الدخول إلى الكُتّاب والبدء في حفظ القرآن على رواية ورش إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه، ثم يستقل الطالب لحفظ المتون العلمية الفقهية واللغوية والأدبية، وهذا التأثير أحيانا ما يكون مباشرا عن طريق الاحتكاك الفعلي بالعلماء المغاربة الذين لم ينقطع ورودهم على هذه الأقطار للإفادة، وقد يكون أحيانا غير مباشر عن طريق الكتب والمؤلفات المغربية التي انتشرت واشتهرت في إفريقيا وأصبحت المصادر المعتمدة والمعوَّل عليها».

وعن ممالك جنوب الساحل وجميع الوافدين الأفارقة إلى المغرب، يقول الشاعرُ الكانمي الكبيرُ إبراهيمُ بن يعقوب (ت 609ه) أقدمُ الوافدين الأفارقة بالإطلاق ورودا على المعاهد المغربية فيما يحفظ التاريخ، يؤشر بالولاء الذي تكنه إفريقيا للمغرب، قال:

وكان من جملة الزعماء الأفارقة الذين تلقّوا علومهم في المغرب الشيخُ محمد الأمين الكانمي الذي أقام في فاس سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلسمان وبعد عودته إلى برنو قام بأدوار جليلة في نشر العلم، وقُلِّد منصبَ إمارة مملكة كانم برنو، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفاراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة.

وإن المشاريع الدعوية والتنموية في إفريقيا لم تجد قطُّ يدًا أحنى ولا أدنى من إمارة المؤمنين تمهد لها الطريق وتسهل لها أعباء الدعوة التي ينوء بحملها أولو القوة، فأسّست الإمارةُ رابطةَ علماء المغرب والسنغال لينطوي بذلك البُعدُ الجغرافي ويتلاقح بذلك الشعبان ثقافة وفكرا وسلوكا.

وإن اهتمام إمارة المؤمنين بمشروع التنمية الإفريقية هو الذي حَرَّض وحثَّ العلماءَ المغاربةَ ويسَّر لهم سبل الرحلة إلى بلدان إفريقيا ليدخلوا فيها وينشروا العلم والثقافة والطريق، وفي هذا السياق أورد الدكتور محمد الغربي في كتابه قائمةً بعشرات الأسماء من العلماء المغاربة الذين دخلوا إفريقيا لغرض نشر العلم، جاء فيها الأستاذ محمد بن عبد الكريم المغيلي، وأبو القاسم التواتي، والشيخ محمد القوري من تلاميذ الشيخ أحمد زرُّوق الذي هاجرت عائلتُه إلى المغرب، وذاع صيتُه في العلم، وانتقل إلى إفريقيا ونشر العلم والتربية الصوفية، ومنهم القاضي عبد الله بن أحمد الزموني المؤرخ الكبير، وشارح كتاب الشفا، وقد تتلمذ على يديه قاضي تمبكتو وعدد كبير من علماء مالي، وأما عبد الرحمن القصري فقد أوغل في إفريقيا حتى دخل أرض كنو وكشنة النيجيريين وغيرهما، «وحدَّث بمحضر ملوكهم وأَجْلَوْه للتحدُّث على الفُرش الرفيعة ووصلوه الصلات الجزيلة من جَوارٍ وغيرها حتى وُلِد له من أهلها، وبعد جولته في بلاد الهوسا عاد إلى فاس وتقلّد منصب الإفتاء إلى أن توفي بها سنة 956ه19.

وعموما فإن فضل إمارة المؤمنين على إفريقيا مما لا يحتاج إلى أن يساق بين سلاسل الشواهد وأغلال الأدلة، فلولاها لما «توارد على بلاد السودان عشرات العلماء من المغرب، واستقبلت جامعة القرويين الآلاف أيضا ممن لمع اسمهم في تاريخ البلدين، وازدهرت تجارة الكتب وحفلت خزائن مدن السودان بكل ما كان معروفا من كتبٍ في مختلف الفنون» .20

وإذا كانت تمبكتو عاصمة الثقافة للمدن الإفريقية، فإن وراء ذيوع صيتها مركزان كانت شهرتهما لا تقل عن شهرة جامعتي القرويين والزيتونة في فاس وتونس، وهما جامعتا سنكري أو سنكوري وسيدي يحيىى في تمبكتو. فالمركز الأول من حصيلة العلماء المغاربة الذين وفدوا إلى الديار الإفريقية لغرض الإفادة ودرسوا فيها كما سبقت الإشارة إليه، وأما المركز الآخر فهو لسيدي يحيى، وهو عالمٌ مغربي من سوس، بنى المسجد وأنشأ فيه حلقاتٍ علمية يقصدها الكثير من الطلبة والعلماء، وعندما توفي دفن بجوار المسجد.

وقد اعتمد العلامة الشيخ عثمان بن فودي على مؤلَّفات الإمام المغيلي في تنظيم شؤون إمارته إداريا وسياسيا وتدبير شؤون الحكم والجهاد، وقبل ذلك في التنظير للأسس الفكرية التي قامت عليها الدولة الفودية، لدرجة أن بعض الدارسين يرون بأن الشيخ عثمان لم يتأثر بشخصية واحدة تأثره بالمغيلي، وهذا جليٌّ في كل ما ألّف وخلّف، وقد تتبع أحدُ الباحثين المغاربة مصادرَ الشيخ عثمان بن فودي من مؤلَّفاته التي تربو على مائة فوجدها جميعا مصادر مغربية إلا في النزر اليسير.

وإذا كان مُؤَلَّف واحد يُستأثر دون غيره بتوجيه الحركة الفودية الإصلاحية فلا شكَّ أن ذلك الكتاب هو المدخل لابن الحاج العبدري الفاسي، الكتاب الاجتماعي التربوي الذي وصف فيه صاحبه كثيرا من أوضاع المجتمع الإسلامي، وما كان عليه أهل زمانه من البدع والانحرافات، واهتم فيه بمعالجة سلوك المسلم في حياته اليومية. حتى لقد بلغ اهتمام الشيخ عثمان بن فودي بالمدخل إلى اختصاره في كتاب سماه «لباب المدخل» ثم الحذو على منواله بكتاب آخر سماه «إحياء السنة وإخماد البدعة».

وتمتد يدُ العناية المغربية بعد عهود وعهود ليؤسس الملك الحسن الثاني «معهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس حتى لا يبقى التراث الإفريقي خاملا بين رفوف المكتبات، ولكن يُدرَس وتعاد قراءته وتنزيله، ثم يأتي صاحب الجلالة أمير المؤمنين الملك محمد السادس حفظه الله بمبادرة غير مسبوقة في نوعها لمكافحة التشدد والإرهاب بين صفوف المسلمين في إفريقيا فيؤسس معهد الملك محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات.

وليس يخفى على ذي بصر مدى عناية إمارة المؤمنين في الوقت الراهن بتكوين العلماء في البلدان الإفريقية، حيث كانت تستقبل كل عام «منذ أزيد من نصف قرن آلاف الشباب من البلدان الإفريقية للتكوين في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، ولم يكن أحد قبل أزمة الهوية الدينية القائمة اليوم، وتهديد الإرهاب، يفكر في التكوين في مجال الإمامة.21

خاتمة:

لقد اتضح فيما سبق أن الثوابت الدينية من آكد المقاصد الضرورية الواجبة حفظها إقامة واستدامة بإجماع علماء الشريعة الغراء، وكانت الإمامة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيقها والتمكن من حراسة الدين ورعاية مصالح المسلمين، كما ظهرت جليا المكانة المرجعية والتحكيمية التي تمثله إمارة المؤمنين للمسلمين عامة وللأفارقة خاصة في المناحي الدينية والثقافية والحضارية.

وقد تحملت إمارة المؤمنين مسؤوليتها الشرعية هذه عبر التاريخ فمدت جسر التواصل لينحدر علمها وثقافتها وروحها الطيبة إلى إفريقيا، وانبثق عن ذلك الإشعاع الروحي والثقافي وعم التسامح والوسطية، وبزغ الربيع العلمي الزاهر في جميع القارة.

وإن الهوية الدينية لإفريقيا الآن لا يمكن تشخيصها بعيدا عن العناصر المغربية التي غذت من لبانها الطاهرة حتى ربت وأنبتت، فالعقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني هي مكونات الجسد الإفريقي المسلم، وهي من جملة ما سخرت إمارة المؤمنين نفسها لنشره في العالم.

11 – صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، ح: 1851 ج: 3 ص: 1478.

2 – صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش، ج: 13 ص: 114 فتح الباري، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخلافة في قريش، ح: 1820 (3/1452).

3 – أحكام القرآن، لاين العربي المالكي/ ج: 4 ص: 1721.

4- محددات السياسة الخارجية المغربية تجاه الدول الإفريقية وجتوب الصحراء، مقالة منشورة بمجلة سياسات عربية، للكاتب يحي بولحية، العدد 10 أيلول/سبتمبر، 2014م، ص: 73)

5 – البيعة وأثرها في الاستقرار وربط أواصر المحبة وتجديد العهد بين شمال المغرب وجنوبه، للأستاذ محمد كنون الحسني، مقالة منشورة بمجلة دعوة الحق، العدد 397 شعبان 1431ه، يوليو 2010

6 – المقدمة للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون، ص: 190 الطبعة الرابعة 1398هـ، دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة.

7 – انظر نص البيعة كاملة في مناهل الصفا لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص: 69.

8 – البيعة وأثرها في الاستقرار، مرجع سابق.

9 – المرجع السابق.

10 – مقتطف من خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى الثانية لعيد العرش، طنجة 30/7/2001م.

11 – محددات السياسة الخارجية، ص: 82.

12 – بداية الحكم المغربي للسودان الغربي، د. محمد الغربي، مؤسسة الفليج للطباعة والنشر، الصفا- الكويت ص: 559.

13 – من نص الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس في حفل تنصيب رئيس مالي الجديد في باماكو 19/9/2013م.

14- انظر معطيات الحضارة المغربية، عبد العزيز بن عبد الله، الطبعة الثالثة، دار الكتب العربية، ج: 1، ص: 162-164

15 – السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف المغربية في خطاب ألقاه في الدورة الثالثة والأربعين لأكاديمية المملكة المغربية يوم 10 ديسمبر 2015م.

16 – وكالة المغرب العربي للأنباء تحت عنوان «التجانية لعبت دورا متميزا في تمتين الروابط الروحية الخاصة بين المغرب وإفريقيا عام 2007م.

17- بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، ص: 40

18- انظر معطيات الحضارة المغربية ص: 119-121

19 – انظر كتاب بداية الحكم المغربي للسودان الغربي ص: 514-518

20 – بداية الحكم المغربي للسودان الغربي ص: 514

21- أحمد التوفيق، في الخطاب المذكور سابقا

أثر المشترك المذهبي والعقدي في الوحدة الإفريقية

د. محمد أمباكي جوف

أستاذ الدراسات العربية الإسلامية، والثقافة السياسية – السنغال.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فلقد جاء الإسلام آخر الرسالات السماوية لتنظيم حياة الناس وهدايتهم إلى طريق السعادة الدنيوية والأخروية. وقد تضمن هذا الدين الحنيف جميع التعاليم التي يحتاج إليها الإنسان من عقائد وعبادات وقيم تصلح بها حياة الفرد والمجتمع. يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ1} . فربي النبي محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام على هذه العقيدة وهذه القيم فاهتدوا وهدوا، وكانوا خير جيل نشروا الإسلام وتعاليمه في فترة قياسية. وظهر أثر الإسلام في جميع نواحي الحياة : الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكارم نماذج في الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة. والإنسان بصفته مدنيا بالطبع يحتاج إلى غيره في كثير من الأمورلتتحقق سعادته، وهذه السعادة تكمن أحيانا في الوحدة، والوحدة ضرورة حضارية طرحها الإسلام منذ قرون عديدة من الزمن، فبها يتأسس ويتطور المجتمع. والمذاهب الفكرية، والمعتقدات، والطرق الصوفية بحكم كونها مرجعية دينية تهدف إلى تهذيب النفوس لإقامة مجتمع سعيد، لها دور في إيجاد ظروف تهيئ الوصول إلى جو يسوده التقدم والنمو.

واعتمادا على كل هذا سأحاول في هذا البحث تسليط الضوء على الموضوع (أثر المشترك المذهبي والعقدي في الوحدة الإفريقية) وفق النقاط الآتية:

أولا: أهمية الوحدة.

ثانيا: لماذا الحاجة إلى وحدة إفريقيا.

ثالثا: خصائص المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية.

رابعا: دور التصوف في تعزيز مبادئ الوحدة في إفريقيا.

خامسا: أثر المشترك العقدي والمذهبي في الوحدة الإفريقية.

أولا: أهمية الوحدة.

الوحدة مطلب ديني، يدعو إليه الإسلام، ويحث عليه القرآن الكريم في أماكن عدة، يقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا2} ويقول عليه الصلاة والسلام: «يد الله مع الجماعة3» . كما يقول: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن4» ، وهذا دليل على أن الوحدة أمر رباني قبل أن يكون مطلبا إنسانيا لتحقيق المصالح الدنيوية. فالرحمة وعاء حوى كل الخيرات، ورسول الإسلام أرسل رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}،5 وقد قورنت هذه الرحمة بالجماعة.

ثانيا: لماذا الحاجة إلى وحدة إفريقيا؟

ظلت إفريقيا حتى منتصف القرن العشرين، مسرحاً للتنافس الاستعماري لعدد من الدول الأوروبية، التي سيطرت عليها واستغلت مواردها المختلفة، وشهد بداية عقد الستينات استقلال بعض الدول، ثم ازداد هذا العدد إلى أن استقلت جميع دول إفريقيا، إلا أن هذا الاستقلال بقي شكليا، في بعض الأحيان حيث إن المستعمرين خرجوا من الباب ورجعوا عبر النافذة، حيث إن الاستعمار الاقتصادي لا زال موجودا في كثير من الدول. والقارة الإفريقية بعد مرورها بمراحل عديدة شهدت خلالها التفرقة والتقزم، والحروب الأهلية والصراعات الدموية والاستعمار الأجني وما خلفه من آثار سلبية، ولذلك فهي في حاجة اليوم إلى الوحدة والتجمع في ظل كيان واحد يحقق لها القدرة التفاوضية والندية أمام التكتلات الأخرى في الوقت الذي لم يعد هناك مكان للكيانات القزمية. ولعل الاتحاد الإفريقي هو الطريق السالك إلى تحقيق هذا المطلب المنشود، حيث إن قيامه يعتبر صدور شهادة ميلاد لتأسيس عصر إفريقي جديد، بعد عقود من الزمن يناضل فيها الأفارقة من أجل تحقيق هذا الحلم. إلا أنه تعددت محاولات التجمع والوحدة بين هذه الدول، حتى ظهرت منظمة الوحدة الإفريقية كمنظمة إقليمية تسعى لإخراج القارة من وطأة الهيمنة والاستغلال6 .

وهناك جوانب متعددة يمكن الاعتماد عليها لتجسيد هذا الحلم، ومنها الجانب العقدي الذي يمكن اعتماده قاسما مشتركا بين كثير من بلدان القارة. ويتمثل هذا الجانب المهم في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني.

ثالثا: خصائص المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية

المذهب المالكي7 هوالمذهب الذي اختاره معظم مسلمي إفريقيا– أو على الأقل غرب إفريقيا- فجمع شملهم ووحد كلمتهم وعصمهم من التفرق والاختلاف. وذلك بسبب توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة. كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم. بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم. فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع. فقد نحا الإمام مالك منحى فقهاء أهل المدينة في الأصول التي بنى عليها اجتهاده، واتخذت بعده أساسا لمذهبه.

وللمذهب المالكي خصوصيات جعلته متميزا عن بقية مذاهب أهل السنة ولعل

أهمها:

أ – خصوصيات المذهب على مستوى أصول الفقه

يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول الفقه بعدة مزايا وخصوصيات من

أهمها:

  1. وفرة مصادره وكثرة أصوله المتمثلة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة وعمل أهل المدينة والقياس والاستحسان والاستقراء وقول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وعمل أهل المدينة والأخذ بالأحوط ومراعاة الخلاف. بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف ومائتي قاعدة تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته8 .

هذه الكثرة أغنت الفقه المالكي وأعطته قوة وحيوية ووضعت بين أيدي علمائه من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد ويمكنهم من ممارسته ويسهل عليهم مهمته. وإذا كانت بعض المذاهب شاركت المذهب المالكي في بعض هذه الأصول فإن ميزة الفقه المالكي تكمن في الأخذ بجميع هذه الأصول بينما غيره لم يأخذ إلا ببعضها ورد الباقي.

  1. تنوع هذه الأصول والمصادر ذلك أنها تتراوح بين النقل الثابت والرأي الصحيح المستمد من الشرع والمستند إليه كالقياس. هذا التنوع في الأصول والمصادر والمزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر وعدم الجمود على النقل أو الانسياق وراء العقل هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي ويسره ووسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.
  2. توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة وتنبيه الخطاب كما يقبل دلالة السياق ودلالة الاقتران والدلالة التبعية، وقد استدل بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها9) على عدم وجوب الزكاة في الخيل لاقترانها بالحمير التي لا زكاة فيها، كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم. بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم، فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع10 .

ب. في خصوصياته على الصعيد الفقهي

  1. رحابة صدره وانفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية والشرائع السماوية السابقة واعترافه بالجميع واستعداده للتعايش معه والاستفادة منه بفضل قاعدة شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ التي اتخذها مالك أصلا من أصوله التي بنى عليها مذهبه وأسس عليها فقهه وانطلاقا من إيمانه بحرية الاجتهاد ووجوبه، وأنه لا يقلد مجتهد غيره، وأن المصيب واحد كما يراه مالك وأكثر علماء الأصول11 .
  2. قابليته للتطوير والتجديد، سعة أصوله وكثرة قواعده، فهو قائم على أصول نقلية وعقلية، وأخرى ترجع إلى الأعراف والعادات، أصول وقواعد تتصف –في نسقها العام- بالسعة والمرونة، مما جعلها تضمن لهذا المذهب صلاحية دائمة على استيعاب التطورات واحتواء المستجدات. فقيام المذهب المالكي على إجماع أهل المدينة وفقههم، وامتزاج ذلك بأصول عقلية في غاية من الدقة والمرونة كاعتماد المصالح المرسلة والاستحسان في الاجتهاد الفقهي، كل ذلك أضفى على المذهب صفة الاعتدال والتوسط، ما بين العقل والنقل، بين الشرع والواقع. لذلك كثيرا ما تجده يتوسط في المسألة بين مذهبين متقابلين مراعاة للمصلحة العامة.
  3. المرونة، في تصحيحه حكم المخالف لمذهب مالك ومنع نقضه وإن خالف المشهور أو الراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة بحكم الحاكم يرفع الخلاف المشار لها بقول خليل: «ورفع الخلاف لا أحل حراما».
  4. السماحة والتيسير في آرائه، كما نراه في استحسانه العمل برأي المخالف ابتداء في بعض مواطن الخلاف من باب الورع والخروج من الخلاف، مثل قراءة البسملة سرا، وقراءة الفاتحة خلف الإمام للخروج من خلاف الشافعي.
  5. الوسطية والاعتدال، كما نراه في رفضه تكفير المسلمين بالذنب والهوى فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ «فقال من الكفر فروا». وكذلك ما قرره الفقه المالكي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تحقق التعايش بين المذاهب.

واعتمادا على هذا، يرى الباحث أبو مدين شعيب تياو أن العلماء الأفارقة كانوا يفتخرون بانتمائهم إلى المذهب المالكي، مبرهنا ذلك بقوله: «ويقول الشيخ ماجور سيسه 12Madior cissé في مقدمة كتابٍ له في الفقه هبة الكريم المالك في أحكام الطهارة والصلاة على مذهب الإمام مالك: « يقول العبد الفقير إلى ربه… المالكيُّ القادر». ولم يقتصر العلماء على ذلك، بل أوصوا تلامذتهم بذلك، وندبوهم إلى التقيد بالمذهب المالكي، فنرى الشيخ أحمد بامبا- خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم13- يقول لتلاميذه: «فأمرتكم جميعا بالمذهب المالكيّ». وقال: «عليكم بالمالكيّة، فإنها مُطهَّرةٌ مُنَوَّرة14» ، بالإضافة إلى مراعاتهم ذلك في تواليفهم وفتاوَاهم15»، ومدارسهم لا زالت تتميز بهذه الميزة إلى يومنا هذا.

العقيدة الأشعرية

أسهمت الأشعرية رفقة المذهب المالكي والتصوف السني في خلق انسجام مذهبي وعقدي في إفريقيا، خاصة الجانب الغربي منها، جنبها كثيرا من القلاقل والفتن التي كانت تقع في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب الخلافات العقدية.

ونظرا لما امتاز به منهج الأشعري من وسطية واعتدال، وما طبع مناظراته ومؤلفاته من قوة الحجة، فقد وفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وإفحام الخصوم والمعاندين، قد ظهرت حاجة الأمة إلى أبي الحسن الأشعري من خلال الأسئلة التي تواردت عليه من أقطار العالم فأجاب عنها؛ فطبق ذكره الآفاق. وقد استحق بما كتبه في نصرة السنة أن يسمى إمام أهل السنة، وأن يتفق الجمهور على أنه مجدد المائة الثالثة. وتجرد بعد ذلك أصحابه وأتباع مذهبه في العقيدة من المذاهب الفقهية الأربعة، ينشرون عقيدة أهل السنة والجماعة التي جمع الله عليها السواد الأعظم بعد فرقة وشتات وتمزق16 . ويتبين مما سبق أن المذهب المالكي المبني على العقيدة الأشعرية17 وجد في إفريقيا أرضا خصبة وباحة مريعة للنموّ، وألفى بها علماء وفقهاء ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ عليه ونشره، كما أنهم لم يألوا جهدا في المساهمة فيه بالتأليف والتصنيف نظما ونثرا، فضلا عن إفتاء الناسِّ وفقَ المذهب،وتأسيسِّ مناراتٍ علمية لتعليم العلوم الشرعية والفقه المالكيّ.

رابعا: دور التصوف في تعزيز مبادئ الوحدة في إفريقيا

يقول البا حث يوسف بن حيدة: « لعبت الطرق الصوفية دورا أساسيا في نشر الإسلام في أجزاء كبرى من القارة الإفريقية… وكان دور الطرق الصوفية في هذا، مرتبطا بالدعوة والجهاد بفضل نشاط شيوخها الذين استطاعوا ان يلقنوا تلك الشعوب مبادئ الدين الإسلامي، ويرفعوا رايات الإسلام والدعوة المحمدية في المنطقة. وقد تعزز نشاط الطرق الصوفية بشكل كبير في مستهل القرن السادس عشرميلادي، تزامنا مع قيام قوى التبشير المسيحية، وخاصة البرتغالية، بحركتها التبشيرية18» .

واتساقا مع ما سبق، نشير إلى أن التصوف السني الذي هو مسلك في التخلق يطهر الباطن ويزين الظاهر ويضبط التصرفات بضابط الإنصاف، هو الذي يهمنا في هذا الموقف، وسنورد بعضا من تعريفاته:

  • التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا، وهي الخلق الإلهية. وقد يقال بإزاء إتيان مكارم الأخلا ق وتجنب مفاسدها19 .
  • يقول شيخ الإسلام إبراهيم عبد الله نياس الكولخي: «سئل سيدنا ومولانا وأستاذنا السيد أبو العباس التجاني رضي الله عنه عن حقيقة التصوف، فأجاب رضي الله عنه بقوله: اعلم أن التصوف هو امتثال الأمر واجتناب النهي في الظاهر والباطن من حيث يرضى لا من حيث ترضى20» .
  • يرى الدكتور أبو الوفاء التفتزاني بأن التصوف: «فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس أخلاقيا، وتتحقق بواسطة رياضات عملية معينة تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها ذوقا وعقلا، وثمرتها السعادة الروحية، ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية21» .

وبهذا نفهم أن التصوف ترجمة لأخلاق القرآن؛ لأن القرآن– كما يرى الدكتور قاسم عزيز الوازني- «كتاب أخلاق، وتعاليمه في هذا الجانب تشهد على أنه كتاب روحي يسمو فوق كل المذاهب الفلسفية والأخلاقية والدينية22» .

وبناء على هذا، يمكن القول بأن الطرق الصوفية هي المدارس الروحية التي تتولى إعداد النفوس للترقي بها أخلاقيا. أو بعبارة أخرى هي استمرارية لمهمة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، لإتمام مكارم الأخلاق. وقد تعددت تسمياتها على مر التاريخ وعلى مختلف الأماكن لكن تبقى مهمتها الأولى هي تهذيب النفوس للوصول إلى سعادة روحية. وقد ثبت أن تاريخ المجتمعات والأديان مليء بسير المصلحين وحركات الإصلاح. وتختلف المناهج المتبعة في الإصلاح وفي تغيير ما في المجتمع من المنكرات ويعود هذا التنوع إلى الاختلاف في الرؤية وفي التشخيص لطبيعة التحديات والمشكلات التي تواجه المجتمع. فهناك من ينطلق من الدين وإصلاح ممارسات الناس23 له لتغيير ما في المجتمع من أنواع الفساد، معتمدا على التربية، وهناك من ينطلق من السياسة لمحاولة تنظيم المجتمع وتوجيهه بالسلطة والحكم.

إن محاولات الإصلاح الديني في إفريقيا قد تعددت في واقع الأمر، وتنوعت مشارب الدعاة وتوجهاتهم: فمنهم من رأى أن الحل يكمن في إصلاح العقيدة، ومحاربة غيره وصولا إلى تكفيرمن سواهم، ووجوب حمل السلاح ضده بحجة الدفاع عن راية الإسلام.

ولعل هذا الذي دفع الأستاذ أحمد توفيق إلى القول: «إن الجهاد شرع للدفاع، ولا يعلنه وينهيه إلا الإمام الأعظم، وإن الإرهاب الذي يسمونه جهادا يتناقض مع أهداف الإسلام الكبرى في نشر السلم والتعاون بين الناس» . ومنهم من رآه في إصلاح السياسة والحكام وتطبيق الشريعة، ومنهم من ركز على ضرورة تزكية النفوس وتطهير القلوب. وهذا الاختيار هو اختيار المتصوفة في غالبيتهم.

هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام في إفريقيا– خاصة الجزء الغربي منها- يتميز بالطابع الصوفي، مما جعل معظم مسلمي إفريقيا ينتمون إلى طرق صوفية، مثل: القادرية، التيجانية، الشاذلية، المريدية، وغيرها من الطرق. وهذه الميزة ساهمت في تقريب المسافات بينهم، وتوحيد الرؤى في كثير من المسائل العقدية، والتي لايختلف اثنان في أنها ركيزة أساسية في توحيد الصفوف سياسيا واقتصاديا.

الخلاصة

وخلاصة ما سبق: إن القارة الإفريقية بعد مرورها بمراحل عديدة شهدت خلالها التفرقة والتقزم، والحروب الأهلية والصراعات الدموية والاستعمار الأجني وما خلفه من آثار سلبية، إنها لفي حاجة اليوم إلى الوحدة والتجمع في ظل كيان واحد يحقق لها القدرة التفاوضية والندية أمام التكتلات الأخرى في الوقت الذي لم يعد هناك مكان للكيانات القزمية. ولعل الوحدة الإفريقية هي الطريق إلى هذا المطلب المنشود، حيث إن قيامها يعتبر صدور شهادة ميلاد لتأسيس عصر إفريقي جديد، بعد عقود من الزمن يناضل فيها الأفارقة من أجل تحقيق هذا الحلم24 .

وتعتبر العقيدة من أكثر العوامل تأثيرا على الإنسان، لذا نجد أن الحركات الاستعمارية لما أرادت السيطرة على إفريقيا اتخذت حركات التنصير وسيلة لتحقيق أهدافها حتى صار الاستعمار والتنصير وجهين لعملة واحدة25. فحركات التنصير ساهمت بشكل كبير في استعمار القارة الإفريقية26 … وعليه ينبغي لنا أن نستفيد من دروس التاريخ لنجعل القاسم المشترك بيننا، -والمتمثل في المذهب المالكي والعقيدة الشعرية والتصوف السني- أداة فعالة في إنجاح الوحدة الإفريقية، ذلك لأن الفلاسفة يقولون: «الحكمة، هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي». والحكمة اليوم- ونحن في عصر التكتلات، أن نجمع قواتنا، ونلُم شملنا لإثبات وجودنا، في ظل العولمة التي لاتعترف إلاَ بالأقوياء. خاصة وأنه اتفق الباحثون على أن الإسلام أثَّر في إفريقيا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. يقول الدكتور الهادي المبروك الدالي: «فمن الناحية السياسية والإدارة والحكم، لايمكن إنكار ما أفادته بلاد السودان الغربي من احتكاكها بالعرب المسلمين وبالمراكز الثقافية والحضارية، سواء أكان ذلك الاحتكاك بالشمال الإفريقي أو الشرق الإسلامي، وأقوى برهان على ذلك هو ازدهار مملكة مالي الإسلامية وبلوغها شأنا لم تبلغه دولة ما في المنطقة، من التقدم والرقي الحضاري. وما ذلك في الواقع إلا لكونها قد اختارت أسلوب حياة أو حكما إسلاميا فاقت به ما سبقها في حكم المنطقة» .

ويرجِح البروفيسور روحان أمبي أن اختيارالتصوف الجنيدي السني للمغاربة قد امتد إفريقيا إِنْ عَلَى مستوى المدارسة أو الممارسة، ومما هو معلوم أن حلقات التواصل الصوفي انتظمت بين المغرب وإفريقيا في وقت مبكر، حيث تنص المصادر على أن بلاد الشنقيط شكلت جسرا لعبور المدارس الصوفية المغربية من المغرب إلى إفريقيا مرورا بالسنغال. ولقد عمل الشيوخ المغاربة على ترسيخ قيم التسامح والتعايش ورفع التحديات والأخطار التي كانت تهدد القارة السمراء. كما ساهموا في تقوية الروابط الروحية والأخلاقية في إشاعة قيم الإسلام المعتدل. كما حَرِصَ المغربُ عَبْرَ التاريخ على مواصلة رعاية المنتسبين إلى الطرق الصوفية بهذه البقاع والعناية بهم وذلك من خلال العمل على الحفاظ والارتقاء بالرابطة الروحية التي تجمع سكان البلدان الإفريقية بمؤسسة إمارة المؤمنين وحماية الملة والدين. هذا الإرث التربوي الروحي الذي ساهم في نشر وترسيخ قيم السلم والتسامح والوسطية والاعتدال لِيَحْصُلَ اليقين والاطمئنان والسكينة والاستقرار في ربوع إفريقيا27 .

والله من وراء القصد، والحمد لله على كل حال.

مصادر ومراجع البحث

  • القرآن الكريم.
  • كتب السنة.
  • أبو مدين شعيب تياو، من إسهام علماء سنغال في خدمة الفقه المالكي، الأعمال الكاملة لمؤتمر الإمام مالك 1435ه/2013م، الجامعة الأسمرية، زليطن، ليبيا.
  • أحمد آيت إعزة، إدريس بن الضاوية وآخرون، سبيل العلماء، المجلس العلمي الأعلى، الرباط، الطبعة الأولى، 2016م.
  • الأستاذ أحمد توفيق، دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، يوم الأحد 2 رمضان 1438(28 مايو 2017م).
  • البروفيسور رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، الرباط، يوم الثلاثاء 06 رمضان 1439ه(22 مايو 2018م).
  • الدكتور قاسم عزيز الوازني، منهج التربية الخلقية في الإسلام، مجلة الاستذكار، المجلس العلمي المحلي بمكناس، العدد الأول، مايو 2017م.
  • الدكتور محمد بن محمد بن قاسم التأويل، خصائص المذهب المالكي، مراجعة وتقديم: الدكتور امحمد العمراوي، منشورات البشير بنعطية، فاس، المغرب، الطبعة الأولى 2019م.
  • السائح علي حسين، لمحات من التصوف وتاريخه، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية، 1997م.
  • الشيخ أحمد بمب أمباكي، المجموعة المشتملة على أجوبة الشيخ الخديم وفتاويه، مكتبة شيخ الخديم، طوبى، السنغال، الطبعة الأولى.
  • شيخ الإسلام إبراهيم عبد الله نياس، في حقبقة التصوف وأصل تلقين الأذكار، دار الحسام للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2015م.
  • الشيخ الدكتورأنور فؤاد أبي خزام، معجم المصطلحات الصوفية، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1993م.
  • عبد العزيز الكحلوت، التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، الطبعة الثانية، 1996م.
  • محمد أمباكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، من عهد الاستعمار إلى وقتنا الحاضر، أكاديمية الفكر الجماهيري، ليبيا، الطبعة الأولى، 2006م.
  • موقع وزارة الأوقاف المغربية: http://www.habous.gov.ma.
  • الهادي المبروك الدالي، الإسلام واللغة العربية في مواجهة التحديات الاستعمارية بغرب إفريقيا، دار صنين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى.
  • يوسف بن حيدة، الطرق الصوفية وأثرها في نشر الوعي الديني في القارة الإفريقية، المجلة السنغالية للدراسات العربية، جامعة الشيخ أنت جوب، دكار،السنغال، العدد الرابع 2016م.

1- سورة الأنعام، آية:38.

2 – سورة آل عمران، آية 103

3 – سنن الترميذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.

4- سنن الترميذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة.

5- سورة الأنبياء آية 107.

6- للتوسع حول مسار الاتحاد الإفريقي ينظر: محمد أمباكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، من عهد الاستعمار إلى وقتنا الحاضر، أكاديمية الفكر الجماهيري، ليبيا، الطبعة الأولى 2006م، ص 197.

7- مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري المدني، ولد في المدينة سنة ثلاث وتسعين على أرجح الأقوال. بدأ رحلته العلمية وهو ابن بضع عشرة سنة، أول شيخ تلقى عنه العلم هو: ربيعة الرأي الفقيه المدني المعروف، ثم لزم ابن هرمز سبع سنين أو ثمان، لم يخلطه بغيره، فأخذ عنه علم الحديث، ثم مال إلى ابن شهاب الزهري، كما أخذ عن نافع، وابن المنكدر، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وسعيد مقبري، وغيرهم كثير ممن أخذ عنهم مالك، حتى قيل إن عدد شيوخه فاق تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين، وستمائة من تابعي التابعين. هو عالم المدينة ومؤسس المذهب المالكي. قال عنه سفيان بن عيينة: «مالك عالم أهل الحجاز». وقال الشافعي: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم».

8 ينظر : الدكتور محمد بن محمد بن قاسم التأويل، خصائص المذهب المالكي، مراجعة وتقديم : الدكتور امحمد العمراوي، منشورات البشير بنعطية، فاس، المغرب، الطبعة الأولى 2019م، ص -27 42.

9 – سورة النحل، الآية 8.

10 – – ينظر: الدكتور محمد بن محمد بن قاسم التأويل، خصائص المذهب المالكي، ص 42-27.

11 – المرجع السابق، ص 54.

12 -هو عالم سنغالي من مدينة سان لويس، عاش ما بين 1899- 1974م كان فقيها وأديبا، له مؤلفات في الفقه المالكي.

13 – ومؤسس الطريقة المريدية التي عاصمتها الروحية مدينة طوبى في السنغال، وهي طريقة صوفية سنية، أسسها على الإيمان والإسلام والإحسان. تعتمد على العلم والعمل والعبادة والآداب الحسنة بمقتضى أحكام التوحيد والفقه والتصوف. وتنتسب الطريقة المريدية إلى أهل السنة والجماعة، وإلى المدرسة المالكية في الفقه بحكم تكوين مؤسسها في منطقة حوض السنغال التي لم يغادرها إلا عندما نفته السلطة الاستعمارية إلى الغابون. وهي طريقة تأخذ بالأوسط في كل الأمور في العبادة والعمل في الدين والدنيا في الفقه والتصوف بعيدة عن الإفراط والتفريط.

14 – المجموعة المشتملة على أجوبة الشيخ الخديم وفتاويه ص: 143.

15 – من إسهام علماء سنغال في خدمة الفقه المالكي، الأعمال الكاملة لمؤتمر الإمام مالك 1435ه / 2013م، الجامعة الأسمرية، زليطن، ليبيا.

16 – للتوسع في هذا الموضوع، ينظر موقع وزارة الأوقاف المغربية : http://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-14-32.html.

17- ينظر: نفس المرجع السابق.

18- يوسف بن حيدة، الطرق الصوفية وأثرها في نشر الوعي الديني في القارة الإفريقية، المجلة السنغالية للدراسات العربية، جامعة الشيخ أنت جوب، دكار، العدد الرابع، 2016، ص 61.

19-الشيخ الدكتورأنور فؤاد أبي خزام، معجم المصطلحات الصوفية، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1993م، ص 60.

20– شيخ الإسلام إبراهيم عبد الله نياس، في حقيقة التصوف وأصل تلقين الأذكار، دار الحسام للنشر والتوزيع، ص 14.

21-السائح علي حسين،لمحات من التصوف وتاريخه، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ليبيا، الطبعة الثانية، 1997م، ص30.

22– راجع : دكتور قاسم عزيز الوازني، منهج التربية الخلقية في الإسلام، مجلة الاستذكار، المجلس العلمي المحلي بمكناس، العدد الأول، مايو 2017، ص 141- 148.

23-الأستاذ أحمد التوفيق، دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، يوم الأحد 2 رمضان 1438(28 مايو 2017م).

24– للتوسع حول مسار الاتحاد الإفريقي، ينظر: محمد أمبكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، ص197.

25-ينظر: عبد العزيز الكحلوت، التنصير والاستعمار في إفريقيا السوداء، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1992، طرابلس، ص 65- 82

26-بالنسبة لموضوع الاستعمار في إفريقيا، ينظر محمد امباكي جوف، أزمة النظم السياسية في إفريقيا، من عهد الاستعمار إلى وقتنا الحاضر، ص 47- 71.

27– ينظر: البروفيسور رَوْحَانْ امْبَيْ: الثوابت الدينية المشتركة عامل وحدة بين المغرب والدول الإفريقية، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، الرباط، يوم الثلاثاء 06 رمضان 1439(22 مايو 2018).

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى