
تعيش أوروبا اليوم مرحلة حرجة تتسم بتراجع تدريجي لقيمها المؤسسة، في ظل تزايد التناقض بين الشعارات المرفوعة والممارسات الفعلية على أرض الواقع. فالقارة التي بنت لنفسها صورة المدافع الأول عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحت تعاني من تصدعات أخلاقية وقيمية عميقة، لم تعد تخفى على المراقبين ولا حتى على المجتمعات الأوروبية نفسها.
بقلم: حماد أبو الشتاء
الإنسان في أوروبا؟ آخر الأولويّات لدى حضارة تلفظ أنفاسها..
تعيش أوروبا اليوم مرحلة حرجة تتسم بتراجع تدريجي لقيمها المؤسسة، في ظل تزايد التناقض بين الشعارات المرفوعة والممارسات الفعلية على أرض الواقع. فالقارة التي بنت لنفسها صورة المدافع الأول عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحت تعاني من تصدعات أخلاقية وقيمية عميقة، لم تعد تخفى على المراقبين ولا حتى على المجتمعات الأوروبية نفسها.
أحد أبرز مظاهر هذا الاندحار القيمي يظهر في طريقة تعامل المجتمعات الأوروبية مع فئاتها الهشة، وعلى رأسها المسنون. فرغم الخطابات التي تُمجّد قيم التضامن الاجتماعي والكرامة الإنسانية، تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 29 مليون شخص مسن يتعرضون سنويًا لسوء المعاملة في أوروبا، تتراوح بين الإهمال والعنف الجسدي والنفسي، ما يؤدي إلى وفاة الآلاف منهم. هذا الواقع الصادم يفضح هشاشة القيم التي يُفترض أنها جزء من النسيج الأخلاقي الأوروبي، ويطرح سؤالًا جوهريًا حول مصير المجتمعات التي تهمل كبارها وتتخلى عنهم في لحظات الضعف.
الأزمات الكبرى، مثل جائحة كوفيد-19، كشفت بشكل فجّ عن أولويات النظام الأوروبي، والتي انكشفت فيها حسابات المصلحة القومية على حساب التضامن المعلن. فخلال الجائحة، لجأت بعض الدول إلى ممارسات أنانية، من قبيل احتجاز معدات طبية كانت موجهة كمساعدات لدول أخرى، كما حدث حين صادرت جمهورية التشيك شحنة من الكمامات الموجهة لإيطاليا. كما رفضت إسبانيا تصدير أدوية إلى المغرب رغم وجود اتفاقات سارية. هذه المواقف لم تكن استثناءات عابرة، بل كشفت عن نمط تعامل واقعي يتجاوز الشعارات المعلنة، ويظهر أن القيم الأوروبية ليست دائمًا فوق المصالح.
ويزيد من هذا التشظي القيمي ما بات يُعرف بازدواجية المعايير الأوروبية، حيث تُرفع رايات حقوق الإنسان في مواجهة أنظمة بعينها، في حين يتم التغاضي عن ممارسات استبدادية أخرى عندما تخدم المصالح الجيوسياسية أو الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي. في حالات كثيرة، دعمت بعض العواصم الأوروبية انقلابات أو أنظمة قمعية في مناطق مختلفة من العالم، بينما استمرت في تقديم نفسها كمدافع عن الديمقراطية، مما أفقد خطابها المصداقية وأضعف صورتها الأخلاقية عالميًا.
التناقض داخل أوروبا لا يقتصر على السياسة الخارجية فقط، بل يمتد إلى الداخل الأوروبي نفسه. ففي شرق القارة، تصعد موجة قومية محافظة ترفض منظومة القيم الليبرالية التي تتبناها دول أوروبا الغربية، مثل التعددية وحقوق الأقليات والمهاجرين. هذا التباين داخل الاتحاد الأوروبي يكشف أزمة هوية حقيقية تهدد نسيجه الموحد، وتضعف إمكانية التوافق على مشروع قيمي مشترك جامع.
وفي العمق، يعاني الإنسان الأوروبي من فراغ روحي وقيمي انعكس في ظواهر اجتماعية مقلقة، كارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار، خاصة في دول أوروبا الشرقية، حيث تسجل أرقامًا صادمة تتجاوز 30 حالة انتحار لكل 100 ألف نسمة في بعض الدول. هذه الأرقام ليست فقط مؤشرا على اختلالات نفسية، بل تعكس أزمة أعمق في معنى الحياة، في ظل افتقاد منظومة متماسكة من القيم والمعنى، بعد أن تم تفكيك كل ما هو ثابت لحساب الفردانية المطلقة والنسبية القيمية.
بهذه الخلفية، تبدو أوروبا وكأنها تسير نحو مرحلة من الانكشاف القيمي، حيث لم تعد شعارات الحرية والكرامة والعدالة كافية لحجب التناقضات المتزايدة بين الخطاب والممارسة. وهي أزمة لا تهدد فقط صورتها الأخلاقية، بل تمس جوهر مشروعها الحضاري وتطرح بإلحاح سؤالًا كبيرًا: هل ما تزال أوروبا قادرة على أن تكون مرجعًا أخلاقيًا في عالم مضطرب، أم أنها بصدد خسارة معركتها أمام ذاتها؟
أوافق على تحليلك الدقيق للتناقضات القيمية في أوروبا، وأثني على رؤيتك الثاقبة التي كشفت زيف الشعارات أمام الواقع. مقال رائع يستحق التأمل.