لم يختلف الباحثون المحدثون –ولا سيما الغربيون منهم- حول شيء قدر اختلافهم في نشأة التصوف الإسلامي، وقد عنى المستشرقون أنفسهم من تلمس مصدر اجنبي للتصوف، فنسبه بعضهم للرياضيات الروحية التي كان يقوم بها الهنود، ونسبه آخرون الى أصول ايرانية قديمة، وقال آخرون ان جدور التصوف الإسلامي يهودية أو مسيحية، وكان كل لون من ألوان الفكر العربي ينبغي أن يرد إلى أصول غريبة عن الإسلام.
والواقع أن التصوف إسلامي محض، له شخصيته المتميزة القوية،وقد كان يستمد أولا قبل كل شيء من حياة الزهد والتقشف التي كان الرسول (ص) وبعض الصحابة رضي الله عنهم يحيونها، ثم تطور هذا الزهد والتبتل كما تتطور سائر ألوان الفكر وتسير من البساطة الى التعقيد، وهكذا انتهت الى التصوف كما نعرفه على مر العصور، وهذا لا يمنع أن يكون التصوف قد تاثر قويا من خلال هذا التطور والنمو الطبيعيين برواسب الثقافات القديمة ولا سيما بالرهبنة المسيحية وبالافلاطونية الحديثة، على أن التصوف الإسلامي ظل دائما محتفظا بشخصيته المستقلة القوية، وقد باشر بعد ذلك آثارا عميقة في تفكير مسيحية العصور الوسطى كما هو معروف.
كذلك اختلف في أصل اشتقاق لفظ التصوف، والأرجح انه يرجع إلى أن اللباس الذي كانت تتميز به هذه الطائفة من الزهاد كان ثياب الصوف رمزا إلى الخشونة والتقشف.
وقد ارتبط التصوف منذ نشأته بالزهد كما ذكرنا، غير انه بمرور الزمن فرق رجال الصوفية بين طائفتهم وبين الزهاد، اذ أصبحوا في مرتبة أكثر سموا، بل كانت نظرتهم إلى الزهاد مشوبة بشيء من التعالي كما جاء في هذا الخبر الذي يرويه أبو نعيم الاصبهاني عن الصوفي المصري ذي النون حيث يقول: (العارف متلوث الظاهر صافي الباطن، والزاهد صافي الظاهر متلوث الباطن) وليس معنى ذلك أن الزهد لم يعد من لوازم المتصوف، وإنما أرادوا به أن الزهد في ظاهره يمكن أن يكون مصطنعا لسبب من أسباب الدنيا وأن التصوف الحقيقي لا يرتبط بهذا المظهر الخارجي.
وقد ارتبطت البيئة المصرية منذ قديم بالتصوف حتى قبل تحول مصر إلى الإسلام، فالرهبانية في المسيحية مثلا مصرية النشأة منذ أن أسس القديس المصري باخوم في القرن الرابع الميلادي أول مجموعة من الأديرة، وقد انتشر هذا النظام الرهباني بعد ذلك إلى سائر بلاد المسيحية في العالم، بل كانت مشاركة مصر في التصوف سابقة على ذلك منذ نشوء الافلاطونية الجديدة في رحاب هذه البلاد، وربما كانت البيئة المصرية بما احتوت عليه من آثار قدماء المصريين الرائعة مما أوحى بالكثير إلى أهل التفكير الصوفي منذ زمن عريق القدم، فان تلك الآثار كان من شأنها أن تثير لدى هؤلاء المنقطعين إلى عبادة اله رغبة في التأمل الباطني العميق، وسنرى ذلك ظاهرا في التفكير الصوفي عند أول صوفي مصري جدير بهذا الاسم وهو ذو النون الخميمي.وهكذا كان لمصر نصيب كبير في نشأة هذا اللون من الحياة الروحية الإسلامية، وتحدثنا المراجع التاريخية عن طائفة وجدت في الاسكندرية في سنة 200 كانت تسمى “الصوفية” وكانت تامر بالمعروف وتنهي عن المنكر، ولسنا نعرف عن تلك الطائفة الا اشتراكها في الاحداث الواقعة في المدينة من حروب وفتن كانوا فيها حلفاء لأولئك الاندلسيين الربضيين الذين احتلوا الاسكندرية في ذلك الوقت، ولا نعلم ما اذا كانت هذه الطائفة تدين بعقيدة روحية تسمح لنا بأن نعتبرهم صوفيين بمعنى الكلمة، على أنه ربما كانت هذه أول جماعةيطلق عليها ذلك الاسم في العالم الاسلامي، وهو أمر لا يخلو من دلالة.
وعلى أية حال فان أول صوفي كبير برز في مصر في هذه الفترة المبكرة –اواخر القرن الاني وأوائل الثالث- وهو ذو النون ثوبان بن ابراهيم المصري الاخميمي، ولا يتسع المجال للترجمة لذي النون والحديث عنه بالتفصيل ولكنا نكتفي بعرض سريع لحياته وآرائه،وانما سنقف عنده وقفة خاصة لأنه يمثل الاتجاه المصري في التصوف الاسلامي خير تمثيل، ثم للاثر العظيم الذي باشره ذو النون في تصوف المغرب والأندلس بصفة خاصة.
ولد ذو النون في اخميم بصعيد مصر في حدود سنة 180، من أصل نوبي على ما يظهر، وكان أول ما طالعه وتفتحت عليه عيناه تلك الآثار المصرية التي كانت تؤجج في نفسه الرغبة في الاستطلاع والشره الى المعرفة، ويذكر المترجمون له أنه أخذ الفقه عن إمام المدينة مالك ابن انسن وامام مصر الليث بن سعد، وهو أمر نظنه مستحيلا اذ أن مولده يقارب وقت وفاة هذين الامامين، ونعتقد ان ذا النون ما كان ليهتم كثيرا بالفقه ونواز له ومسائله، وان اهتمامه كان موجها منذ البد إلى الرياضيات الروحية، ويذكر آخرون من مشايخة في طريق التصوف فاطمة النيسابورية وسعدون واسرافيل وهما شيخان لا نكاد نعرف عنهما إلا ما ورد في ترجمة ذي النون نفسه وانه كان يكل تكوينه الروحي الى تأمله وعبادته، ولعله كان يعمل بما أوصاه به سعدون في مقبرة البصرة:
ياطالب العلم ها هنا وهنا
ومعدن العلم بين جنبيكا
ان كنت تبغي الجنان تسكنها
فلتذرف الدمع فوق خديكا
وقم اذا قام كل مجتهد
تدعوه كيما يقول لبيكا
وكان ذو النون كذلك كثير السياحات فبينما نراه بين الحقول الخضر على الضفاف إذا به بعد ذلك تائها في صحاري الحجاز، أو ضاربا في شعاب سينا أو منزويا في بعض كهوف بيت المقدس أو مصعدا في جبال لبنان، بل يحمله الظمأ إلى علوم الروح على الرحلة إلى الغرب فإذا بنا نراه في القيروان قابعا أربعين يوما على باب شقران ليستفيد منه وصية، ويوصف له عابد في تاهرت في مضي ليسأله كيف عرف الله، ولا شك في أن افريقية والمغرب بوجه عام كانت جديرة بأن تستهوي قلب هذا الصوفي بما حفلت به من عباد وزهاد ضربوا مثلا عاليا في الإخلاص له والتعبد إليه.
ولكن كلام ذي النون بدا غريبا لفقهاء مصر ومحدثيها الذين لم يعتادوا هذا الضرب من التعبيرات الصوفية فسعوا به إلى الخلفية المتوكل وحمل إلى سر من رأى إلى حضرة الخليفة فسمع كلامه وما عتم أن أطلق سراحه فانحدر إلى بغداد فأقام بها مدة مديدة ثم عاد إلى مصر.
وقد كان تأثر ذي النون بالبيئة المصرية عظيما ويبدو أنه احتك بكثير من رواسب الثقافات والديانات القديمة بهذه البلاد، وفي الإخبار المأثورة عنه كثير مما يشير إلى معرفته بقراءة ما على البرابي المصرية من نقوش وإلمامه باللغة السريانية، كما نرى في كلامه نقولا عن التوراة والإنجيل، وكلمة “الرهبانية” من أكثر الكلمات دورانا في حديثه، ومن أمثلة ذلك قوله في وصف الصوفية أنهم (رهبان من الرهبانية ملوك في العباد)، وقد نسب إلى ذي النون الاطلاع على أسرار الكمياء لا بطريق المعالجة وإنما بطريق الإلهام والكشف، ولهذا فقد قرن بكبار الكيميائيين من أمثال جابر بن حيان، ومازالت بعض الكتب المنسوبة إليه من ذلك مخطوطة بعد، ولو أنها كتب لم تصح نسبتها إليه.
وأما تصوف ذي النون فإنه وجداني بسيط نابع من نفس فياضة المشاعر دقيقة الحس، وهو في هذا يختلف عن ألوان ذلك التصوف العقلي المعقد الذي نراه في صوفية العراق وايران، ومن أجل ذلك ذكرنا انه هو الذي يمثل البيئة المصرية في بساطتها البعيدة عن التعمق واستقامتها الراغبة عن التطرف والشطح، وهو من أجل ذلك تصوف كان من الطبيعي أن يتأثر بالحياة الروحية في غرب العالم الإسلامي ويتأثر بها.
وأشهر ما يعرف من آراء ذي النون الصوفية ما قاله حول المقامات والأحوال أي تصنيف الصوفية في درجات وطبقات لا ينبغي أن يتعدوها، ثم تصنيف احوال النفس الصوفية وانتقالها من درجة إلى درجة فوقها حتى تصل الى المعرفة الحقيقية، ولننظر الى قول ذي النون في ترتيب تلك الحوال فهو يبدأ بدرجة الخوف، ثم الهيبة، فالطاعة، فالرجاء، فالمحبة فالشوق، فالانس بالله، فالاطمئنان اليه، فاذا اطمأن الى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم، أما طبقات المريدين فان حرص ذي النون على أن يلتزم كل درجته يظهر نا من هذا الخبر الذي احتفظ لنا به السراج في كتاب اللمع: وفيه ان ذا النون لما دخل بغداد اجتمعت اليه جماعة الصوفية ومعهم قوال يقول، فاستأذنوه بأن يقول شيئا فأذن لهم فابتدأ يقول:
صغير هواك عذبني
فكيف به اذا احنكا
وانت جمعت من قلبي
هوى قد كان مشتركا
اما ترثي لمكتئب
اذا ضحك العدول بكى
فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط على الأرض، قال: ثم قام رجل من القوم يتواجد فقال له ذو النون: الذي يراك حين تقوم، فقعد، وشرح ذلك السراج فقال انه أشار إلى قيام هذا الرجل ومزاحمته لغيره بالتكلف فعرفه ان الخصم من دعواك بقيامك ليس غير الله ولو كان الرجل صادقا في قيامه لم يجلس وذلك أن المشايخ منهم -أي من الصوفية- مشرفون على أحوال من دونهم بفضل معرفتهم ولا يجوز لهم ان يسامحوهم اذا جاوزوا حدودهم وادعوا حال غيرهم.
وربما كان ذو النون من أول الصوفية الذين تكلموا عن اسم الله الأعظم الذي يتعلق بذات الله لا بصفاته، وقد أشار الدباغ والمالكي في حديثهما عن لقاء ذي النون لشقران العابد القيرواني ان هذا هو الذي أدلى إليه بهذا الاسم الأعظم الذي جعل ذا النون محيطا بأسرار الكيمياء وقادرا على الكرامات، وقد الح عليه أحد تلاميذه وهو يوسف بن الحسين الرازي لكي يطلعه على هذا الاسم فأجرى عليه ذو النون اختبارا في قصة طويلة يذكرها ابو نعيم الاصبهاني في حلية الأولياء ويتبين بعد هذه التجربة ان ذلك التلميذ لم يكن خلقيا بان يطلع على الاسم الأعظم.
والحب الإلهي يدور كثيرا في كلام ذي النون، وقد كان هذا الصوفي من أكثر في كلام ذي النون، وقد كان هذا الصوفي من أكثر من تحدثوا عن هذا الحب وفصلوا مراتبه، وحديثه في ذلك كثير متناقل في مجموعات الأدب الصوفي، وكثيرا ما كان يخرج الى شاطئ البحر اذا جن الليل فينظر الى السماء والماء ويتغنى بقوله:
اطلبوا لانسكم
مثلما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا
ليس في هواه عنا
ان بعدت قربني
أو قريب منه دنا
او يترنم في جوف الكعبة:
حبك قد ارقني
وزاد قلبي سقما كتمته في القلب والـ
ـأحشاء وحتى انكتما
لا تهتكن ستري اذي
البستني تكرما
ضيعت نفسي سيدي
فردها مسلما
كذلك يعتبر ذو النون منن أول الصوفية الذين اهتموا بمسألة السماع أي إدخال الغناء والموسيقى في التمارين والرياضات الصوفية وعملوا على نشرها بعد ذلك في التصوف الإسلامي، وكان رأيه في الصوت الحسن انه (مخاطبات وإشارات إلى الحق أودعها الله كل طيب وطيبة)، وفي السماع انه (وارد حق يزعج القلوب إلى الحق فمن اصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق) وقد قال مرة لبعض تلاميذ ممن لا يحسنون الغناء (أنت بلا قلب) ونحن نعلم ان مسألة تجويز السماع أو تحريمه كانت من المسائل التي انتقل فيها النقاش من الفقهاء الى الصوفية، وربما كان أهم من دافع عن السماع واباحته،بلا صبح من الشائع منذ أيام ذي النون أن يكون في المجتمعات الصوفية (قوال) يغني بصوت عال.
وينسب محيي الدين بن عربي في الفتوحات المكية الى ذي النون رأيا في العرش يبدو أنه كان الأصل الذي استمد منه ابن عربي نظريته في النفس الرحماني وروحه المدبر له، وهي نظرية كانت من الأسس التي قامت عليها فلسفة وحدة الوجود.
ونشير أخيرا الى أن ذا النون بعد أن تعرض للاضطهاد والمحاكمة مرتين كان حريصا في سلوكه حذرا في إبداء آرائه، فكان يتبع في ذلك مبدأ التقية الذي سار عليها الشيعة، فيبدو للناس مجرد زاهد أو ناسك بينما يحتفظ بكثير من آرائه التي قد لا تعجب الفقهاء والعامة لنفسه أو لخاصة تلاميذه، وهكذا كان يلح دائما على التفريق بين سلوكين: سلوك للعامة وآخر للخاصة، ويدور هذا التفريق في كلامه كثيرا، فالتوحيد توحيدان، والتوبة توبتان الى غير ذلك من التفصيل الذي يتضح لمتتبع آرائه وأقواله، وناحية أخرى كانت تقرب بينه وبين آراء الشيعة، تلك هي استخدامه للتاويل الرمزي فهو كثيرا ما يفرق بين الظاهر والباطن وقد احتفظت لنا المجموعات الصوفية بكثير من تأويلات الرمزية، ومن ذلك تفسيره للحج وغيره من العبادات مما نراه ملا في حلية الأولياء لأبي نعيم.
وقد اطلنا بعض الشيء في الحديث عن ذي النون المصري، غير أننا نرى أن هذا الصوفي المصري لا يمكن أن يفصل عن تاريخ الحياة الروحية في الأندلس، وسنرى فيما يلي كيف كان لأراء ذي النون أثر كبير في تصوف هذه البلاد.
محمود علي مكي
المصدر: دعوة الحق، العدد 50، أبريل 1962