يعتبر الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله من أبرز رجالات القرن العشرين وقوة شامخة من قمم إفريقيا الحديثة يدل على ذلك فكرة المحفوظ ومآثره الخالدة الشاهدة ومنها فكرة اتحاد المغرب العربي التي نبعت من صميم فكره واستخلصت من عمق بحره وانطلقت بسياسته الراشدة وتأسست بحكمته الرائدة تترجم شعوره النبيل وتبلور تفكيره المغربي الأصيل.
وفيما يأتي عرض لأصول المبادئ والحقائق العامة التي انطلقت منها فكرة اتحاد المغرب العربي واستحضار للأسس والمقومات التي قام عليها هذا الاتحاد.
أولا حقائق ومبادئ انطلقت منها فكرة الاتحاد
إن الأمة العربية الإسلامية إنما كان لها من المجد والعز والشموخ الحضاري لأنها كانت قوية البناء محكمة الصياغة محصنة من الداخل والخارج. وهذه القوة والإحكام والتحصين مصدرها : الوحدة والتماسك والتراص فلم تكن الأمة العربية إلا بهذه الوحدة فهي كانت كل شيء وهي من دونها لم تكن شيئا والأمة العربية الإسلامية حينما تعيش وتحيى في ظل الوحدة فإنها تحقق ذاتها وحقيقتها وهويتها فينبثق عن ذلك العطاء الحضاري الدافق والبناء الإنساني السامق.
إن وحدة الأمة الإسلامية إرث حضاري قديم أصيل مكين له امتداد زماني ومكاني عريق وتأخذ فيه حلقات الأنبياء بعضها بحجز بعض يؤكد ذلك ويقرره قول الحق سبحانه بعد أن حكى جملة من قصص الأنبياء وأخبارهم وتجاربهم مع أقوامهم “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”(1) فوحدة الأمة الإسلامية أوسع وأرحب مكانا وزمانا وإنسانا وأقوى عناصر هذه الوحدة ومقوماتها الأساسية : وحدة الدين فليس في الوجود شيء تتحقق به هذه الوحدة وتجتمع عليه الأمة قلبا وقالبا إلا دين الله عز وجل فهو الذي تنصهر في قيمه القلوب وتذوب في مضامينه المشاعر وتمحي في محتوياته ومفاهيمه الأهواء والشهوات ومن ثم كانت وصية الله لأنبيائه ورسله جميعا هي “أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”(2) وإقامة الدين هي التمكين له وترسيخ قيمه ومضامينه وأحكامه حتى يكون قائما في النفس والواقع حاكما للحياة وكل ذلك لا سبيل إليه إلا عن طريق وحدة الأمة وتوحيد جهودها وإمكاناتها المادية والمعنوية ومثل هذه الوصية الربانية العامة قوله تعالى يخاطب الجيل الأول من الأمة العربية الإسلامية “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”(3) لأن قوة الأمة في الاعتصام بحبل الله ودينه وضعف الأمة ووهنها وذلها في تفرقها وتمزقها لذلك فإنه عز وجل يذكر المخاطبين بما كانوا عليه في ماضيهم الجاهلي من تآكل وتمزق وتشتت وتفرق حتى كانوا طعمة سائغة قال سبحانه “واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها…”(4) فالتفرق والتمزق ينتج العداء ويورث الشقاق والحرب والاجتماع والاتحاد والاتفاق ينتج الأخوة والتحاب والسلام. والآية امتنان من الله على هذه الأمة بإخراجها مما كانت فيه من نزاع وعداء إلى أخوة وألفة ووفاق قال العلامة الطاهر بن عاشور التونسي في تفسير الآية “والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من القبائل القريبة وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة ومنها كان يوم بعاث والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم التي دعاها الإسلام كانوا في تفرق وتخاذل فصار الذين دخلوا في الإسلام إخوانا وأولياء بعضهم لبعض لا يصدهم عن ذلك اختلاف أنساب ولا تباعد مواطن ولقد حاول حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم وإصلاح ذات بينهم بأفانين الدعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتى ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التأليف بمنزلة الإخوان”(5) هذه إذا هي الوحدة الحقيقية الجامعة الشاملة وحدة الدين والعقيدة والشريعة بها ينتظم شمل الأمة وبها يؤلف الله بين القلوب والعقول “لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم”(6) وهذه الوحدة مطلوبة من الأمة وواجب عليها الأخذ بأسبابها وتحقيق مضمونها حتى وهي في حالة قتال الأعداء ومقاومة عدوانهم قال عز وجل “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص”(7) لأن الأمة حينما تكون متحدة صفا واحدا مرصوصا محكم البناء فإنها تقوى إلى حد لا يستطيع العدو أن ينال منها والعكس بالعكس فإذا اختل صفها وضعف بناؤها وساد فيها الاختلاف والنزاع أصابها الوهن وكانت أسهل على العدو من أن ينال منها ما يريد لذلك قال الله تعالى ناهيا عن ذلك “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.(8)
على أن الأمة لا تستفيد من هذه الوحدة إلا إذا كانت وحدة حقيقية شاملة تستوعب البناء الداخلي والخارجي للأمة وحدة قلبية فكرية عددية لأن من شأن الوحدة التي من هذا الحجم وبهذه الطبيعة أن ترتقي بأبنائها إلى مستوى الأخوة ثم إلى التعاون على بناء الذات وصياغة محتواها الحضاري يؤكد ذلك قوله تعالى “إنما المؤمنون إخوة”(9) وقوله سبحانه “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”(10) وهذه المعاني القرآنية لوحدة الأمة تؤكدها السنة النبوية في نصوص كثيرة منها قول النبي “المومن للمومن كالبنيان يشد يعضه بعضا وشبك بين أصابعه”(11) ومنها أيضا قوله “مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.(12) ومنها قوله “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.(13)
والوحدة بهذا المعنى الذي قدمناه هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه الأمة العربية الإسلامية حتى إن خطاب الله الذي يحمل التكليف الشرعي لها جاء بصيغة الجماعة لا بصيغة الواحد فعبارة “يا أيها الذين آمنوا” هي الصيغة التي تلقت بها الأمة عن ربها شرعه وأحكامه بواسطة نبيه ثم إن هناك قسما عريضا من هذه الأحكام الشرعية قد جعل منوطا بجلب المصالح العامة لهذه الأمة ودرء المفاسد العامةعنها وهو القسم الذي يندرج في التكليف الجماعي الكفائي وهو الذي يقابل التكليف الفردي العيني وقد غلب على الفقهاء وعلماء الأصول أن يبحثوه في الواجب الكفائي وإنما ذلك من باب التغليب والتعبير عن الشيء وبأغلب ما يستعمل فيه وإلا فكما أن هناك واجبات كفائية تخاطب بها الأمة كلها فكذلك هناك محرمات كفائية تخاطب الأمة كلها بالأمر بتركها فإذا حصلت الكفاية في ذلك بقيام بعضها به سقط التكليف عن باقي الأمة ومثل ذلك يقال في المندوبات والمكروهات وذلك لأن هذه الأحكام إنما تدور عللها ومقاصدها على جلب المصالح والمنافع للعباد ودرء المفاسد والمضار عنهم وهذه المصالح والمفاسد منها ما هو عام مرتبط بحياة الأمة وكيانها الجماعي لا بفرد وأفراد فهذا النوع العام تحصيله شركة بين أبناء الأمة والخطاب الشرعي فيه جماعي يستلزم التعاون على تطبيقه لتحصل الكفاية المطلوبة فيه وكل ذلك يؤكد أن وحدة الأمة مطلوبة وضرورية حتى في إقامة دينها والالتزام بأحكامه الشرعية لأن هذه الوحدة هي التي تقوي الأمة وتمكنها من أن تستفيد من كل مالها من قدرات وإمكانات وهي التي ترسخ وجودها في التاريخ وتدفعها نحو المرتقى الصاعد والقمة الحضارية السامقة وهذا هو الذي جعل الأعداء الحاقدين يتآمرون عليها لنسف وحدتها ومحو مقومات ذاتها عن طريق المخططات الإعلامية الماكرة والنحر الاقتصادي المجرم والقتل السياسي الرهيب والغزو الفكري والثقافي والاجتماعي الماحق لذا وجب على الأمة العربية الإسلامية أن تعود إلى رشدها ووعيدها بذاتها وواقعها وموقعها وأن ترجع إلى وضعها الطبيعي الذي كانت تتبوأ فيه وبه منزلة الإمامة والشهادة على الناس ووضعها الطبيعي هو وحدتها وتماسكها.
إن هذه الحقائق وهذه المبادئ كانت حاضرة راسخة في ذاكرة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله مائلة بين عينيه ومن صميمها تكونت عنده فكرة اتحاد المغرب العربي وفي ضوئها تم تأسيسها النظري وتنزيلها العملي في العقود الأخيرة من القرن الذي طويناه فكان ذلك نفحة من نفحات فكره الثاقب المشرق ومأثرة من مآثره الحسنية سجلها تاريخ المغرب الحديث بمداد الفخر والاعتزاز.
نعم إن ما عرفته منطقة اتحاد المغرب العربي من اتحاد عربي إسلامي مبارك لهو خطوة رائدة نحو البناء الحضاري والعودة بالأمة إلى سابق مجدها وقوتها والسير بها نحو صحوتها الحضارية الراشدة ونهضتها الإنسانية الراقية ثم إنه في ذات الوقت يعتبر انبعاثا حقيقيا لوحدة المغرب العربي الإسلامي التي رسخت جذورها في التاريخ وثبتتها أسس قوية ركينة ما أحرانا اليوم باستحضارها ونفض الغبار عنها وتمثلها في سبيل تقوية هذه الوحدة وتجلية معالمها وملامحها وتعميق مضمونها حتى تبقى راسية شامخة.
ثانيا- أسس ومقومات قام عليها الاتحاد.
إن هذه الأسس والمقومات التي قامت عليها قكرة اتحاد المغرب العربي ودعا إلى بنائها وتأسيسها الفكر الحسني الوقاد هي مستمدة من تاريخ المغرب العربي وجذور روابطه الحضارية العريقة وفيما يأتي عرض لأصولها وقواعدها الكبرى
الأساس الأول – وحدة المذهب المالكي
لقد انتظم شمل المسلمين في الغرب الإسلامي عامة في دائرة المذهب المالكي الذي نقله علماء هذه المنطقة عن الإمام مالك وكبار تلامذته وأئمة مذهبه وذلك عن طريق الرحلة إليه وإليهم بالحجاز لأخذ العلم والفقه فتفقهوا به واستوعبوا أصوله وقواعده وفروعه وصاروا أئمة فيه يقتدى بهم ويؤخذ عنهم ورسخوا دعائم الفقه المالكي تصنيفا وتدريسا وقضاء وإفتاء ومناظرة، حتى غلب عليهم اتباعه والالتزام به دولة ومجتمعا ولم يكتب لغيره من المذاهب البقاء والرسوخ والسلطان كما كتب به. ويهمنا من هذا أن المغرب العربي داخل هذه الدائرة الكبرى – دائرة الغرب الإسلامي- قد أخذ حظه من الانسجام والتماسك والالتئام بسبب وحدة المذهب الفقهي الذي كان يضبط أمورهم ويحل مشاكلهم ويقضي في نوازلهم ويستوعب حوادثهم في العبادات والعادات والمعاملات والسياسة الشرعية وغير ذلك من شؤون الدين والدنيا. وبذلك كان للمذهب الفقهي المالكي بهذه المنطقة أثر عميق في بناء الوحدة الإسلامية العربية وحفظها وإدامتها والتمكين لها واستقرارها.
الأساس الثاني –وحدة العقيدة الأشعرية :
يعتبر أبو الحسن الأشعري (ت 337هـ) خطيب أهل السنة والمدافع عن عقيدتهم والمنظر لها في حلقات درسه ومناظراته ومؤلفاته وقد كتب لفكره العقدي أن ينتشر في بقاع كثيرة من العالم وتمذهبت به جماعات كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وذلك لما عرف به من الوسطية والاعتدال في عرض القضايا العقدية ومنهج التعامل معها والجمع في ذلك بين المنقول والمعقول.
وبرغم ما قد يمكن أن يغمز فيه وينسب إليه من رهنات فقد كانت له آثار حسنة أهمها أنه كان الفضل في جمع شمل الأمة الإسلامية من حيث أصول فكرها واعتقادها في كثير من أجزائها وأطرافها ولاسيما شمال إفريقيا المسلمة فقد وحدتها العقيدة الإسلامية المصوغة بالفهم الأشعري وأصوله وقواعده توحيدا كانت له نتائج حسنة على حياة الأمة الفكرية والعقدية ثم على مستوى حياتها العملية ومن ثم ظل المسلمون من أبناء المغرب العربي طوال هذه القرون متوحدين في أصول عقيدتهم متفقين في قواعد تصوراتهم الاعتقادية مما يسر عليهم التواصل الفكري والتفاهم العقلي الجدلي في التنظير لأصول الدين.
الأساس الثالث- وحدة المنزع الصوفي
العقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتربية الصوفية ثلاثية متكاملة متلازمة كونت البناء المنهجي الذي سار عليه المسلمون في المغرب العربي قرونا طويلة في مجال التربية والتعليم. وإعداد المتعلمين وتخريج العلماء وهو منهاج محكم مرصوص يأخذ فيه المتلقي المتعلم حظه من التربية العقلية والقلبية معا فتلقي الأصول والفروع وتجلياتها السلوكية ونفحاتها الربانية وقد درج عليه المسلمون من أبناء المغرب العربي عامة تدريسا وتأليفا وتربية وغالبا ما كانوا يلتزمون في أصول التربية الصوفية الروحية وقواعدها بمذهب أبي القاسم الجنيد (ت 297هـ) حتى إن صاحب المرشد المعين نظم ذلك فقال
في عقد الأشعري وفقه مالك
وفي طريقة الجنيد السالك
وعلل الشيخ ميارة الفاسي اختيار طريقة الجنيد بأنه إمام الصوفية وقدوتهم علما وعملا وأن التصوف عنه انتشر وأن طريقته خالية من البدع.(14)
وسواء اتحد المذهب الصوفي أو لم يتحد فالذي يعنينا أن طلب العلم واجتياز مراحل التعلم والتلقي كان يتوج بالتربية القلبية الإيمانية الربانية التي أطلق عليها “التصوف” وسميت قواعد ذلك ومسائله بعلم التصوف فالمنزع الصوفي والتوجه الصوفي قاسم مشترك بين أبناء المغرب العربي في تاريخهم التربوي الإسلامي العريق.(15)
الأساس الرابع- وحدة اللغة العربية
لم يكد ينتهي القرن الهجري الأول حتى انتشر الإسلام في المغرب(16) بكل أجزائه وأطرافه وتعلم أبناؤه اللغة العربية لغة القرآن والسنة حتى حذقوها وأنشأوا بها الخطب والرسائل ونظموا بها الشعر، وأبدعوا بها مختلف أنواع الأجناس الأدبية فصار منذئذ يحق له أن يسمى بالمغرب العربي المسلم فكما أن الإسلام وحد بين أطرافه وألف بين قلوب أبنائه فكذلك اللغة العربية كان لها فضل في تويد هذا الجزء الكبير من شمال إفريقيا وأثر بالغ في تعميق التفاهم والتواصل الفكري والثقافي والاجتماعي وبناء حضارة عربية إسلامية متكاملة متناغمة يشد بعضها بآصرة بعض ويزداد بعضها ببعض جمالا وجلالا ورفعة وكمالا.
الأساس الخامس- وحدة الجهاد والمرابطة
كما وحدت اللغة العربية بين أبناء المغرب العربي، وفتقت مواهبهم وملكاتهم الأدبية والثقافية والعلمية وصهرهم الإسلام بقيمه ومبادئه وأحكامه فقد وحدهم أيضا الجهاد والمرابطة في سبيل الله، من أجل حفظ الدين من الخارج والدفاع عن حرمته والذود عن حوزته وبيضته وقد أبلوا لاء حسنا وبرهنوا على شهامتهم وبطولتهم وغيرتهم على دينهم ومقدساتهم. وكما كان سلفهم في ذلك كان خلفهم أيضا فمن منا لا يستحضر بطولات الخلف الصالح في الدفاع عن الدين ورد اعتداء المحتل الغاصب من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها ومن منا لا يذكر البطولات المشرقة التي كانت بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري والزعيم المحنك عمر المختار والقائد الباسل عبد الكريم الخطابي وغيرهم من أعلام المغرب العربي وأبطاله.
فالجهاد في سبيل الله وما يتبعه من الإعداد والمرابطة والتجند والتجنيد كل ذلك كان روحا تسري في جسم هذا البناء الجماعي المتين (المغرب العربي) فتؤلف بين أجزائه وتوحد عناصره وتصهره صهرا.
الأساس السادس- الوحدة التاريخية
الناظر في تاريخ المغرب العربي المسلم ولاسيما التاريخ السياسي يجد أن هذا الإقليم من شمال إفريقيا عرف أحداثا سياسية متقاربة ومر بفترات وحقب متشابهة في السراء أو الضراء والشدة أو الرخاء والمد أو الجزر والاستقرار أو التقلب بل إنه كان من حين لآخر تحكمه سياسة واحدة كما كان ذلك ردحا من الزمان في دولة المرابطين والموحدين وغيرهما فتاريخ هذا الإقليم إذا واحد إذا انصرفنا إلى الكليات وغضضنا عن الجزئيات وقد كان لهذه الوحدة التاريخية السياسية أثر بالغ في تلاحم هذا الإقليم وتماسكه إلى الحد الذي كان يعتبر فيه جسما واحدا وبناء واحدا وذاتا واحدة.
الأساس السابع وحدة العادات
هذا أساس آخر من أسس الوحدة التي رسخت في هذا الإقليم منذ فجر إسلامه واستعرابه وهو وحدة العادات والأعراف الاجتماعية العامة وأنماط العيش وأساليب الحياة ومنشأ ذلك التقارب الجغرافي والتشابه الكبير في طبيعة المناخ العام فضلا عن وحدة الدين واللغة. لأن العادات إنما هي نتائج وآثار لممارسات معينة فإذا ما رست جماعة ما دينا ولغة لمدة من الزمان نتج عن ذلك عادات وتقاليد وأعراف تبلور مفاهيم ذلك الدين وقيمه ومبادئه وتترجم دلالات تلك اللغة ومخزونها الحضاري والمغرب العربي المسلم منذ أن جمعه الإسلام ووحدته العربية سار في حياته سريا واحدا راشدا وبنى حضارة واحدة سامقة وانعكس ذلك على الحياة الاجتماعية فجاءت متحدة في العادات متشابهة في الأعراف والتقاليد الإسلامية العربية ومن أبرز الأمثلة في ذلك تشابه عاداتهم في الزواج وفي تربية الأولاد وطرائق التأديب والتعليم…ومنها اتفاقهم في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وهي ظاهرة اجتماعية حدثت عندهم بعد القرن الرابع الهجري تدل على تعلقهم جميعا بالنبي وحبهم له وإحيائهم لسيرته وشمائله وأخلاقه …ومنها تشابه عاداتهم في البيوع وتقارب مكاييلهم وموازينهم…وغير ذلك مما يدل على وحدة الذات ووحدة البناء الاجتماعي العريق الأصيل.
الأساس الثامن- وحدة القراءة القرآنية
ذلك أن القراءة الغالبة على أبناء هذه المنطقة منذ أن رسخ فيهم الإسلام وتعلموا القرآن ودأبوا على تلاوته وتفسيره هي قراءة الإمام نافع المدني (ت 169هـ) برواية ورش المصري (ت 197هـ) وقالون (ت 220هـ) وإلى جانب ما كان لاتحاد مأخذ القراءة ومصدرها من تجليات في ترسيخ الوحدة وتعميقها فقد كان لذلك أيضا أثر بالغ في حفظ هذه القراءة السبعية بروايتها(17) في العلم الإسلامي.
الأساس التاسع – وحدة العلم
لا يخفى على الناظر في تاريخ المغرب العربي أن طلب العلم وتحصيله والعكوف عليه تدريسا وتأليفا كل ذلك كان هما واحدا عند أبنائه وشركة بين حكامه وقادته فالكل شجع عليه وفتح أبوابه وأمد بأدواته ولوازمه وأعان على سلوك طريقه حتى أعطى هذا الإقليم من شمال إفريقيا فقهاء مجتهدين وعلماء مضطلعين في القرآن والسنة والتوحيد وغير ذلك من علوم الشريعة وعلماء بارعين في الطب والصيدلة والفلك والجغرافيا والفلسفة والرياضيات وغير ذلك من العلوم البحتة والعلوم العقلية…وأمثلة ذلك من الأعلام والأسماء أكثر من أن تحصى فالعلم إذا كان له أثر بالغ في توحيد هذه المنطقة العريقة ولاسيما والإسلام يدعو إليه ويحث عليه بل وهو في أمره كله قائم عليه.
الأساس العاشر- وحدة الثقافة والأدب
وكما أن للعلم أثرا بالغا في توحيد أبناء المغرب العربي فإن للأدب بشعره ونتره أثرا في هذا التوحيد أيضا كما أن للثقافة الإسلامية التي نبتت في بيئة إسلامية وغذتها قيم الإسلام ومبادؤه وآدابه ومكارمه أثرا بالغا أيضا في تدعيم هذه الوحدة العربية الإسلامية طوال تاريخ المغرب العربي المسلم فالأدب بهذه المنطقة متقارب الأهداف متشابه الأغراض متفق في الصياغة والبناء والهيكل العام متحد في الرسالة والوظيفة كما أن الثقافة بهذه المنطقة طوال تاريخها واحدة في أصولها ومشربها واحدة في سماتها ومضمونها وقيمها فقد ظلت ثقافة عربية إسلامية تعكس الحياة الإسلامية وتبلور الحضارة الإسلامية وتعبر عن القيم الإسلامية والفكر الإسلامي القويم السديد الأصيل.
تلك إذا عشرة كاملة رسخت الوحدة الإسلامية في المغرب العربي منذ فجر إسلامه…وتلك أسس قام عليها بناء الحضارة الإسلامية العربية بهذا الجزء العريض من شمال إفريقيا فلا جرم أن ما أسسه الفكر الحسني من معلمة اتحاد المغرب العربي هو امتداد للحقائق والمبادئ السابقة وتعميق لتلك الأسس والمقومات السامقة وما أحوجنا اليوم إلى استرجاعها وتمثلها وما أجدرنا بالوعي بها وإحياء ما انطمس منها واندرس من معالمها فأصولها مازالت قائمة وجذورها ما انفكت ثابتة وما أعطته من تراث حضاري زاخر ومازال حاضرا فينا شاهد علينا بما كنا عليه وما صرنا إليه فالعودة الراشدة إلى الوحدة الحقيقية الشاملة هي الطريق الطبيعي لتمتين الذات وتحصينها من ضربات الأعداء.
(1) – سورة الأنبياء آية 92.
(2) – سورة الشورى آية 13.
(3) – آل عمران آية 103.
(4) – آل عمران آية 103.
(5) – التحرير والتنوير 4/33.
(6) – الأنفال آية 63.
(7) – الصف آية 4.
(8) – الأنفال آية 46.
(9) – الحجرات آية 10.
(10) – المائدة آية 2.
(11) – متفق عليه في حديث أبي موسى الأشعري.
(12) – متفق عليه عن النعمان بن بشير.
(13) – أخرجه الحاكم في المستدرك 4/317. والهيثمي في مجمع الزوائد 10/248.
(14) – وقيل توفي في سنة 331 هـ ويبدو أن سنة وفاته غير مضبوطة لذلك عبر كثير من المترجمين له بقولهم توفي في نيف وثلاثين وثلامائة.
(15) – شرح ميارة على المرشد المعين 1/16.
(16) – لفظة المغرب تطلق عند المتقدمين على ما يسمى الآن بالمغرب العربي وقد تطلق أيضا على ما يسمى بالغرب الإسلامي.
(17) – رواية ورش وقالون عن نافع هنا اللتان اشتهرتا في بالد المغرب العربي ولهما طرق كثيرة …ثم إن هناك روايات أخرى عن نافع منها رواية إسماعيل بن جعفر ابن أبي كثير الأنصار ومنها رواية المسيبي المتوفى سنة 206 هـ.
المصدر: محمد الروكي، دعوة الحق، العدد 360، السنة الثانية والأربعون، يوليوز 2001.