مما لا شك فيه، هو أن المخطوطات تشكل تراثا علميا، حيث أنها تعكس ثقافة الدولة وحضارتها، ومجدها في الوقت الغابر، وتمثل كذلك ذاكرتها، لكونها سجل أحداثها وتاريخها، وهي كذلك ديوان عِبَرٍ للشعوب، والشاهد العدل لها أو عليها.
يضاف إلى ذلك أنها تعمل على مد الجسور، وخلق التواصل الحضاري والثقافي والتجاري وغيرها بين الشعوب.
وما يهمنا من هذه الدراسة، هو دورها في التواصل العلمي في السياق الإفريقي.
فقد لعبت المخطوطات دورا بارزا في تعزيز التواصل العلمي بين دول إفريقيا جنوب الصحراء وشمالها عموما.
فمن خلال المخطوطات توصلنا إلى أن أقطار جنوب الصحراء عرفت تواصلا علميا مع شمالها، يظهر ذلك جليا من خلال نماذج المخطوطات التي توجد في غرب إفريقيا في علم الفقه، فإن أغلبها في المذهب المالكي، وفي مقدمتها: موطأ للإمام مالك، ومدونة سحنون، ومختصر الشيخ خليل.
وبإلقاء نظرة على كتب الحديث التي كانت تقرأ في أقطار جنوب الصحراء، نرى أن أغلب المخطوطات حول صحيح البخاري وباقي كتب السنة الستة المشهورة.
وفي النحو: حول ألفية ابن مالك، والأجرومية. وهي الكتب التي كانت تدرس في أقطار المغرب العربي، مما يدل على وجود تواصل علمي قوي بين غرب إفريقيا وشمالها من خلال المخطوطات.
ويذكر بعض المؤرخين أن كتاب الموطأ للإمام مالك تردّد ذكره في مخطوط فتح الشكور 14 مرة، ومختصر خليل 54 مرة، والمدونة 10 مرات[1]، مما يؤكّد تعزيز التواصل العلمي بين شمال إفريقيا وغربها
وما قلناه عن المذهب يقال مثله عن القراءة والرواية المعتمدة؛ لأن القراءات والروايات الموجودة في المخطوطات تبين أن أغلب سكان غرب إفريقيا كانوا يأخذون بقراءة نافع من رواية ورش، وهي المعتمدة في شمال إفريقيا وغربها.
وقد تحدث عبد الرحمن السعدي عن محمد بابا بن محمد الأمين بن حبيب الله بن الفقيه المختار التنبكتي المتوفى سنة 1014هـ قائلا: ” الذي أخذ روايتي ورش وقالون دراية عن حاملي لوائهما في زمانه سيدي ابن عبد الله المولى الجملال، وعن عبد الله بن الفقيه أحمد بري[2] ”
والفترة التي أمضاها أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي الصنهاجي التكروري السوداني المالكي في مراكش خير شاهد على التواصل العلمي بين شمال إفريقيا وغربها، حيث استفاد الشيوخ وطلبة العلم من دروسه التي كان يلقيها بجامع الشرفاء، وانتفع به عامة الناس في الحضرة المراكشية، وجلس إليه العلماء للمذاكرة والتحصيل، منهم: القاضي أبو القاسم بن أبي النعيم الغساني، وأبو العباس أحمد بك القاضي، وأبو العباس أحمد المقري، واستفاد هو كذلك من إقامته بمراكش، حيث انعكس ذلك على انتاجه الفكري بصورة إيجابية؛ لأنه استطاع أن يؤلف في فترة قصيرة أزيد من نصف كتبه، يأتي في مقدمتها كتابه “نيل الابتهاج بتطريز الديباج”[3].
ويتحدث أحمد بابا عن حرصه على إكمال ما بدأه الأوائل والاستدراك عليهم ببعض ما فاتهم في مؤلفاتهم تتميما للفائدة، كابن حماد وابن رشيق وابن علون وغيرهم من فضلاء الأعيان، يقول في مقدمة كتابه “نيل الابتهاج بتطريز الديباج “الذي يعتبر تكميلا لكتاب “الديباج” لابن فرحون: “فما زالت نفسي تحدثني من قديم الزمان وفي كثير من ساعات الأوان باستدراكي عليه ببعض ما فاته أو جاء بعده من الأئمة الأعيان، فقيدت فيه بحسب الإمكان، وذلك حين كنت ببلدنا البعيدة عن نيل المقصد من ذلك؛ لبعدها من مدن العلم وكتب هذا الشأن، فقصر بي الحال مع قلة الكتب هناك، وعدم مساعدة الزمان، حتى تفضل من له الفضل، وأحسن إلي من له الطول سبحانه بوصولي إلى منبع العلم في الديار المغربية… فرأيت أسباب السعادة بها متيسرة، وأزمة الأماني فيها مبذولة غير متعسرة، ونشدت الضالة، فرأيتها أقرب إلي من ظلي، وظفرت بما يكمل مرادي، ونلت أملي، فبادرت حينئذ إلى كتب ذلك الذيل، مستبشرا بالطول والنيل، وقلت لنفسي يا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي”[4].
وتفيد الرسالة العلمية التي وجّهها أحد العلماء من مدينة توات، وهو الفقيه سعد بن إبراهيم الجزائري، المعروف بقدورة إلى الفقيه أحمد بابا التنبكتي سنة 1021ه أو قبلها بقليل، حول وضع الرقيق الذي كان يجلبه التجار من البلدان الإفريقية؛ ليباع في سوق النخاسة، ووجه تملكه من الناحية الشرعية، وقد تأخر الجواب عنه حتى 1024هـ لأسباب سكت عنها أحمد بابا – رحمه الله – حيث يقول في صدر جوابه : ” قُدّم إلي سؤال منذ ثلاثة أعوام أو أكثر من بلاد توات – صانها الله من ضروب الآفات – وقد كنت نويت الكتاب عليه حينئذ، ثم منعني منه ما وقع، وعاق عنه عائق القدرة حتى صار في جانب النسيان، ثم ورد الآن استدعاء الجواب عنه”.[5]
ومجيء الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني من شمال إفريقيا إلى جنوبها ونزوله إلى ما يسمى الآن بالنيجر، واجتماعه مع سلاطينها، ثم دخوله بلاد كانو وكاشينة والتي هي حاليا في نيجيريا، واجتماعه بسلاطينها أيضا، وقيامه بدور الإصلاح في تلك المناطق، وكتابة رسائل لهم في أمور السلطنة والإمارة، وقيامه بنصح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم رحلته إلى امبراطورية سنغي بمدينة غاو والتي توجد – حاليا – في مالي خير شاهد على التواصل العلمي في السياق الإفريقي.
ويتجلى تأثير الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني – علميا وإصلاحيا – على إفريقيا جنوب الصحراء، لاسيما على العلماء الذين أتوا بعده بقرون، مثل الشيخ عثمان بن محمد بن عثمان الذي ألّف أكثر من اثنين وثمانين مؤلَّفا، إلا أن البعض منها كانت على ضوء مؤلفات المغيلي، مثل كتابه المعنون بـ”أصول العدل لولاة الأمور وأهل الفضل”، وكتابه “تنبيه الإخوان على أحوال أرض السودان، “وكتابه بعنوان: “ضياء السياسات وفتاوى النوازل مما هو في فروع الدين من المسائل”، وكتابه الموسوم بـ: “سراج الإخوان في أهم ما يحتاج إليه في هذا الزمان. “فكلها أدلّة على التواصل العلمي في السياق الإفريقي، حيث إنه ينقل عن العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي.
والأسئلة التي ألقاها أسكيا محمد على محمد عبد الكريم المغيلي حول السياسة الرشيدة والحوكمة، والتي اشتهرت في الأوساط العلمية بأسئلة أسكيا وأجوبة المغيلي، مثال حي على التواصل العلمي في السياق الإفريقي.
وفتوى العلامة أحمد بابا التنبكتي في حكم شرب دخان الورق المسمى بطبغ أو طابه، والذي ظهر في أوائل القرن الحادي عشر من الأمثلة التي تشير إلى التواصل العلمي بين شمال إفريقيا وغربها، حيث أنه أصدر هذه الفتوى بين مجموعة من علماء عصره، وفي مقدمة بعض المحبين في الله من الطلبة بمدينة درعة – حفظها الله ورعاها – جاءت الفتوى إثر سؤال طالب حول جواز استعمال ورق طبغ أو منعه، فقد أفتى بجواز استعماله؛ لأنه غير مرقد ولا مفسد ولا مسكر. ويقول: ” وبه كنت أفتي بمراكش معتمدا على ذلك وغيره، حسب ما أجاب به قاضي فاس ومفتيه أبو الحسن علي بن عمران، وقاضي درعة الفقيه أحمد أبو سعيد وغيرهما لما سألوني عن حكمه، وأجاب بعض الشافعية بأنه إن كان يضر بالعقل فلا يجوز استعماله”[6].
وقد صدرت منه هذه الفتوى أثناء وجوده بتمكروت من بلاد درعة حسب قوله: “ووافق الفراغ منه أذان المؤذن للظهر، فرجوت من الله العلي قبوله، وذلك يوم الخميس التاسع عشر من جمادى الثانية من العام السادس عشر، وأُلِّف بتمكروت من بلاد درعة “.[7]
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب مؤلفات علماء شمال الصحراء كانت تدرس في إفريقيا جنوب الصحراء، في مدنها وقراها وبواديها وفي مدارسها، فكانوا يشرحونها ويعلقون عليها، إشارة إلى التواصل العلمي بين هذه الأقطار في السياق الإفريقي.
وهنا نستأنس بذكر أسماء البعض منها:
الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام، لمحمد بن أحمد بن محمد المالكي الفاسي، المعروف بميارة (ت1072هـ).
الدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، ومختصره، لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي.
فتح العليم الخلاق في شرح لامية الزقاق، لمحمد بن أحمد ميارة الفاسي.
الأجوبة الناصرية في بعض مسائل البادية، لأبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي (ت1085هـ)
الهدية المقبولة في حلل الطب المشمولة، لأحمد بن صالح بن إبراهيم الدرعي (ت1147هـ).
وفي العقائد:
نذكر فيها الكتب التي كانت أكثر تداولا بين القطرين في إطار التواصل العلمي، وهي من مؤلفات الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن عمر السنوسي، المتوفى عام 895هـ/1490م:
العقيدة الكبرى.
العقيدة الوسطى.
العقيدة الصغرى (أم البراهين).
عقيدة صغرى الصغرى.
فقد حظيت هذه المؤلفات بعناية فائقة النظير لدى علماء جنوب الصحراء، حيث إنهم شرحوها ونظموها.
وفي السيرة النبوية:
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي. فقد اشتهر هذا الكتاب في الأوساط العلمية بجميع مدن إفريقيا جنوب الصحراء، حيث إنه يقرأ خلال شهر رمضان في المساجد والزوايا.
الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية، لعلي بن أحمد الواحدي النيسابوري.
قرة الأبصار في نظم سيرة المشفع المختار، لعبد العزيز بن عبد الواحد اللمطي المكناسي، المتوفى عام 964ه/1557م.
وفي النحو:
ألفية ابن مالك وشروحها.
المقدمة الأجرومية وشروحها.
البسط والتعريف في نظم ما جل من التصريف، لعبد الرحمن بن علي المكودي الفاسي. وشروحه.
شواهد العيني.
الكافية الشافية لابن مالك.
ملحة الإعراب للحريري.
وفي الفقه:
رسالة ابن أبي زيد القيرواني التونسي. فقد شرحها كثير من علماء إفريقيا جنوب الصحراء.
المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، لعبد الواحد بن أحمد بن علي الأنصاري الفاسي، المعروف بابن عاشر، المتوفى عام 1040هـ/1631م.
يضاف إلى ذلك كتاب محمد عبد الكريم المغيلي بعنوان: “تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين”، فهو كتاب نفيس حول السياسة الشرعية في ضوء الأحكام السلطانية، كتبه في إطار التواصل العلمي بسياقه الإفريقي لأمير كانو في نيجيريا حاليا.
ومخطوط “النصح المبين في قبح اختلاف المؤمنين”، للحاج عمر المعروف بالحاج عمار تال، الذي ألّفه حين عودته من أداء فريضة الحج، يعتبر تواصلا علميا حيث ألّفه لإجراء الصلح بين مملكتي بورنو وسكتو بأبيات شعرية تصل إلى 197 بيت.
فإن هذه المؤلفات تأتي في إطار العناية بتاريخنا الثقافي والاجتماعي لتكشف عن مظاهر مختلفة من ضروب التلاقي والتآخي، وأصناف التواصل بين الشعوب الذين يعيشون على جانبي الصحراء الكبرى، ولتقيم الأدلة على الجذور المشتركة بينهم في الأصل، والدين واللغة والتاريخ المشترك.
ولم يبق من الأمر إلا أن نبين أن المخطوطات لعبت دورا تاريخيا في التواصل العلمي في السياق الإفريقي، وعملت في نفس الوقت على نسج خيوط التعاون العلمي والثقافي بين أقطار جنوب الصحراء وشمالها، يتجلى ذلك من خلال العرض السابق سرده.
فما علينا نحن الخلف إلا أن نحيي تلك العلاقات العتيقة؛ لأنها تفيد وجود جذور مشتركة بين أقطار الجنوب والشمال أصلا ودينا ولغة وتاريخا مشتركا.
والله ولي التوفيق.
عبد القادر حيدرة – باحث من مالي
[1] – أعمال ندوة التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الإفريقية على جانبي الصحراء، نطّمها كلية الدعوة الإسلامية، الجماهيرية العظمى – طرابلس. ص 591. [2] تاريخ السودان، ص 217. [3] – أطروحة محمود زبير. ص 80. [4] أحمد بابا التنبكتي، منشورات الإيسسكو، ص 85 – 86. [5] معراج الصعود. ص 3 – 4. [6] – اللمع في إشارة حكم الطبغ لأحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت السوداني – مكتبة: مما حيدرة تنبكت – تحت رقم 15445 ورقم : 38327. [7] نفس المرجع