بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمدا يليق بجلاله، ويعادل ما عظم ودام من واسع إنعامه وإفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وعلى أصحابه وجميع التابعين لمنواله.
وبعد: فإن الحديث عن المدارس الكلامية، والمذاهب العقدية، والفرق الدينية واتجاهاتها الفكرية، وما خلفته من آثار سلبية أو إيجابية؛ قد فرغ منه العلماء منذ عهد مبكر فيما كتبوا من كتب المناهج الكلامية، ودونوا من الدواوين التاريخية.
ومن بين تلك المدارس العقدية التي نالت حظها الوافر من البحث والتحليل، المدرسة الأشعرية التي قام بمهمة تأسيسها الإمام أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري على أسس المنهج المحمدي في عقيدة التوحيد والتنزيه، والدين الحنيف، غير أنه لم تتوقف جهود البـاحثين والدارسين حول هذه المدرسة على مر العصور التي أعقبت تأسيسها إلى يومنا هذا. إذ هي المدرسة الوحيدة التي تمثل بحق منهج أهل السنة والجماعة، ونحن اليوم في عصرنا المليء بالتحديات المنهجية المتشعبة، والاتجاهات الفكرية المختلفة، والتي تتجاذب الفردالمسلم البسيط من كل جانب، دافعة به في متاهات يعسر عليه وهو بينها متشتت فكره، مأسور في حيرته؛ أن يتبين المسلك الصحيح القويم، الذي يوصله إلى ما يسعى إليه من النجاة والنعيم المقيم؛ فنحن اليوم مع هذه الأوضاع في أمس الحاجة إلى تكثيف جهود البحث وتعميق الدراسة حول هذه المدرسة، فلا مخرج لنا مما نحن فيه من الضياع والهلاك المحتم إلا بانتهاج منهجها والأخذ بتعاليمها.
والشعوب الإفريقية عرفت هذه المدرسة منذ عهد مبكر، من نشأتها على أيدي العلماء الذين حملوا مبادئها وتعاليمها إلى المغرب العربي الإسلامي وبلاد القيروان، ومن هنالك انتشرت المدرسة الأشعرية، مع المذهب المالكي، والتصوف السني، ورواية ورش عن نافع، إلى شتى البقاع الإفريقية لا سيما في المناطق الغربية والشمالية والوسطى من القارة.
وكان لها الدور الكبير في الاستقرار والتسامح والتعايش السلمي بين الشعوب الإفريقية، على اختلاف انتماءاتها الدينية والعرقية، مدى قرون عديدة.
ومن هنا يجدر بنا أن نتناول الحديث عن هذه المدرسة ومساهمتها في إرساء دعائم السلام والتسامح بين هذه الشعوب ذات الانتماءات المختلفة.
وسيكون بناء البحث على مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة:
• المبحث الأول: نبذة مختصرة في التعريف بمؤسس المدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري.
• المبحث الثاني: نشأة المدرسة الأشعرية، وركائزها التي بنيت عليها، وأسس الوسطية والاعتدال التي تضمنتها.
• المبحث الثالث: المدرسة الأشعرية ودورها في بث روح التسامح، والتعايش السلمي بين الشعوب الإفريقية.
• الخاتمة: النتيجة والتوصيات.
المبحث الأول: نبذة مختصرة في التعريف بمؤسس هذه المدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه1.
ترجم له الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء بقوله: «العلامة إمام المتكلمين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن عبدالله بن موسى بن أمير البصرةبلال بن أبي بردة بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار اليماني البصري رضي الله عنه.
مولده سنة: ستين ومائتين، وقيل بل ولد سنة سبعين ومائتين، وتوفي في بغداد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة على ما رجح من الأقوال.
وقال فيه الذهبي: كان عجبا في الذكاء، وقوة في الفهم. وقال أيضا: ولأبي الحسن ذكاء مفرط وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة، وتصانيف جمة تقضي له بسعة العلم. وقال ابن الباقلاني: أفضل أحوالي أن أفهم كلام الأشعري.
نشأ أبو الحسن الأشعري في أكناف المعتزلة، فقد تربى في حجر زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في عصره، وتعلم على يديه، وأخذ عنه على مدار أربعين سنة. ثم شاء الله له الهداية وتاب عليه، فقلب للمعتزلة ظهر المجن، فبعد أن كان لهم ناصرا أصبح عليهم حربا.
يقول الذهبي رحمه الله تعالى: «ولما برع في معرفة الاعتزال؛ كرهه وتبرأ منه وصعد للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة، ويهتك أستارهم».
وقد أعلن توبته من مذهب المعتزلة على منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول بخلق القرآن، وإن الله لا يرى بالأبصار، وإن الشر فعلي.
قال أبو بكر الصيرفي: كان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم، حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم».
وللإمام الأشعري تصانيف كثيرة تربو على المائة، ذكرها ابن عساكر في كتابه «تبيين كذب المفتري».
المبحث الثاني : نشأة المدرسة الأشعرية، وركائزها التي بنيت عليها، ومبادئ الوسطية والاعتدال التي تضمنتها.
تقدم فيما تم نقله عن الأعلام الذين ترجموا للإمام أبي الحسن الأشعري «أنه تربى في حجر أبي علي الجبائي زوج أمه شيخ المعتزلة في وقته»، ونشأ في الوسط الاعتزالي من صباه حتى بلغ رشده، واكتمل نضجه، فاستقى كل مبادئ تعليمه الأساسية من هذه المدرسة المعتزلية التي خرجته إماما من أئمتها، وعلما من أعلامها ملتزما بكل تعاليمها، قد جنَّد كل بنات فكره للدفاع المستميت عن هذا المنهج، الذي يمثل المنهج الاعتقادي الأصوب والأقوم من بين كل المناهج الأخرى، لاعتماده على البراهين التي تحقق في نظره حينذاك التنزيه المطلق للحق جل وعلا، ثم أدركته العناية الإلهية فقدر الله أن تقع له رؤيا منامية لهادي البشرية، ومعلم التوحيد والتنزيه يأمره بالعودة للأخذ بالمذاهب المروية عنه صلى الله عليه وسلم ونصرتها، وتكررت الرؤيا وكان ذلك خلال شهررمضان المبارك ، فكانت سببا لخلعه ثياب الاعتزال، وعودته إلى مذهب أهل السنة والجماعة، كما روى ذلك عنه الإمام ابن عساكر بطرق مختلفة في كتابه «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»2.
ومن هنا أخذ على عاتقه مهمة نقض ما بناه من دعائم قَوَّى بها منهج الاعتزال، وذلك حين اشتد النزاع بين المعتزلة ومن وقف معهم، والحشوية ومناصريهم في مسألة خلق القرآن، ومسألة رؤية الله بالأبصار، واشتعلت نارالفتنة وكاد الوضع أن ينفجر بنزاع مدمر بين الطوائف، يعم جميع أنحاء الدولة المسلمة في ذلك العهد، فقدر الله ظهور الإمام أبي الحسن الأشعري، ليكون الحكم الفاصل بالحق بين تلك الفرق المتنازعة. يقول الأستاذ القدسي في مقدمة النشر لكتاب «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»: «في مثل هذه الظروف الحرجة، غار الإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه على ما حل بالمسلمين من ضروب النكال، وقام لنصرة السنة وقمع البدعة، فسعى أولا للإصلاح بين الفريقين من الأمة بإرجاعهما عن تطرفهما إلى الوسط العدل، قائلا للأولين: أنتم على الحق إذا كنتم تريدون بخلق القرآن اللفظ والتلاوة والرسم، وللآخرين: أنتم على الحق إذا كان مقصدكم بالقديم الصفة القائمة بذات الباري غير البائنة عنه- كما يقول المبارك- يعني الكلام النفسي، وليس لكم مجال أن تنكروا حدوث لفظ اللافظ وتلاوة التالي، كما أنه ليس للآخرين نفي الصفة القائمة بذاته تعالى من غير لفظ ولا صوت، وقائلا للأولين أيضا: نفي المحاذاة والصورة صواب غير أنه يجب عليكم الاعتراف بالتجلي من غير كيف. وللآخرين: إياكم من إثبات الصورة والمحاذاة وكل ما يفيد الحدوث، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف.
وهكذا حتى وفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وقمع المعاندين وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها، فطبق ذكره الآفاق، وامتلأ العالم بكتبه، وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب، وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخرسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله، وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه، لكن الإمام ناصر السنةأبابكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ودانت للسنة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية، وقد بعث ابن الباقلاني في جملة من بعث من أصحابه إلى البلاد؛ أبا عبد الله الحسين ابن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى القيروان وبلاد المغرب، فدان أهل العلم من أئمة المغاربة، وانتشر المذهب إلى صقلية والأندلس، ولابن أبي زيد، وأبي عمران الفاسي، وأبي الحسين القابسي وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي، وتلامذتهم؛ أياد بيضاء في ذلك، وقام بنشر المذهب في الحجاز راوية الجامع الصحيح الحافظ أبو ذر الهروي، أخذ عنه من ارتحل من علماء الآفاق، وكان انتشاره بالشام قبل ذلك بواسطة صاحب الأشعري أبي الحسن عبد العزيز الطبري راوية تفسير ابن جرير عن مؤلفه، وكان أهل الشام يجتلبون كبار الأئمة من المذهب الأشعري حينا بعد حين…»3
من خلال ما قام بطرحه الإمام أبو الحسن الأشعري من حل وسط بين تلك الفرق المتنازعة المتعصبة لأهوائها ونصرة مذاهبها في مهمته الأولى التي وحد فيها بين صفوف المسلمين وجمع كلمتهم؛ ينجلي لنا أن المنهج الأشعري هو حقا منهج العدل والوسطية الذي يمثل منهج السلف الصالح البعيد عن الإلحاد والتطرف الديني، فما هي الأسس التي انبنى عليها هذا المذهب؟
نستطيع القول بأن أسسه لا تتعدى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه من كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يؤيد ذلك من الاستدلال العقلي الصحيح المقتضي توحيد الله وتنزيهه، ولا يصادم كتابا ولا سنة، ولا ينقض قاعدة من قواعد الدين الحنيف.
ومن أسسه عدم تكفير أحد من أهل القبلة بلا موجب للكفر مجمع عليه، يقول الإمام الذهبي: «رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد؛ دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات». ثم قال الإمام الذهبي بعد نقله كلام أبي الحسن الأشعري: «قلت: وبهذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه، يقول: أنا لا أكفر [أحدا] من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم4.
فهذه القاعدة سار عليها جميع أتباع الإمام من جميع المذاهب، ومن أهل الحديث وسائر طوائف أهل السنة والجماعة، يقول ابن أبي زيد في رسالته مقررا لهذه القاعدة: «وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة»5.
ومن قواعدهم كذلك: التأويل الإجمالي(التفويض مع التنزيه) أو التفصيلي بتخريج ما ورد من نصوص الآيات والأحاديث الموهمة للتشبيه، بحسب قوانين اللسان العربي الصحيحة التي يحتملها النص، طبقا للقاعدة الكلية التي تقتضي تنزيه الحق جل وعلا عن كل نقص وعن مشابهة الحوادث، المقررة في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)6، وقوله جل وعلا: (ولم يكن له كفوا أحد)7
وفي توضيح لهذه القاعدة يقول العلامة اللقاني في جوهرة التوحيد:
وكل نص أوهم التشبيها أوّله أو فوض ورم تنزيها
ويقول العلامة محمد البشار في أرجوزته «أسهل المسالك إلى مذهب الإمام مالك»:
وكل ما جاءبلفظ يوهم أوّله أو قل فيه ربي أعلم
وبهذه القواعد المذكورة وما شاكلها، امتازت المدرسة الشعرية بأنها المدرسة التي تحمل طابع أهل السنة والجماعة، ومثلها في ذلك شقيقتها المتفرعة منها: المدرسة الماتريدية، وحُدّد منهجهما: بأنه المنهج الوسط البعيد عن التنطع والتطرف والغلو في الدين، والنائي عن كل ما يستلزم التجسيم، وينافي التنزيه، ولذا تلقته الأمة بالقبول، ودرجت عليه جماهير علماء الدين.
المبحث الثالث: المدرسة الأشعرية ودورها في بث روح التسامح والتعايش السلمي بين الشعوب الإفريقية.
إن الحديث عن المدرسة العقدية الأشعرية في السياق الإفريقي، وأثرها في تعزيز التسامح والسلام،أمر لايحتاج إلى كثير تحليل أو تدليل، إذ إن أثرها في ذلك أجلى من الشمس في وضح النهار، لأن المدرسة الأشعرية وشقيقتها الماتريدية، هما المدرستان العقديتان اللتان تمثلان بحق عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة السلف الصالح، العقيدة الأصيلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، وبتحليه بما تقتضيه هذه العقيدة من التعاليم والقيم العليا ومكارم الأخلاق التي جاء متمما لها، كان مجيئه رحمة للعالمين، وهي العقيدة الوحيدة التي تعكس الصورة الحقيقية لفطرة الله التي فطرالناس عليها؛ ذلك لأن الواقع الذي عاشته الأوساط الإفريقية المسلمة في أمسها القريب،يختلف تماما عما تعيشه اليوم من التمزق والتفرق والتشرد والضياع. ولو طرحت مهمة بحث عن الأسباب التي قلبت أوضاع تلك المجتمعات من الأمن والاستقرار، والتعايش السلمي بين أفرادها وطوائفها المختلفة في كل بلد؛ إلى ما صارت إليه من وضعها البائس في الوقت الراهن؛ لوجد الباحثون في مقدمة كل الأسباب التي قد تؤخذ في الاعتبار من اقتصادية أوسياسية، لوجدوا في مقدمتها التطرف الديني العقدي، بل هو السبب الرئيس الأخطر، والذي إذا تم زرعه في أي بلد أو مجتمع، تعذر واستعصى قلعه ونزعه، إلا بالقوة الفاعلة التي تأخذ بزمام المبادرةوالجد واستعمال شتى الوسائل، وإلا امتدت جذوره لتعم جميع المناطق المجاورة، ذلك لأن مسألة العقيدة مسألة مصير، وقضية الدين قضية ارتباط بالخالق المعبود، من خلال الإخلاص له فيه؛ يرجى منه الجزاء الحسن الذي يوفر السعادة الأبدية للمستمسكين به من ذلك الرب المعبود. ومن هنا كان أهل كل دين يتفانون في إقامة طقوسه وشعائره، والالتزام بتعاليمه كيفما كان ذلك المنهج الذي قامت عليه تلك التعاليم.
فإذا كان معتدلا وسطا مبنيا على الحب والإخاء، والتسامح وإرادة الخير للآخرين؛ انطبعت سلوكيات أتباعه بطابعه، وصبغت بصبغته.
وإن كان تأسيسه على كراهية الغير، وسوء الظن بهم، والأنانية والإعجاب بالرأي، والحكم المتطرف المتصلب المتسرع في كل نازلة، فلن ترى في أتباعه إلا التشدد والتنطع والتطرف، والاستخفاف بالآخرين وإسقاطهم من الاعتبار، والحكم على مخالفيهم في فهم النصوص بالكفر والابتداع، وهو ما يؤدي إلى ارتكاب الجرائم البشعة، والمجازر المروعة، وإتلاف ممتلكات الغير بالتفجير والتخريب، باسم الدين والدين الحق منه براء.
وأساس كل ذلك هو الفهم السطحي الخاطئ لنصوص الشرع، وحملها على محامل لا تقرها القواعد الصحيحة الأصيلة للدين الحنيف، ورفض التخريج العلمي الحق لتلك النصوص من قبل جهابذة العلماء الراسخين في العلم الذين يمثلون الجمهور والسواد الأعظم للأمة.
وإذا كانت السلفية الحديثة قد تم تأسيسها من قبل أدعياء السلفية على أسس أنشئت من لبنات هشة تم صنعها بمادة الفهم السطحي، لفرد واحد من العلماء غلب استنتاجه الفكري وتحليله العقلي على علمه،فصرف خطأ أو صدا نصوص الشرع عن مسارها الصحيح الذي درج عليه جمهورعلماء الأمة في الأسماء والصفات وأصول العقيدة، وحمل تلك النصوص على غير محاملها، وأعطاها من الدلالات حسب رؤاه العقلية واتجاهاته الفكرية ما قد أدى بالفعل فيما بعد من قبل أتباعه إلى تكفير أهل القبلة، وتبديع أهل السنة والجماعة، تشبثا بالأحكام التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل إنما استقتها فرق الأهواء من استنباطات صانع لبنه، وفتاواه المأخوذة من الدلالات الخاطئة التي توصل إليها باجتهاده، مخالفا فيها جمهور الأمة، وجعلتها تلك الفرق المنتمية له قانونا أساسا لسلوكها، وتعاملها الظالم مع المسلمين وغيرهم، وأوصل الأمة إلى ما هي عليه من الأوضاع المزرية الراهنة.
فإذا كان تهور ذلك المنهج وأحكامه الجائرة، وتنطع أتباعه هي أسباب الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون في إفريقيا وغيرها من دول العالم،
فإن المدرسة الأشعرية التي تم إنشاؤها من قبل الإمام أبي الحسن الأشعري وأتباعه، على الوسطية والاعتدال، والعمل على توحيد صفوف الأمة، وتوظيف نصوص التشريع في وظائفها التي وردت لأجلها كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه: هي العـامل الكبير الذي عزز السلام والاستقرار، وبث روح التسامح والتعايش بين الشعوب الإفريقية المسلمة وبين غيرها، وهكذا الأمر في شتى بقاع العالم، وذلك أمر يقره واقع الماضي القريب، ويشهد له الحاضر الذي انقلب إلى الأمر الأسوأ بسبب نبذ كثير من الطوائف لمنهج الأشعري.
والمنهج الأشعري هو المنهج العقدي السائد في إفريقيا، وصل إليها منذ عهد مبكر من تاريخ تأسيسه كما سبق تقريره في المبحث الأول.
ومن كتبه المتداولة في حلقات العلم والمعاهد والجامعات الإسلامية في البلدان الإفريقية: المقدمة السنوسية الصغرى، والعقباوية، والخريدة البهية، وجوهرة التوحيد، وإضاءة الدجنة، ونظم العقيدة السنوسية الكبرى، وكتب أخرى أمثال: جامع زبد العقائد، ودليل القائد. وكل هذه ألفت في علم التوحيد خاصة، ويوجد في بعض كتب الفقه قسم للعقيدة كنظم المرشد المعين لابن عاشر، ونظم أسهل المسالك للشيخ محمد البشار، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، وغيرها. وفي الأزهر تدرس الخريدة البهية للدردير، وجوهرة التوحيد للقاني، والاقتصاد في الاعتقاد للإمام الغزالي، وهو أقوى دليل على رسوخ منهج المدرسة الأشعرية في إفريقيا، مما كان له الأثر الكبير في ترسيخ دعائم السلام وبث روح التسامح، وصنع أجواء المحبة والإخاء.
الخاتمة: النتيجة، والتوصيات.
النتيجة التي يمكن لأي باحث أن يتوصل إليها في بحثه حول الأوضاع الراهنة للمجتمع الإفريقي المسلم، منذ انتشار المذاهب العقدية المستوردة الدخيلة، التي تم زرعها بين هذه الأوساط التي اعتادت التسامح والتعايش السلمي فيما بينها، ومع جميع الطوائف التي تخالفها في الدين وفي الانتماء العقدي والعرقي في أمسها القريب، وكيف انقلبت أوضاعها رأسا على عقب في وقتها الحاضر؛ النتيجة هي عينها التي وصل إليها هذا البحث المختصر.
ذلك لأن الأمن والاستقرار والترابط بين أوصال المجتمع الذي عرفته إفريقيا في ماضيها، لم يتحقق لها إلا بالمحافظة على ثوابتها الدينية ذات الاعتدال والوسطية في العقيدة، والتسامح والتراحم في السلوك، والليونة والسعة والرفق في الأحكام. وتلك الثوابت هي: العقيدة الأشعرية، وقرينتها الماتريدية، والمذهب المالكي وما قابله من مذاهب الأئمة الثلاثة، والتصوف السني.
وبناء على هذه الدراسة وما تم التوصل إليه من النتائج، وأملا في إعادة الأمن والاستقرار والتسامح بين بني الإنسان على ظهر هذا الكوكب الأرضي على العموم، وفي أرجاء قارتنا السمراء على وجه الخصوص، نوصي بما يلي:
1 ـ حتمية العودة إلى الأخذ بمنهج أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية.
2 ـ ضرورة التوسع في الدراسات العقدية على المنهج الأشعري.
3 ـ فتح مجال للدراسات المقارنة بين الأشعرية والمذاهب العقدية المعاصرة لمن لديهم الأهلية.
4 ـ الاهتمام بنشر كتب العقيدة الأشعرية، في المكتبات وفي مواقع النشر الإلكتروني على طريقة pdf.
5 ـ الاهتمام بانتقاء القيادات الدينية بحسب الاتجاه الفكري، والانتماء العقدي مما يخدم المصلحة العامة، والأمن والاستقرار، والله يقول الحق ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
1– لخص هذه الترجمة د. عمر سليمان عبد الله الأشقر في كتابه «معتقد أبي الحسن الأشعري ومنهجه»،(ص 13 – 16، ط دار النفائس للنشر والتوزيع), وفي «سير أعلام النبلاء»،(ج 15، ص 85 – 90).
2– تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»،(نشر مطبعة التوفيق، دمشق 1347هـ، ص: 40 – 43).
3– مقدمة الناشر لكتاب «تبين كذب المفتري»، ص15– 16، مكتبة التوفيق، دمشق، 1347هـ.
4– سير أعلام النبلاء (ط. مؤسسة الرسالة، ج: 15، ص: 88).
5– الرسالة، ط: دار الغرب الإسلامي، ص 79.
6– – سورة الشورى: 11.
7– سورة الإخلاص:4.