كتب للإسلام أن ينتشر انتشارا واسعا في عدد من الأقطار والقارات بفضل جهاد دعاتــه الأولين ونضال هداته السابقين، الذين بذلوا أرواحهم وراحتهم لبسط نفوذ الإسلام، ورفع ألوية تعليماته في كل زمان ومكان …
وإذا كان المرء يعجب أيما إعجاب، لما عرفه هذا الدين الحنيف من سرعة في الانتشار، وقوة مدهشة في الإقبال عليه من طرف سكان شبه الجزيرة العربية، وما حوالبها، خلال فترة قصيرة من الزمن، فإن هذا الإعجاب يزيد عندما نرى كيف أن العقيدة المحمدية المطهرة استطاعت في ظرف وجيز، لا يتعدى قرنا أو قرنا ونصفا من الوصول إلى أقطار نائية، وقارات بعيدة، دخلها المسلمون فاتحين ملوحين براية القرآن الكريم، وحاملين بنود الجهاد والدعوة، وكل همهم في ذلك الجهاد الأصفر والأكبر أن تردد في هذه البقاع كلمة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وهكذا نرى أن الإسلام غزا، في ظرف قصير جدا، ربوع الجزيرة العربية، والشام، ومصر، وتونس، والجزائر والمغرب، والأندلس، ويتبين من هذا أن الإسلام بفضل تطوع حملة رسالته الأولين، يكتسح قارات ثلاث هي: آسيا وإفريقيا وأوروبا، وينتشر في أمصار عديدة، وأقطار كثيرة، كانت في عاداتها وتقاليدها وعباداتها، ولغاتها متفرقة، متباعدة ومتباينة كان للإسلام وحده فضل توحيد صفوفها، ولم شتاتها، وجمع كلمتها، ومن يدري؟ فلعل هذه الوحدة في العقيدة هي التي كانت تنشدها تلك الأقطار، وهي التي جعلت أبناءها يقبلون على الإسلام رغبة ورهبة، ويفتحون ذراعهم لاحتضان دعاة الرسالة المحمدية الأولين الذين حملوا القرآن في يد والسيف في يد أخرى ابتغاء في الاستشهاد وابتغاء مرضاة الله ولعل في الإقبال والترحاب عرفهما المولى إدريس الأكبر في بلادنا المغرب خير مثال على ما نقول.
وقد ينبهر المرء عندما يقف على ما عرفه الإسلام من انتشار في قارتنا السمراء، إفريقيا التي يمكن أن نؤكد، دون مبالغة، أنها من القارات القلائل التي حظي فيها الإسلام بشيوع مبادئه، وذيوع تعاليمه وبطرق ووسائل تختلف في كثير من الأحيان عن الطرق والوسائل التي استعملها الدعاة المسلمون الأولون لنشر الإسلام في أصقاع أخرى …
نعم ! لقد وجد المسلمون الأولون في فجر حياتهم صعابا جمة في غزو القارة الإفريقية، فعمرو ابن العاص، لم يتمكن من الدخول إلى مصر بين عشية وضحاها، فقد كان عليه أن يجهز جيشا كبيـرا، وأن يدفـع بهذا الجيش الإسلامي الكبير إلى أرض صعبـة لم يتحقق غزوها أو بحرب عوان، وإن كانت مصر كما قال عمرو بن العاص:.. أرضها ذهب، ونيلها عجب، وهي لمن غلب».
وما قيل عن فتح مصر، وعن عمرو بن العاص يمكن أن يقال عن القيروان وعن المغرب وعـن الفاتحين الأولين لهما أمثال عقبة بن نافع، وموسى بن نصير وغيرهما من هؤلاء الأبطال الذيـن نـذروا نفوسهم للجهاد وحمل مشعل راية الإسلام والذين لم يعقهم عن مواصلة الكفاح في سبيل نشر الدعـوة الإسلامية إلا المحيط الذي لم يكن يعرف هؤلاء الدعاة أن وراءه أراضي أخرى حتى قال عقبة بن نافـع: لو عرفت أن وراء هذا البحر أرضا أخرى لخضت عبابه لنشر الإسلام» وحتى قال أصحابه عن صـدق وإيمان : لو تعرضت بنا ثبج هذا البحر لدخلناه…
هكذا بدأ الإسلام يغزو إفريقيا من الشمال، ويتوجه منها إلى أوربا على يد طارق بن زيـاد حيث أقام حضارة إنسانية كادت تفوق ما عرفته الشام والعراق من عز ومجد وبذخ ومدنية كانت هـي سبب انطلاق النهضة الأوربية، وطريقا للتطور والتقدم الذين يعرفهما العالم منذ القرن الماضي.
وقد شاءت الأقدار الإلهية أن تواصل الأجيال اللاحقة من المسلمين عمل الآباء فتشق للإسلام أودية جديدة، وطرقا حديثة لمواصلة مسيرة الهدي المحمدي عبر القارة الإفريقية.
ويكفي أن نقرأ ما كتبه المؤرخون المسلمون الأولون، والرحالة السابقون كابن حوقـــل، والبكري، والإدريسي، وياقوت الحموي، وابن بطوطة، وابن خلدون، وليون الإفريقي لنقف على السبل التي اجتازها الإسلام ليصل إلى إفريقيا الغربية عن طريق المغرب وتونس، وإفريقيا الشرقية عن طريق مصر واليمن …
وإذا كان الإسلام في شمال إفريقيا قد انتشرت، وتوفرت له أسباب التمكن والاستقـــرار والتطور، فإن هذا الإسلام نفسه قد انتشر في بقية أجزاء القارة الإفريقية المسلمة دون أن تتوفر له، مـع كامل التحسر والتأسف، دواعي التوسع والتقدم، بل ظل يتأرجح، بين مد وجزر، نظرا للعوامل التـي سنتعرض لها فيما بعد، والتي يتعين على المسولين في دول شمال إفريقيا أن يعتبروها وينكبوا على علاجها بكل حكمة وتبصر.
لقد قدر لي أن أقوم برحلات ثلاث عبر القارة الإفريقية زرت، خلال كل منها، جميع الأقطار الإفريقية المستقلة ماعدا جنوب إفريقيا والأقطار التي مازالت تخضع لحكم أجنبي والجمهورية الجزائرية التي لم يرد الله أن أزورها إلى الآن لسبب لا يعمله إلا هو رغم قرب الديار ورغم أنني بدأت حياتي العلميـة والصحافيـة علـى الخصوص من أجل الجزائر عنـدما عرضت علـى جريدة «العلم» الغراء فـي وسط الخمسينات من هذا القرن العشرين أن أقوم بتغطية الثورة الجزائرية مرتين أو ثلاث من كل أسبوع وذلك بتخصيص صفحة من صفحات الجريدة المذكورة للكتابة عن الثورة الجزائرية.
وقد كانت رحلتي الأولى سنة 1962، كما جرت الرحلة الثانية خلال سنة 1965، أما الرحلة الثالثة فتمت في سنة 1968، ولم يقتصر اتصالي بالقارة الإفريقية على هذه الرحلات الثلاث التي دامـت كل منها شهرا أو ما يزيد على الشهر ولكني قمت بزيارات مختلفة كثيرة لعدد من الأقطار الإفريقيـة في شرق إفريقيا وغربها كالصومال وتنزانيا وأوغندا وكينيا والسنغال والگابون في نطاق المهمات الإداريـة التي أنيطت بي طوال مسؤولياتي الإدارية المتعددة والمتقلبة بين وزارات التعليم والشبيبة والرياضة والشغل والإنعاش الوطني والتكوين المهني والإعلام إضافة إلى الأعمال الصحافية والثقافية التي انتدبت لها في هذه الأمصار الإفريقية.
أما الرحلات الثلاث فكانت غايتها إسلامية محضة، وكان الهدف منها الدعوة إلى قضية العرب و المسلمين الأولى ألا وهي قضية فلسطين قبل أن يكون لمنظمه التحرير الفلسطينية قبل أن يكون لمنظمه التحرير الفلسطينية وجود، وفي الوقت الذي كان يتكفل بالدفاع عن هذه القضية المؤتمر الإسلامي يوم كان على رأسه سماحة المغفور له الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين والزعيم الفلسطيني الكبير رحمه الله.
كان في رفقتي في هذه الرحلة الأولى التي تمت في سنة 1962 الأستاذان الجليلان السيد رياض العابد وهو محام الجليلان السيد رياض العابد وهو محام سوري وموسى أبو السعود، وهو فلسطيني كان يمثل فلسطين في بلادنا، قبل أن يصبح لمنظمة التحرير الفلسطينية، تمثيلية قائمة الذات في رباط الفتح.
لم يكن قد مضى على استقلال الكثير من الدول الكثير من الدول الإفريقية وقت طويــل; وكانت معظم هذه الدول تعيش تحت رحمة الدول المستعمرة (بكسر الميم) التي أغدقت عليها والعطايا حتى تظل تابعة لها رغم حصولها على الاستقلال. وكان على رأس هذا الدول مسؤولون وحكام لم يتحصنوا بالجهاد في سبيل نيل الاستقلال بل إن هذا الاستقلال أعطى للكثير من شعوبهم للتخلص منها ولإخضاعها بطرق أخرى لمشيئة المستعمر الذي فرض عليها آنذاك رؤساء ومسؤولين تابعين له أصـلا وفصلا، يعمل المستعمر ما يشاء، ويشحذ منهم لمصالحه كيف شاء.
ومنذ ذلك الحين آمنت شخصيا بأن هؤلاء القادة لن يظلوا يسيرون شعوبهم، وأن هذه الأخيرة ستنقلب عليهم لا محالة. وكذلك كان. وأحمد الله أن من بين هذه الشعوب وبين هؤلاء القادة كان عدد من الرؤساء المناضلين الذين أحرزوا على الحرية والاستقلال لشعوبهم بفضل كفاح هؤلاء القادة الذيـن يمكن أن نذكر منهم، بكل فخر وإجلال، السادة الشيخ سكوتوري رحمه الله وقوامي نكروما رئيس دولة غانا والرئيس المرحوم موديبوكيتا رئيس دولة مالي.
وقد ترتب عن هذا الاستقلال استمرار لوضع استعماري جديد ظاهره استقلال استمرار لوضع استعماري جديد ظاهره استقلال فارغ المحتوى، وسيادة مخنوقة في واقعها، وباطنه مواصلة استغلال هذا الشعوب من طرف الدول الأجنبية التي كانت تحكمها فيما سبق؛ ومعنى هذا بقاء وضعية الولاء للأجنبي، وتبعية عمياء للسياسة التي ينهجها الاستعمار الغربي بما في ذلك الخضوع لتعليماته، والتعامل مع الـدول الحليفة للغرب كإسرائيل التي أحكمت قبضتها على هذا الدول حديثة العهد بالاستقلال، الشيء الـذي مكن إسرائيل من بسط سيطرتها على هذه الدول فأضحت تمدهم بالخبراء في كل ميدان، وتوفر لهــم المساعدات المالية والمادية بسخاء كتجهيز الجيوش الإفريقية والمخابرات ودواليب الاقتصاد مما دفع بهذه الدول الإفريقية إلى ربط علاقات وطيدة مع إسرائيل، وجهل كل شيء فيما يتعلق بالخلاف القائم بين الدول العربية والإسلامية وبين إسرائيل.
ولعل هذا الوضع يعد من العوامل الأولى التي حالت بين هذه الدول المسلمة في معظمها وبين تتبعها للنهج الإسلامي الصحيح الذي أخذته عن بعض دول شمال إفريقيا واليمن وغيرها من الــدول الإسلامية، وقد كان علينا في هذه الرحلة أن نعرف هذه الدول الإفريقية قادة وشعوبا بالوضعية فــي فلسطين، وما يلاقيه الإخوان الفلسطينيون من اضطهاد وعنت، وظلم وطغيان من طرف الإسرائيلييـن الذين طردوا السكان الأصليين لفلسطين، واحتلوا أراضيهم، وأقاموا دويلة إسرائيل بالقضاء على فلسطين وعلى الفلسطينيين وقد كنا نحمل في هذه الرحلة رسائل ملكية سامية إلى رؤساء هذه الدول الذين كانوا يستقبلون الوفد العربي الإسلامي الفلسطيني الذي يسلمهم هذه الرسائل التي بعث لهم بها صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني نصره الله وسوف لا أعدو الحقيقة إذا قلت بأن هؤلاء القادة ما كانوا ليستقبلوا أعضاء الوفد ويتفهموا القضايا التي يعرضها عليهم لو لم يكونوا مبعوثين من طرف ملك بلاد إفريقيـة سبق لها أن دعت إلى مؤتمر القمة الإفريقي بالدار البيضاء قبل ذلك بأقل من سنتين.
ليس مقصودي من هذا العرض أن أتحدث عن رحلة مضى عليها أزيد من ربع قرن وسبـق أن كتبت عنها حلقات عدة في هذه المجلة نفسها أي «دعوة الحق» الغراء. وقد يعتقد البعض أنها بعيدة عن موضوع تطور الإسلام في إفريقيا الذي اخترته لهذا البحث؛ ولكني أريد أن أصل بهذه الإشارة إلى أحد العوامل الرئيسية التي طرأت على الإسلام والمسلمين في إفريقيا والتي تتخلص في الجهل الذي يتعلق بقضايا المسلمين، بقضيتهم الأولى وأعني بها قضية فلسطين ويرجع ذلك أساسا إلى استحواذ الأجانب ـ مسيحيين ويهود وملحدين وغيرهم ـ على عقول المسلمين الأفارقة، وعلى مصالحهم رغم خروج هؤلاء الأجانب من الحكم في الظاهرة كما يرجع إلى الانفصال التام الذي عرى أواصر التعارف والوئام بيـن المسلمين، وإذا أضفت إلى هذين العاملين عاملا ثالثا لا يقل أهمية عن الأول والثاني وهو ضعف المسلمين وقلة الوسائل العلمية التي يتوفرون عليها مما جعلهم يعيشون على تقاليد وعادات يعتبرونها إسلامية ومـا هي إلى الإسلام في شيء وإنما هي إتباع لما رأوا عليه آباءهم دون معرفة دقيقة بالإسلام وعباداتـــه ومعاملاته وأصوله وعقائده ـ أقول ـ إذا أضفت هذا العامل والواقع المر إلى العاملين الأول والثانـي، أدركت الوضع المؤسف الذي يوجد عليه الإسلام في إفريقيا، والحالة المؤلمة المزرية التي يعيش فيهـــا المسلمون في القارة السمراء.
أما الرحلة الإفريقية الثانية إلى إفريقيا فقد قمت بها وحدي سنة 1965 لمواصلة الدعــــوة والتعريف بالقضية الفلسطينية استمرارا للمهمة الأولى؛ والحقيقة أني وجدت، بابتهاج كبير وســرور عظيم، أن الإسلام ينتشر انتشارا واسعا في القارة الإفريقية، ولكني وجدت وضع المسلمين لا يزيـــد إلا فقرا، وحالتهم لا تزيد إلا بؤسا بينما وقفت على الوعي السياسي الذي بدأ يظهر في المجتمع الإفريقي عموما والإسلامي منه خصوصا. فقد كان مر على خروج منظمة الوحدة الإفريقية إلى الوجود، بضـع سنوات، وتحقق داخل هذه المنظمة بعض الوعي بالقضية الفلسطينية من الوجهة السياسية على الأقل. وكان للاتصالات التي جرت بين القادة الأفارقة وبعض القادة العرب من إفريقيا الشمالية ومصـــر والسودان وموريتانيا والصومال تأثير لا بأس به في موضوع قضية فلسطين، كما أن بعض رؤساء بعض الدول العربية والإسلامية قام قبل هذه الفترة وخلالها بزيارات لبعض الأقطار الإفريقية كما أن البعـض من القادة الأفارقة زاروا بعض البلاد العربية، فنتج عن هذه الزيارات وعي بالقضية العربية كما نتج عنه ظهور تعاون ما بين الأقطار العربية والإفريقية كما انصب، بصفة خاصة، على الميدان الديني والثقافـي والاجتماعي. ومع ذلك فقد كان الأفارقة الذين قدر لي الاتصال بواسطة سفرائنا وسفراء بعض الـدول العربية والإسلامية، يعربون على مختلف المستويات سواء كان هؤلاء الأفارقة، رؤساء أو وزراء أو شيوخ طرق أو أصحاب مؤسسات تعليمية أو تربوية أو دينية أو مطلق المواطنين الأفارقة يقدمون الأوضــاع المؤسفة التي عليها الإسلام والمسلمون في إفريقيا في صور حالكة تدعو إلى الأسى إذ لم يكونوا يتوفرون على مساجد لإقامة شعائر دينهم، و مؤسسات لتعليم أبنائهم وبناتهم، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحـة يرضونها لهم كما كانوا في حاجة ماسة إلى الكتب الإسلامية والعربية ومصاحف القرآن.
وأما العامل الرابع الذي كان ـ وما زال مع الأسف الشديد لحد الآن ـ يعوق تطور الإسلام والمسلمين في القارة الإفريقية فهو تعدد اللهجات المحلية التي يعسر على الأفارقة التفاهم بها حتى فيــما بينهم وحتى في القطر الواحد، وتمكن اللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وإسبانية وبرتغالية وغيرهــا كالإيطالية والألمانية على مستوى أقل في عقول كثير من المسؤولين والمثقفين الأفارقة، وسريان هــذا التمكن داخل المجتمع الإفريقي والأوساط الشعبية. فكيف يمكن لمجتمع يعيش هذا الوضع في لغة التخاطب أن يفهم لغة القرآن، ويدرك أسرار كتاب الله إذا لم يتمكن من لغة الضاد ويحسن استعمالها في القراءة والكتابة والعبادة ولغة التخاطب.
وإني مازلت أتذكر في لوعة وأسى كيف كان المسلمون الأفارقة في بعض أمصارهم يقبلـون علي، ويتقدمون لي بمطالب يسيرة مستعجلة كالحصول على مصاحف القرآن الكريم، وبعض الكتـب المدرسية التي تعلم قواعد الدين، وتحبب قواعد اللغة العربية إلى نفوس أبنائهم الأمر الذي جعلني، بمجرد رجوعي إلى أرض الوطن، وتقديم تقرير في الموضوع، أقف بنفسي على المجهودات التي بذلتها الدولــة المغربية بأمر من صاحب الجلالة لصالح هؤلاء المسلمين خصوصا ما تكلل منها بالتوفيق كبناء مسجد دكار العظيم، وتوجيه بعض الكتب والمؤلفات الدينية في اللغة العربية، وبعض الكتب المدرسية والمجلات وغيرها من المنشورات.
وقد أبى الله سبحانه وتعالى إلا أن أقوم برحلة إفريقية ثالثة سنة 1968 صحبة وفد مغربي صرف ترأسه الأستاذ الأخ السيد أبو بكر القادري، وكان في عضويته، الأخ الأستاذ السيد عبدا لكريم حجـي الوطني الغيور المعروف في سلا والمغرب بأسره. وقد جاءت هذه الرحلة تلبية لطلب من المؤتمر الإسلامي، وبعد المصيبة العظمى التي حلت بالمسلمين على إثر احتلال الأراضي العربي في كل من مصر وسوريــا وشرق الأردن والقدس الشريف. وقد رعى هذه الرحلة وأنفق عليها صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني نصره الله الذي أمر رئيس الوفد بتوجيهاته الإسلامية العربية السامية، وبرسائل ملكية إلى إخوانه رؤساء الدول الإفريقية، وبنسخ عديدة من المصحف الحسني الذي أمر جلالة الملك بطبعه بمناسبة مرور أربعـة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم. وقد تكفل الأستاذ الأخ أبو بكر القادري بتسجيل مراحل هــذه الرحلة التي دامت أقل من شهر، ولم يقم الوفد خلالها إلا بزيارة ثماني دول هي گامبيا، والسنغـــال، وغينيا، وسيراليون، ومالي. ولقد كان للاتصال التي أجراها أعضاء الوفد، والخطابات المؤثرة التي كـان يلقيها رئيسه الفذ الداعية الإسلامي الموفق أثر كبير في نفوس المسلمين الأفارقة كما كان للخطابــات الملكية التي سلمت للرؤساء والمسؤولين على مختلف المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والمصحف الحسني دور كبير في توعية هؤلاء بقضية المسلمين الأولى.
والحقيقة أننا وجدنا الشعوب الإفريقية، بوجه عام، والمسؤولين المسلمين، يوجه خـاص، أخذت تستيقظ من سباتها بعد الانتفاضات التي عرفتها بعض الأقطار الإفريقية، وبعد الثـورات والانقلابات التي هزت ربوع بعض البلدان كما وجدنا، والحق يقال، كثيرا من المسؤولين واعين بمخاطر الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، ومتأثرين جدا لما أصاب القدس الشريف من انتهاك لحرمته، أدى إليه الاستيلاء على المسجد الأقصى من استنكار في نفوس المسلمين الأفارقة. وقد وقف أعضاء الوفد على الأوضاع المزرية التي يعيش فيها المسلمون، والمضايقات والإغراءات التي يقوم بها خصوم الإسلام سـواء كانوا مسيحيين أو ملحدين أو لا دينيين، كما وقف الوفد على الجهود المشكورة التي يبذلها دعـــاة الإسلام لبث الدعوة الإسلامية في نفوس مواطنيهم، ونشر الرسالة المحمدية في الأوساط الإفريقيـــة بوسائـل محدودة جدا، وفي ظروف من الصعوبات بمكان رغم المنافسات التي يقوم بها خصوم الإسلام الذين يبنون المدارس، ويشيدون المؤسسات العديدة، ويطعمون الطعام بسخاء ويوفرون وسائل العلاج بدون حساب، ويستغلون ظروف تعاسة المسلمين، وضعف إمكانياتهم، ليبشروا برسائل سماوية وأرضي. ومع ذلك فقد سعدنا ونحن نرى إخواننا الأفارقة يقبلون على الإسلام، ويدخلون في دين الله أفواجا أفـرادا وأزواجا، ويسلمون جماعات وزرافات في وقت واحد بينما يبذل خصوم الإسلام فصارى الجهود، ولا ينضم إلى صفوفهم إلا أقل القليل، ولا يندرج في سلكهم إلا النزر اليسير.
لم تتوقف اتصالاتي بالقارة السمراء عند هذه الرحلات الثلاث؛ ولكني قمت بزيارات محدودة لبعض الأقطار الإفريقية منذ أزيد من عشرين سنة مكنتني من الوقوف على أحوال إخواني المسلمــين الأفارقة فقد زرت الصومال والسنغال مرات عديدة، وطفت بأرجاء تنزانيا، وكينيا وأوغندا؛ وهي كلها بلاد مسلمة عرفت هذا الدين الذي صادف هوى هو نفوس أبنائها الذين مالوا في أول أمرهم إلى الخوارج ثم ما لبثوا أن عادوا إلى الإسلام المتسامح والمبني على الجدال بالحسنى، ولإقناع بالطــرق المنطقية الخلابة، وقد يطول بنا الحديث لو أردنا استعراض الوسائل التي تلقى بها هؤلاء الأفارقة الإسلام.
وإذا كانت بعض الأقطار في إفريقيا الشرقية قد انغمرت في بحبوحة السعادة الأبدية التي يمنحها الإسلام عن طريق بعض الدعاة الواردين من اليمن القريب من شواطئها، وعن طريق مصر والسودان بواسطة رجال مومنين هاجروا إلى الله ورسوله إلى هذه الأقطار بغية نشر الإسلام في ربوعها فإن أقطار إفريقيـا الغربية سعدت بتلقي الرسالة المحمدية عن طريق رجال وفدوا عليها من المغرب وتونس وموريطانيا؛ وقد حمل هؤلاء القوم الذين كانوا يتكونون من عرب وبربر الإسلام أولا كما حملوا المصاحف والكتــب ثانيا؛فتلاقى السيف والقلم للقيام بواجب الدعوة وهذا عمل أبناء وحفدة عقبة بن نافع والمولى إدريس الأول، وعمل المرابطون، والموحدون والمرينيون والسعديون والعلو يون على بث الوعي الإسلامي في الربوع الإفريقية لا يريدون من وراء ذلك إلا وجه الله.
وإن مما يطرب قلب كل مغربي ويشرح صدره أن يسمع خلال اتصالاته بالمسلمين الأفارقة أن العلماء والدعاة منهم لا يعرفون عن الإسلام، وعلوم الشريعة وفنون اللغة العربية إلا ما ورد من المغـرب سواء من مراكش وكيلة ابن يوسف أو عن طريق فاس وجامعة القرويين، وأنهم لايقرؤون إلا ابن عاشر والشيخ خليل ومطبوعات السلطان العالم مولاي عبد الحفيظ العلوي، ويتلقون بابتهاج كبير مجلتــي «دعوة الحق»والإرشاد التي أكد لي أحدهم أنه اختار مقالاتي فيها كخطبة لإحدى الجمع.
إن هذا الإقبال الإفريقي العربي على بلادنا يحتم علينا أن نضاعف الجهود لإمداد إخواننا المسلمين في جنوب الصحراء بكل ما يحتاجون إليه من كتب، ومؤلفات، وما يتوقعون عليه لبث الدعوة الإسلامية من علماء ومدرسين، ومواصلة مساعدتهم المادية لبناء المساجد والمعاهد، وقبول أبنائهم وبناتهم ولمتابعة دراستهم في بلادنا حتى نواصل بهذا العمل ما قام به أجدادنا من سعي محمود، وجهد جهيـد، وحتى يظل حبل الاتصال بيننا وبينهم ممدودا.
وإذا كان معظم هذه الشعوب مازال متمسكا بالمذهب السني المالكي، فإن من واجبنا أيضـا أن نيسر لهم وسائل التمكن من هذا المذهب، وطرق الحفاظ عليه لأن بعض الدول الإسلامية أخـذت توجد جهودهم نحوهم لتجرهم إلى مذاهب وتيارات ما أظن الأفارقة يقبلونها، ولكن نبذل لهم بسخاء، وتعرض عليهم بكرم وجود، فهي تمدهم بمساعدات وأموال كثيرة، وهي تبعث لهم بمؤلفات ومجلـدات تدعو على ملل ونحل لا قبل لهم بها، وهي تشيد المؤسسات الثقافية والدينية والاجتماعية وهي مسـاع محمودة في حد ذاتها ولكني أرى أن واجب الدول الإسلامية يفرض عليها مواصلة هذا العمل؛ ولكــن الواجب الديني يفرض أن تنظم هذه المساعدات وأن يتم إحداث جهاز للتنسيق فيما بين الدول الإسلامية يمكن أن يكون هو المنظمة الإسلامية فيما بين الدول الإسلامية يمكن أن يكون هو المنظمة الإسلاميــة للتربية والثقافة والعلوم أو غيرها:كما أن هذا التنسيق الإسلامي يجب أن لا يمنع المغرب من مواصلــة مجهوداته الفردية نظرا لما كان له من سبق في الميدان ونظرا للعلاقات الوطيدة القائمة بين بلادنا وهـذه الدول الإفريقية، ونظرا لحسن الجوار فيما بيننا وبينها.
إن تطور الإسلام في القارة السمراء يتحقق بخطى ثابتة، وانتشاره في ربوعها يسير سيرا مطردا يدعو إلى التفاؤل والارتياح، وإذا كنا لم نتعرض هنا بتدقيق للتأثيرات التي تغشى المجتمع الإسلامي فـي إفريقيا والتي يتحتم علينا الوقوف عندها لمعرفة تفاصيلها وجزئياتها ودقائقها نظرا لضيق المجال والوقـت فإننا نرجو أن تخصص في المستقبل دراسة وافية عن هذا الموضوع لنتأكد من تشبث الأفارقة الذيــن يعيشون وراء الصحراء بكل من يفد عليهم من المملكة المغربية، وكل ما يرد عليهم من كتب ومؤلفات ومبادئ من بلادنا.
عبد اللطيف أحمد خالص
المصدر: مجلة دعوة الحقـ العدد 269، ماي-أبريل 1988