يسعد مجلة oulemag أن تقدم لقراءها الكرام سلسلة حلقات عن جامع القرويين التي لا يعرف المغرب إلا بذكرها، كما كان يقول العلامة الراحل عبد الهادي التازي.
المقالة اعتمدت على كتاب “جامع القرويين؛ المسجد والجامعة بمدينة فاس…” لعبد الهادي التازي؛ والتي هي في الأصل رسالة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الإسكندرية، تحت إشراف الأستاذ أحمد مختار العبادي (أستاذ بجامعة الإسكندرية اشتغل أستاذا معارا لسنوات بجامعة محمد الخامس بالرباط).
وعن سياق تأليف هذا الكتاب يقول الفقيه والأكاديمي عبد الهادي التازي: ” وقد اقترح عليّ (يقصد أستاذه) أول الأمر الكتابة عن (تاريخ المغرب) لكنني عدت إليه بعد شهور لأخبره بأني أفضل الكتابة حول (مدينة فاس) التي تستقطب تاريخ المغرب (…) لكني لم ألبث أن عدت إليه ثانية لأقول له: إنني لم أجد في فاس شيئا غير (جامع القرويين) الذي كان وراء تاريخ فاس، ووراء تاريخ المغرب كله، بل وراء تاريخ علاقة المغرب بكل الجهات الأخرى.[التازي عبد الهادي، تاريخ جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، ط 2، دار نشر المعرفة بالرباط، ط2، 2000، ص 8.]
في القرويين بقلم عبد الهادي التازي
فهرس عام لتاريخ جامعة القرويين المعماري والفكري منذ ابتداء نشأتها إلى الآن، استشار فيه المؤلف أكثر من مائة كتاب سواء فيها الكتب التي ألفت بالعربية أو بالفرنسية في إصدار هذا الكتاب الذي يعتبر الأول من نوعه أن يتقدم به كتحية لهذه القرويين وهي تشرف على ذكراها المائة بعد الألف، هذه الذكرى التي تقترن باستعدادها لاستقبال عهدها الجديد…
والكتاب يقع في مائتي صفحة تقريبا ويشمل أكثر من مائة صورة ورسم، وسنعمل هنا على اقتطاف بعض الفصول منه في انتظار أن يمثل للطبع، إنما نرجو من المؤلف أن لا يقتصد في طبع هذه الوثيقة التاريخية لإحدى مؤسساتها العريقة ولا نغفل هنا عن لفت نظر الذين يعينهم أم والقرويين سواء من الجهة المعمارية أو الفكرية أو السياحية كذلك، أن يقدروا مجهود المؤلف، فيعملوا بدورهم على أن يبرز الكتاب في حلة تتناسب وعظمة هذا البيت الذي فرض وجوده طيلة هذه القرون، هذا البيت الذي «يدين له بالفضل كل من اختار العربية كلسان واستنام إلى الإسلام كدين بهذه البلاد…»
فــــــــــاس
كم ينتقل لنا التاريخ عن رؤساء استهوتهم المطامع، ونالت منهم كبرياؤهم منالها فبعثوا إلى جوار قصورهم يطلبون منهم التسليم فيما يملكون القصر أوسع والحقل أمتع نظرة، فأما أن يذعن ذلك الجار ويستجيب لرغبة التوسع التي شاءها السيد، وإلا كانت القوة جوابه، والطرد مصيره المحتم…هكذا اعتدنا أن نسمع عن كثير، فهل كان إدريس مؤسس مدينة فاس من هذا الكثير ؟ لا ! إنه لم يكن من أولئك الذين يفرضون رأيهم، أو يملون إرادتهم دون حساب للغير، ومن غير اعتبار لمنطق العدل والإنصاف، بل إنه كان من الأفراد الذين يشعرون نحو الغير لنفس الشعور الذي يعرفونه لنفوسهم…
لقد ضاقت مدينة« وليلي» بمن قصدها من أنصارها، من كل مكان، وحتى من إفريقيا والأندلس وأصبح إدريس في حاجة ملحة للتفكير في استبدالها بمدينة أكثر وسعا وأعذب ماء، وأجمل موقعا بعيدة عن فحيح الصحراء، ورطوبة البحار وعواصف الجبال« وركب في خاصة من قومه ليختار بنفسه…وأخيرا
وقع اختيار وزيره عمير بن مصعب الأزدي على «غيضة ملتفة الأشجار مطردة العيون والأنهار.
ترى ما كان من إدريس وقد قدم له الوزير تقريره حول المكان الجديد ؟ لقد سال عن ملاك الأرض لأنه لا يرغب في أن يشيد عاصمته على جماجم المظلومين والمغصوبين…هذا ساوم الزواغيين في الثمن لوم يكتف بما يسمونه اليوم« التعويض الرمزي» بل أرضاهم في مطالبهم كاملة غير منقوصة، واشترى منهم ارض المدينة إذ ذاك بستة آلاف درهم، وناهيك بهذا العوض على ذلك العهد، ودفع لهم الثمن واشهد عليهم به في صك حرره كتابه الخاص عبد الله ابن مالك الأنصاري الخزرجي سنة إحدى وتسعين ومائة (806- 807).
وفي غداة كانت غرة ربيع الأول من سنة 192 هجرية (4 يناير 807) ورد إدريس لعين المكان ليختط الشوارع والأبواب على ضفاف وادي الجواهر، وقبل أن يأخذ بالمعول، رفع يديه إلى السماء في خشوع المسلم المؤمن يقول« اللهم اجعلها دار علم…» ووضع الحجرة الأولى للمدينة، ولكن كأنما وضعها لحي علمي دائم الحياة، فلقد ظلت منذ كانت « قاعدة بلاد المغرب وقطرها ومركزها وقطبها» إذ كانت ارض الميعاد لكثير من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والأطباء وغيرهم.
العدوتـــــــــان
ليست الأحداث السياسية وليدة اليوم، كما وليس الاضطهاد السياسي ظاهرة من الظواهر التي عرفها الإنسان في هذه الظروف، لذلك فلقد عرفت فاس منذ كانت لاجئين اتخذوا منها وطنا ثانيا فمنهم آلاف وردوا من الأندلس، ومنهم مئات وردوا من القيروان..وعني إدريس الثاني بضيوفهن فكان أول ما فعل أن خصص الجانب الشرقي للسادة الأندلسيين في فاتح ربيع الأول 192)4-1-807) فعرف بعد بعدوة الأندلس، ثم بعد نحو من سنة(1) أي في فاتح ربيع الثاني 193) 22- 1 – 809) خصص لإقامته هو مع فريق آخر من القيروانيين الجانب الغربي ونسب هذا الجانب من المدينة لهؤلاء السادة..وهكذا أصبحت فاس عدوتين: عدوة الأندلس، وعدوة القرويين…واقتضت همة إدريس أن يخلق من «الغيضة» عاصمة لدولته، فشجع الناس على التشييد والتعمير، ونودي فيهم أن سارعوا إلى إحياء الأرضين فإن كل من بنى موضعا أو اغترسه قبل أن يتم بناء السور المحيط بالعدوة كان له أن يتصرف فيه تصرف الملاك، وهو له من إدريس منحة »!
وتسارع الناس يتنافسون…وكان منهم رجل فاضل من هوارة (2)عني بقطعته وأصلحها فكانت خيرا وبركات عليه.
مسجـد فاطمـة
وكان في عداد المهاجرين التونسيين الذين التجأوا إلى فاس منذ أيام يحيى الأول الإدريسي، السيد محمد بن عبد الله الفهري القيرواني الذي توفي اثر وصوله، وترك ثروة طائلة لكريمتيه: فاطمة ومريم، فماذا تصنعان بها ؟ هل فركتا في أن تنميا ثروتهما عن طريق ما من الطرق ؟ لو فعلتا لأصبحتا في عداد الملايين الذين ذهب ذكرهم حينما غابوا عن هذا العالم، لكن تفكيرهما كان ساميا، وهكذا فقد حققتا مشروعا ظل إلى اليوم شاخصا ناطقا يرفع من شأن المرأة العربية إلى الأبد…لقد كثر الوارد على فاس، وأمسى الناس في حاجة إلى مسجد جامع كبير فإن مسجد الشرفاء بالعدوة الغربية، ومسجد الأشياخ بالعدوة الشرقية، كل منهما أضحى
لا يفي بحاجة الناس …فلتتطوع فاطمة أم البنين ببناء مسجد في تلك المنطقة…ولتقم أختها مريم بنفس المهمة في هذه المنطقة ولم يقع اختيار فاطمة إلا على الحقل الذي ورثه من أبيه ذلك الشاب الهواري، ودفعت فاطمة الثمن من مالها الحلال الطاهر، وأخذت تستعد للبناء في جزء من الحقل…وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، فعلى فاطمة أن تتحرى في البناء الوسائل النظيفة التي تبعد المسجد عن كل ما يشين، ولقد كان مما أدخل البهجة «دون شك» على قلب فاطمة أن وجدت بالمكان معدنا للحجر والرمل الأصفر، وعثرت إلى جانب هذا على بئر عليها، كان المسجد يعتمده طيلة سنواته الأولى…أن كل شيء هنا، فلتضف فاطمة إلى صنيعها هذا أن تصوم احتسابا حتى يتم البناء.
وكان الشروع في العمل في غرة رمضان 245 30 نونبر 859)
القرويين الأولى « 245 هجرية – 859 – 860 ميلادية»
وكان تصميم القرويين الأولى مربعا على نحو ما ينبغي، إلا أن تربيعه لم يكن تاما، فطوله من شرق إلى غرب مائة وخمسون شبرا، أي ما يعادل اثنين وثلاثين مترا وخمسة وعشرين سنتيما(3) : وعرضه من الجنوب إلى الشمال مائة والأربعون شبرا، أي ما يعادل ثلاثين ميرا وثلاثة وخمسين سانتيما فتكون مساحة المسجد: أربعة وثمانين وتسعمائة متر مربع تقريبا..لقد كان يتركب من أربع بلاطات تمتد أفقية من الغرب إلى الشرق، تنصب صومعته بالمكان الذي توجد فيه العنزة اليوم أعني بمؤخر الصحن القديم الواقع على حدود البلاطات الأربعة، أما المحراب فقد كان في «مقدم البلاط الذي يوجد أمام الثريا الكبرى اليوم».
هذه هي القرويين الأولى، وقد بقيت منطقة في شرقها وغربها وشمالها في عداد الأرض التي اشترتها فاطمة، بيد أنها ظلت عارية عن البناء، وفي الناحية الشمالية منها يقع بئر القرويين الذي يسميه سدنة البيت« البئر المغمور»…
نقـل الخطبـة إلـى القروييـن
والقرويين« ولو أنها أكثر مساحة من جامع الشرفاء» ظلت من\ تأسيسها مسجدا لإقامة الصلوات الخمس دون أن تقام فيه صلاة الجمعة،ذلك لأن الناس لم يكونوا من الكثرة بحيث يضطرون لاتخاذ القرويين مسجدا جامعا…لكن لما كثرت العمارات واتصل البناء في ارباض المدينة من سائر الجهات، فكر المسؤولون في أن يجعلوا من القرويين جامعا للخطبة…وهكذا فعلى اثر انهزام ابن أبي العافية أمام جيوش حميد بن سهل قائد عبد الله المهدي صاحب افريقية. وعلى اثر تنصيب حامد ابن حمدان الهمزاني عاملا على فاس من لدن القائد حميد سنة 3075919 – 920- أصدر العالم أمره بإقامة الخطبة بجامع القرويين بدلا من جامع الإشراف، ولم يكن ينقص القرويين لتصبح مركز خطبة كل جمعة إلا أن يصنع له حامد منبرا من خشب الصنوبر، ولقد كان أول أستاذ صعد منبر القرويين كخطيب هو الفقيه أبو محمد عبد الله الفارسي.
(1) ترى كتب التاريخ المتداولة أن بين العدوتين سنة واحدة، وأن مؤسسهما معا هو إدريس الثاني…ويرى الأستاذ الشهير ليفي بروفنصال« استنادا على وثائق فيها النقول العربية، ومنها بعض القطع النقدية» أن بين المدينتين عشرين سنة كاملة، وأن مؤسس عدوة الأندلس هو إدريس الأول بينما كانت عدوة القرويين من عمل إدريس الثاني…
(2) قبيلة تقع بين فاس وتازة .
(3) يتضح من خلال حساي بعض الأماكن التي ما تزال شاخصة منذ عصور الأولى أن الشبر الذي يقدر به المؤرخون يساوي واحدا وعشرين سانتيما ونصف السانتيم، فلا مجال إذا لاستشكال الأستاذين: الفريد بيل وركار.
المصدر : مجلة دعوة الحق العدد 9 السنة الأولى مارس 1958