رحلة العلامة عبد الله كنون إلى الحج – 2
تقدم مجلة Oulemag لقراءها الكرام الجزء الثاني من مقالة العلامة عبد الله كنون والتي يروي فيها جوانب من رحلته إلى الحجاز.
هذا وقد اجتمعنا في جدة بعالمين جليلين، طالما سمعنا بهما وتمتعنا بآثارهما، وهما الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي والأستاذ خير الدين الزركلي، أما الشيخ الميمني فقد هبط الحجاز حاجا مثلنا، وأما الأستاذ الزركلي فقد قدم من مصر للاتصال بالملك سعود، ومن المعلوم أنه كان مندوبا لجلالته لدى الجامعة العربية، وكنا علمنا بهذا التعيين ليلة سفرنا من أرض الوطن، فلما لقيناه هنأناه ورحبنا به، فوجدناه مبتهجا مسرورا، وتجاذبنا وإياه أطراف الحديث، وكذلك تحدثنا إلى الشيخ الميمني، أحاديث علمية مفيدة، وكانت سهرة ممتعة حقا في بيت السفير الكريم الأستاذ غازي.
وعلمنا أيضا بوصول صديقنا الأستاذ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، فابتهجنا بلقائه، وكنا إليه بالأشواق إذ كانت صلتنا به أيام مقامه في المغرب قوية جدا، فلما غادره إلى العراق منذ عشر سنوات ترك في أنفسنا فراغا لا يسده غيره.
وكنا نتوق إلى التعرف برجل جدة وفاضلها الشيخ محمد نصيف، فقد طالما حدثنا الصادرون والواردون عنه، ورأينا كثيرا من الكتب التي قام بنشرها انتصارا للدعوة السلفية وتمكينا لها في البلاد الإسلامية- ولكنه مع الأسف لم يكن في جدة آنذاك، بل سافر إلى الشام للاصطياف هناك، وقد قابلناه بعد في مصر عند سماحة مفتي فلسطين.
وفي مدة إقامتنا بجدة كان المطوف السيد عبد الوهاب الحريري ونجلاه السيدان محمد وعبد الرحمان يتصلون بنا، ويقضون لنا المهام، وعندما قر رأينا على السفر إلى المدينة المنورة بالطائرة – على خلاف ما أوصانا به الكثير من الحجاج وهو أن نسافر إليها بالسيارة -ويا ليتنا أخذنا بوصيتهم- اقتطعوا لنا تذاكر الطائرة كما عنوا بكراء المنزل الذي أقمنا به في منى. والسيارة التي صحبتنا بعد ذلك من جدة إلى مكة ومنى وعرفات، وقاموا بتهيئة جميع ما يلزمنا ليوم الوقفة، (وذلك بمعاونة رجال السفارة طبعا) فجازاهم الله أحسن الجزاء.
وقد أقمنا بجدة ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك فإنها كانت مليئة بالعمل والنشاط والاتصالات التي ذكرنا المهم منها، على أننا أصبنا فيها بمرض الزكام الآسيوي كما رأى القارئ، ولكن الله عز وجل رزقنا الإعانة والتوفيق وبارك لنا في تلك الأيام القلائل حتى أنهينا جميع أشغالنا وأصبحنا في فجر يوم الخميس٢٩ ذي القعدة- ٢٧ يونيه نمتطي الطائرة المتجهة صوب المدينة المنورة، وكان ركوبنا لها قبل الفجر بقليل وإن كانت هي لم تنهض إلا بعد الأذان الذي سمعناه من مسجد المطار (وفي المطار مسجد) ومجيء الذين صلوا الصبح في هذا المسجد من أهل البلاد ومن الذين كانوا يعرفون أن الطائرة لا تقوم إلا بعد الصلاة، وهكذا سرعان ما امتلأت جميع المقاعد التي كانت فارغة وحلقت الطائرة في الجو، وكنا نحن على وضوء، فمنا من صلى في مقعده ومنا من انتظر النزول في مطار المدينة حتى يصلي على الأرض ولو في آخر الوقت. لاسيما ومدة السفر أقل من ساعة، فما كان بأسرع من انتشار نور النهار في أنحاء الأفق، وإذا بنا لا ننزل إلا وقد أقبل النهار من هاهنا وهاهنا- وفهمت كيف وقعت قضية الوادي التي وردت في الحديث، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وصحبه الأكرمون على أهبة لصلاة الصبح فما أغفوا، وهم ينتظرون طلوع الفجر، إلا وقد ضربتهم الشمس! – … أن مابين الفجر هنا والشروق متقارب جدا. أليس هو الشرق؟ .. وهبطنا الأرض، وأي أرض هي؟! إنها الأرض التي انبعث منها شعاع الإيمان فأضاء ما بين المشرق والمغرب، إنها الأرض التي آوت رسول الله، فلم يبغ بها بديلا بعد، وكان يدعو الله أن يحببها إليه وإلى أصحابه من المهاجرين كحبهم مكة مسقط رؤوسهم أو أشد! إنها الأرض التي عرفت دعوة الحق فأيدتها وناصرتها وأصبحت دار الإيمان الأولى كما قال الله سبحانه وتعالى فيها ?وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ? هي المدينة بـ (أل) الحقيقية فلا مدينة غيرها، كما أنه لا مدنية (بفتح الدال) غير المدنية التي نشأت بين لابتيها! هي مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، مهبط الوحي، وموطن الجهاد، وقرارة العلم الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، هي المدينة التي تثبت في كل لحظة صلة الأرض بالسماء، وصلة ساكنها عليه السلام بالرفيق الأعلى، فأين منها مدن (الناطحين) للسحاب؟ ومدن المسفتحين (بالكلاب) ؟!
الله أكبر، هذا أحد، الجبل الذي يحب الرسول ويحبه الرسول، وهذه قبا، حيث المسجد الذي أسس على التقوى، من أول يوم! وهذه هي القبة الخضراء يعمرها النور، ويتغمدها الرضوان، وتحف بها ملائكة السماء!
هذه دارهم وأنت محب! ما بقاء الدموع في الآفاق؟
ودلفت بنا السيارة وكانت سيارة عمومية، تقل الزوار من مختلف بلاد الإسلام، جاءوا يمشون إلى ضوء هذا السيد الكريم الذي لا أكرم منه على الله، وهم على اختلاف طبقاتهم، وتباين مقاماتهم، كانوا في منتهى الأدب والخشوع، مستشعرين عظمة الحضرة التي يقصدونها، وهيبة المقام الذي يتوجهون إليه … وقطعنا المسافة بين المطار ووسط المدينة، في هذا الاستغراق الذي لم يكن يوشوشه إلا هذا السائق المرح، يترنم ببعض التوسلات تارة بعد تارة، ويدخن، التدخين في ذلك الظرف كان عندي من قلة الذوق إن لم أقل من سوء الأدب، ولكنه سائق المدينة، لابد من احتماله، ألم يكن يدخن ويتوسل؟
وغادرنا السيارة، وقصدنا إلى البيت الذي نزلنا فيه، ونحن في غمرة من الغبطة والسرور، والسعادة والحبور، بحيث ذهلنا عن أنفسنا فلم ندر كيف تناولنا ما قدمه إلينا رب مثوانا من طعام الفطور وقمنا نتجهز للزيارة الكريمة بتجديد الطهارة، ولبس أحسن الثياب وأوقره، والتطيب، وما هي إلا كلا ولا حتى كنا نقصد المسجد النبوي فهل هذه يقظة أم منام؟ هذا والمسجد الذي وضعت فيه أسس العلم الإسلامي كله، والعلم الإسلامي يعني هذه الحضارة الزاهية التي عاش العالم ولا يزال يعيش في ظلالها موفقا بين مطالب الروح والجسد وجامعا بين سعادة الدين والدنيا، هذا أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال لغيرها، ونحمد الله أننا لم نخالف عن هذا الأمر قط، طاعة الله ورسوله. هذا هو المسجد الذي الصلاة الواحدة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه، فتعال بنا نغتنم هذا الفضل العظيم ونصل تحية المسجد بهذه النية راجين القبول من المولى الكريم …
وانصرفنا إلى المواجهة الشريفة فلا أستطيع أن أعبر عما خامرنا من شعور الهيبة والإجلال لذلك المشهد العظيم ووقفنا كأنما على رؤوسنا الطير، وخشعت أبصارنا، ووجفت قلوبنا، وكانت لحظة بمثابة العمر، انطلقت بها ألسنتنا بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم ودعاء الله عز وجل أن يجزيه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته، ثم السلام على صاحبيه وخليفتيه، الصديق والفاروق رضي الله عنهما، ورجعنا بعدها إلى المكان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) نرتع بما يناسبه من دعاء وتفكر، وقراءة وتدبر، وصلاة، إلى أن صلينا الظهر وعدنا إلى المنزل.
وجاء للسلام علينا صديقنا الأستاذ الحاج محمد ابن اليمني الناصري، فآنسنا بزيارته وحديثه، ولم ينقطع عنا مدة عدة سنوات، فهنيئا له، وما تصلح تلك الأخلاق الطيبة إلا لطيبة المطيبة.
إذا لم تصب في طيبة عند طبيب به طيبة طابت فأين تطيب؟
كذلك زارنا نسيبه السيد محمد بن الطيب، وهو يشتغل أستاذا بمدارس الحجاز، وبقي يتردد علينا في المدينة وفي مكة ويأخذ بيدنا أخذ الله بيده، ثم لقيناه في مصر وهو يستعد للعودة إلى الوطن … ومثله أدبا وأخلاقا من يقول أنا مغربي في الشرق
وعاودني مرض جدة، أي هذه (الأنفلونزا) أو أنف العنزة كما يتوهم بعض الأطباء أصل الكلمة، والواقع أننا أجهدنا أنفسنا بالسفر قبل الفجر ثم الزيارة الطويلة التي مكثنا بها في المسجد قرابة أربع ساعات في زحمة عظيمة … ففي العشبية ثقلت عن الخروج وارتفعت حرارة جسمي إلى رقم غير عادي، وهكذا مكثت ثلاثة أيام بعد ذلك تحت العلاج، وتحامل الرفقاء على أنفسهم، وفي الحقيقة أنهم كانوا دائما أكثر صبرا وتجلدا مني، فخرجوا إلى المسجد وبقيت وحدي في المنزل، أداري الحمى والصداع ورشح الأنف، على أنني أشهد أنهم بقطع النظر عن مرضي كانوا دائما أكثر انقطاعا للعبادة وأقوم بنوافل الخير مني، على أنهم لم يلبثوا أن أصيبوا واحدا بعد واحد بنفس المرض واضطروا لمعالجة الطبيب والإقامة بالبيت كل على حسب منته، وضعف المرض أو قوته، جعله الله طهورا ومحص به من الجميع، وكنت أثناء مرضي استقبل الزوار الكثيرين، ما بين مغاربة وحجازيين، ممن لهم مخصصات معينة في مال الوقف الذي معي، وممن لا مخصصات لهم وإنما يؤملون أن تعمهم عطايا جلالة الملك على يد وفده الرسمي … فكان في مرضى الذي أوجب إقامتي بالبيت ما سهل علي إنجاز هذه المهمة بسرعة، ولم يحوج هؤلاء الزوار إلى تكرار الزيادة في حالة ما إذا لم يجدوني في البيت، وهكذا توصل الجميع بما ينويه في الحال، وانصرف رطب اللسان بالدعاء لمولانا الملك بدوام العز والنصر والتأييد.
والمغاربة المقيمون بالحجاز طبقات مختلفة، منهم – وهم الأكثر عددا – إخواننا الشناقطة المشهورون منذ زمان بحب المجاورة في البلاد المقدسة، وذلك لأنهم فضلا عن الشعور الديني الذي يجذبهم إلى المجاورة ينسجمون كثيرا مع طبيعة البلاد وأهلها، فلا يشعرون بفارق ما بين حياتهم في وطنهم وحياتهم في الحجاز … وهم كسائر المغاربة يفضلون المدينة على مكة، أليسوا مالكية؟ ومذهب مالك هو المشار إليه بقول خليل بن إسحاق (والمدينة أفضل ثم مكة) ولهذا فعددهم بالمدينة أكثر منه بمكة… على أنه فيهما معا كثير، ومن أجل ذلك كان رفيقنا الأستاذ السيد محمد بن عبد الرحمان العلوي الشنقيطي يحس هنالك كأنه بين أهله وذويه، فما يزال في زيارات متتابعة لهم، ولا تراه إلا مع رفقاء عديدين منهم.
ومن المغاربة المقيمين بالحجاز أفراد هاجر آباؤهم أو هاجروا هم منذ مدة طويلة وهم يعتبرون من الرعايا الحجازيين، كصاحب البيت الذي نزلنا فيه، وينزل فيه وفد الحج الرسمي كل سنة، وكالسيد محمد بن عبد الرحمان الوالي الفيلالي صاحب مدرسة التهذيب بالمدينة… وآل الوالي من الأشراف الأدارسة بتافيلالت، ويخطئ فيه الناس فينسبونه علويا على العادة في كل شريف جاء من تافيلالت، اللهم إلا أن يكون نسب الوالي هو الخطأ فتصبح علوية حينئذ، وهذا الرجل هو من أمثل المغاربة المقيمين بالحجاز إخلاصا ووطنية ويقوم بمهمة شريفة وهي التعليم… وقد استدعانا لبيته وزرنا مدرسته، وإن كان الوقت عطلة… وما أحرى هذه المدرسة بالمساعدة.
ومنهم أيامى كثيرات، توفى أزواجهن عنهن أثناء الحج أو بعد المجاورة زمنا، فلم يستطعن الرجوع إلى المغرب…. وهن يمثلن أكثر مدن المغرب ونواحيه، من فاس ومراكش والدار البيضاء والقصر الكبير وتطوان وغير ذلك، وحالتهن تدعو إلى الرثاء، فعسى أن يقع الاعتناء بإحصائهن كسائر المغاربة وتسهل لهن العودة إلى مسقط رؤوسهن أو تنظم لهن إعانة مناسبة في حالة ما إذا اخترن البقاء هناك.
وقد تكرر ذكر البيت الذي نزلنا فيه، ولم أشر إلى أنه البيت الذي كان يسكنه العلامة المحدث الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله مدة إقامته بالمدينة المنورة، وعلى ما قيل لنا أنه من أكبر البيوت القديمة، وهو على الطراز التركي، والطابق السفلي الذي كنا نازلين فيه عبارة عن قاعة طويلة ذات دكتين مفروشتين بالحشايا والوسائد عن يمين الداخل ويساره، في حين أن وسط القاعة مفروش بالكراسي، وفي أعلاه فتحة إلى السماء بمثابة الحلقة التي تكون في وسط الدار عندنا، وعليها قلع ينشر في وسط النهار بواسطة حبال متصلة به لاتقاء شعاع الشمس ويطوى فيما عدا ذلك وطلبا للتهوية. و ارتفاع هذه القاعة كبير جدا بحيث يساوي أعلى طبقة في المنزل، وقبل القاعة يوجد مقعد متوسط يستعمل كمحل للأكل، وليس في البيت حمام ولا دورة مياه عصرية، والماء ينقل إليه بواسطة سقاء، كما أن الاستنارة فيه وفي غيره من بيوت المدينة ما تزال بواسطة مصابيح الغاز. فالملاحظة العامة هي أن المدينة لم تحظ حتى الساعة بعناية كبيرة من حيث الإصلاح وإدخال وسائل الحضارة فيما عدا المسجد النبوي.
وأما المسجد فلا يستطيع أحد أن ينكر العمل العظيم الذي قام به الملك سعود في توسيعه وتجديده. ولو لم يكن له أثر في الحجاز إلا هو لكفى، و القسم الذي
الذي زاده الملك في المسجد رائع جدا سواء من حيث البناء أو الزخرفة، ولا مناسبة مطلقا بينه وبين القسم القديم، ومن محاسنه أن التهوية فيه كهربائية بطريق (الكندشين) بخلافها في القسم القديم فإنها فيه بطريق المراوح، وكم تسبب من أضرار للمصلين
وعلى كل حال فإن المسجد بهذا العمل قد اتسعت أرجاؤه وصار متعة للنظر زيادة على كونه متعة للروح … وكم يحلو للزائر الجلوس في بلاط من هذه الزيادة يعد الزيارة والصلاة، فيرى أفواج الزوار داخلين من أبواب المسجد العديدة، كل ولونه وسحنته ولغته، يحدوهم الإيمان ويدفعهم الشوق إلى المقام الشريف فيسلمون، ثم يأتون مشرقة وجهوهم مبتهجة نفوسهم، فيجلسون هنا وهناك مابين قارئ وداع ومستغرق في التفكير والاعتبار، حتى يرتفع هذا الصوت الملائكي، صوت المؤذن، ويا لله من مؤذن المدينة! إنه ذو صوت ليس في العالم أندى ولا أطرى ولا أعمق تأثيرا منه … وإنه، والله، حينما يرجع كلمات الأذان، ليخيل إلي أنه صوت منبعث من الجنة، وإن ما بيننا وبين العالم الباقي قد طوي، ونحن في باحات الخلد نرتع، حياك الله يامؤذن المدينة! وحفظ عليك هذه النعمة التي جعلتني أعذر من قرأ قوله تعالى ?يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء? بالحاء المهملة، إن كنت أنكر عليه هذا الإغراب!!.
فإذا أذن المؤذن ارتج المسجد وغص بالمصلين على سعته، ومضت هنيهة ليست من هذا العالم المادي في شيء، وكنت أتصوره صلى الله عليه وسلم مشرفا من عليائه ينظر إلى هذه الألوف المؤلفة، وقد تراصت صفوفها في الصلاة، فيبتسم فرحا بالمؤمنين من أمته، كما ابتسم في مرض موته وقد أطل من حجرته فسره ما رأى من إقبال الصحابة على عبادة الواحد الأحد جل وعلا، إن المغزى لهو ما عبر عنه البوصيري رحمه الله في داليته بقوله:
والمرء في ميزانه أتباعه فأقدر إذا أقدر النبي محمد
وهو ما أقام منه الفيلسوف الإنجليزي (كارليل) برهانا ساطعا على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن الدعوى التي لها هذا (ألما صدق) الخالد في واقع البشرية لا يمكن أن تكون كاذبة.
وجعلنا نتأهب لمغادرة المدينة، ونفوسنا لا تقوى على ذلك، ولقد أقمنا بها سبعة أيام مرت كأنها طيف خيال، وفي اليوم الذي عزمنا فيه على السفر وصل إليها صباحا سفير المغرب بالعراق السيد الحاج الفاطمي بن سليمان ووزير القصور والأوسمة الأستاذ محمد معمري الزاوي وصحبتهما سفيرنا بجدة الأستاذ غازي ومندوب وزارة الخارجية السيد عبد اللطيف العراقي … فقضينا اليوم جميعا في أنس وسرور، لم ينغصه علينا إلا تلاعب المزور الذي كان مكلفا بإحضار تذاكر الطائرة التي سننتقل عليها إلى جدة، فكان يرد علينا آونة بعد أخرى ويطمئننا على أنه يريد أن يحقق لنا وقت قيام الطائرة بالضبط حتى لا يطول انتظارنا بالمطار… و أخيرا لما ساورنا اليأس منه، جاءنا وقد أذن للمغرب فأعلمنا بأن الطائرة ستقوم حوالي العشاء فما علينا إلا أن نخف حالا للمطار.
وعرفنا أنه يريد أن يتخلص منا فقط، وذهبنا للمطار، فما راعنا إلا ندل المقاهي والمطاعم الشعبية التي حوله يعرضون علينا كراء أسرة للنوم نقضي عليها ليلتنا في الفضاء ريثما يحين موعد قيام الطائرة، وبتنا فعلا بالمطار، ولولا مروءة مديره الذي اتصل به بعض الرفقاء فتأسف لما وقع، وأكد لهم أن هذا من تهاون المزور، وأذن لنا بالسفر على الطائرة التي قامت بعد منتصف الليل بثلاث ساعات، لما كنا غادرنا هذا المطار إلا في ضحى الغد … وفكر في التعب الذي نلقاه والحر الذي نستهدف له، واحكم على معاملة هذا المزور الذي ما لقي منا إلا أكرم المعاملة وأجملها، ولقد قيل لنا إن الوفد في العام الماضي بقي يتردد على المطار ليلتين، ونحن لما وصلنا إلى المطار وجدناه غاصا بالركاب المنتظرين وقد باتوا كلهم هناك، وركب البعض منهم قبلنا وتركنا الباقين ينتظرون دورهم! هذا أمر يجب النظر فيه ونقص لابد من تلافيه.
عبد الله كنون، مشاهداتي في الحجاز، السنة الأولى، العدد السادس ، 1957