رحلة العلامة عبد الله كنون إلى الحج – 3

تقدم مجلة Oulemag لقراءها الكرام الجزء الثاني من مقالة العلامة عبد الله كنون والتي يروي فيها جوانب من رحلته إلى الحجاز عام 1957 أي مباشرة بعد استقلال المغرب.
وركبنا الطائرة إلى جدة في طريقنا إلى مكة المكرمة واحرمنا في الجو عند مسامتتنا للميقات، بعد أن أخذنا أهبتنا لذلك عند الركوب، ولما وصلنا، وجدنا السيد السفير في استقبالنا، وكان قد خرج بعدنا من المدينة المنورة بالسيارة، هو والرفقة الذين أتوا معه صباحا، فتصور كيف وصلوا قبلنا والمسافة بين المدينة وجدة بالسيارة لا تقطع في اقل من خمس ساعات؟ إن ذلك كله من عواقب الانتظار في المطار.
كنا نريد أن نستريح بالفندق الجديد الذي حجزت السفارة لنا فيه بعض الغرف، فلما وصلنا إليه وجدنا المكلف لا علم له بذلك الحجز، حسبما ادعى، وكنا محرمين فلم نشا أن نتناقش معه كثيرا في ذلك وذهبنا مع سعادة السفير الذي لم يكن يخفف عنا ما نلاقيه من هذه الصعاب إلا خلقه وبشره وحفاوته البالغة.
كان علينا أن نخرج هذه الورقة التي يسمونها ورقة المجاملة، لتسهيل التنقل في الطريق بين جدة ومكة وطريق عرفة وغيرها، فوجدناها عند السيد مستشار السفارة الحاج احمد الشرقاوي، كما وجدنا عنده رسائل الدعوة إلى المأدبة الرسمية التي يقيمها جلالة الملك سعود لوفود الحجاج من جميع البلاد الإسلامية مساء ذلك اليوم بمكة، ولم يكن من الممكن حضور هذه المأدبة، وانم أكد عاينا المستشار في ذلك، فقد خرجنا من جدة عشية، بعد أن خفت حرارة الشمس شيئا ما وتعرضنا في الطريق لكثير من التوقفات عند مراكز الشرطة المتعددة، بحيث قضينا في هذه الرحلة ساعتين كاملتين، والمسافة لا تتعدى سبعين كيلومترا، والسبيل معبدة كأحسن ما يكون.
ومن غريب ما وقع لنا في احد مراكز الشرطة هذه أن سألنا الشرطي: بكم اكتريتم هذه السيارة؟ فقلنا له مائة ريال سعودي، فانزل السائق وجعل يوبخه، ثم قال لنا: لا تدفعوا له إلا ٣٦ ريالا بواقع سنة اريلة للنفر، يعني ٣٦٠٠ فرنك، مبلغ منخفض جدا لكراء سيارة خاصة بين مدينة وأخرى على المسافة التي ذكرنا، ولو كانت أسعار الحاجيات في الحجاز والكراء والخدمات العامة كلها بهذه التقدير، وخضعت للرقابة الصارمة، لصار الحج من أسهل ما يكون على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي لا يستطيعه منها إلا من استنفد غاية جهده، وانفق كل ما عنده ليلبي نداء ربه ويرضى شعوره وضميره، فمتى ينقضي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، أو يقف عند حد معقول، ولا سيما المسلم للمسلم، وخاصة في الأمور الدينية.
وهنا نذكر استغلال شركات السفر عندنا والنقل الجوي والبحري والبري، والاثمان الباهظة، التي تتقاضاها من الحجاج، والتلاعب الذي تقوم به البواخر بالخصوص في تأخير مواعد الرجوع، لتستغل الوقت في تنظيم سفريات من جدة لليمن أو غيره من الأقطار الأخرى، على حين أن الحجاج المغاربة ينتظرون الرجوع إلى بلادهم بفارغ الصبر، وقد اخذ منهم الضعف والعياء كل مأخذ، فهل أن الأوان لقيام المسؤولين بواجبهم في هذا الصدد، وقطع الطريق على كل مستغل مستفيد حتى على حساب الشعائر الدينية والمؤمنين القائمين بأدائها، فينفرج الخناق على الناس، ويشعروا بأنهم في عهد غير العهد البائد الذي لم تكن تستغرب من رجاله هذه الأعمال؟ …
وكان وصولنا إلى مكة المكرمة عند الغروب، ولم نعامل السائق طبعا بما طلب إلينا شرطي المركز، كما أننا لم نتردد فيما يجب علينا البدء به، ولم نقل ما قاله جريح، (رب! أمي وصلاتي؟) بل ذهبنا توا إلى البيت الحرام، وطفنا وسعينا وأحللنا من عمرتنا، ثم جئنا إلى رباط المغرب الذي هو محل نزول الوفد، وهناك.
التقينا برجال السفارة الذين حدثونا عن المأدبة الملكية وما لقوه فيها من بر وإكرام.
ورباط المغرب هذا هو بيت مكون من ثلاث طبقات ويقال انه مشترك بين أقطار إفريقيا الشمالية الثلاثة، فينزل وفد كل قطر منها في طبقة منه، وفي هذا العام كان نزول الوفد المغربي وأعضاء السفارة في الطبقة الأولى المخصصة للمغرب، مدعاة للتضايق، ذلك أن هذه البناية، فضلا عن كونها قديمة وفاقدة لكل أسباب الراحة من حمام ودورة مياه ومطبخ، فإنها صغيرة، وليس في الطبقة التي كنا بها غير غرفة متوسطة بداخلها بيت صغير للنوم، يسع سريرين اثنين لا غير، ثم بيت سفلي تابع للطبقة الأولى، وأحسن ما في هذا الرباط هو قربه من الحرام، وكونه منورا بالكهرباء.
إنما نصف المنازل التي حللنا بها هنا وهناك، لتتير اهتمام حكومتنا بالأمر، فانه من الأكيد، بل الواجب، أن تقوم الحكومة المغربية ببناء بيوت مشرفة في مكة والمدينة ومنى، ينزل فيها وفد الحج المغربي، ويستقبل فيها الزوار من مختلف الأقطار الإسلامية، فانا كنا نخجل من استقبال أية شخصية مهمة في أماكن نزولنا هذه، ولا نجرؤ مطلقا على استدعاء احد لتشريفنا في هذه الأماكن، ولا ندري كيف كان يفعل أعضاء الوفود التي سبقتنا …
وقد وجدنا الحجاج المغاربة الذين جاؤا بطريق البحر في مكة، والتقينا بكثير منهم، وكلهم يذكرون أن السفر كان مريحا بل ممتعا، وكان من بينهم وفد وزارة الداخلية المركب من السادة المختار بن قليلو، واحمد العبدي، والخليفة ابن الأحمر، ومبعوث الإذاعة السيد عبد اللطيف الغربي، ورئيس البعثة الصحية الدكتور مأمون الفاسي، وهم جميعا من الشبان المهذبين ذوي الأخلاق الكريمة، وقد قضوا معنا أياما لا تنسى.
ومن الغد صلينا الجمعة بالحرم الشريف، وكان مشهدا عظيما جدا، عظيما بروعته، وجلاله، عظيما بمن شهده من هذه الخلائق التي يخطها العد، ولا يستوعبها الوصف، عظيما بالخطاب الجليل الذي ألقاه إمام المسجد الحرام منوها بحكمة الحج، وداعيا المسلمين إلى التمسك بعروة الدين الو ثقي، عظيما بهذه الصلاة تجاه الكعبة حيث لا شرق ولا غرب ولا شمال ولا جنوب، وإنما هو كفاح وعيان لا يحتاج معه إلى دليل أو برهان على صدق قوله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) . وقد أتيح لنا أن نشاهد هذه الأمواج المتلاطمة من البشر، من المكان المشرف الذي هيأه لنا السيد احمد الزمزمي، وهو ملاصق لبيته، فرشه بالبسط، وأدلى لنا من نافذة بيته مروحة كهربائية، وكان يتعاهدنا بماء زمزم في آنية نظيفة، ولم يكن معنا فضلا عن الشخصيات المغربية التي ذكرناها من قبل، إلا أخ هندي من أعيان بلاده فكنا موضع غبطة من الجميع الذين مروا أمامنا، وكم كان من الدين لا يجدون أين يجلسون، يهمون بالإيواء إلينا فيردهم الخدم الذين كلفهم السيد الزمزمي بنا، ونخجل نحن ونستغفر الله من هذا التميز الذي لم تكن لنا فيه يد، ولم يكن منه بد، خصوصا وان المحل لا يتسع لأكثر ممن هم فيه.
وكنت اقرأ عند الفقهاء، جواز السجود عند كثرة المصلين كيفما تأتي، ولو أن يسجد بعضهم على ظهر بعض، فكنت استبعد ذلك حتى رايته هنا، وكم كان عجبي شديدا، حينما سلمنا من الصلاة، ونظرت فرأيت الناس يطوفون بالكعبة، لا ادري أصلوا معنا أم هم يطوفون من قبل؟ ..
وخرجنا يوم السبت، وكان هو يوم التروية، على منى محرمين بالحج، فمكثنا بها حتى صلينا الصبح من الغد الذي هو يوم عرفة، وكان نزولنا في البيت الذي اكتريناه بواسطة المطوف ومعرفة السفارة، وهو بيت قديم كان ملكا للأمير منصور آل سعود، ولكنه الآن متهدم وأرضه تراب لا بلاط لها، ونوافذه وأبوابه لا مصاريع لها، أو لها مصاريع مكسرة، وبالجملة فهو عبارة عن هيكل بناية قديمة، ومع ذلك فقد كان ثمن كرائه مليونا وخمسين ألف فرنك، لثلاثة أيام أو أربعة هي أيام منى، فانظر كيف يرتفع مستوى الحياة في الحجاز أيام الحج! ومن هنا قلنا لا بد من بناء بيت مغربي مستوف لأسباب الراحة في كل من منى ومكة والمدينة، ينزله الوفد، فانه فضلا عما في ذلك من محافظة على سمعة الوطن وصحة المواطنين، فيه أيضا اقتصاد كبير.
ومنى قرية ناشئة اعني من ناحية العمارة، فقد دب إليها الإصلاح والبناء، وطرقها نظيفة وحسنة، وبها فندق جميل احتكره هذه السنة الحجاج الباكستانيون، وبها بناية للمؤتمر الإسلامي العام من أفخم ما يكون، ولم ينعقد هذه السنة، وعلى ذكر هذا المؤتمر فقد لقينا صديقنا الأستاذ سعيد رمضان الداعية الإسلامي المعروف، وقد دعا إلى مؤتمر انعقد بمكة بعد الفراغ من أعمال الحج، وكنا حينئذ بجدة فلم نستطع حضوره جميعا وحضره الأخ الأستاذ إبراهيم الكتاني.
ومسجد الحيف المشهور بمنى، مسجد قديم وله صحن كبير مكشوف، أما بلاطاته المسقفة فيستحيل وجود محل فيها لداخل بقصد الصلاة مثلنا، فقد احتله فقراء الحجاج من كل قطر وجنس، ومعهم أتقتلهم وأدواتهم، وصار الواغلون فيهم من غير طبقتهم متطفلين غير مرغوب فيهم.
والجو بمنى اشد حرارة من مكة … على أننا وجدنا مكة ألطف جوا حتى من المدينة خلافا للمعهود فيها، وقيل لنا أن الوقت الذي كنا فيه بالمدينة هو اشد أوقاتها حرا، لأنه مرسم النمر الذي يدرك فيه ويتم نضجه.
لقينا بمنى كذلك الأستاذ احمد توفيق المدني ورفاقا له من جهة التحرير الجزائرية، والأستاذ عبد الحكيم عابدين من الإخوان المسلمين، وحجاجا مغاربة كثيرين رجالا ونساء كنا نتفقدهم في أماكن نزولهم وننظر هل بهم من حاجة؟ …
وذهبنا إلى عرفة ضحى يومها، وهو يوم الأحد ٩ يوليوز، وكان السير منظما كأحسن ما يكون التنظيم مع كثرة الذاهبين مشاة وركبانا، وإرسال السيارات لا حد لها، والطريق معبد كأحسن الطرق في المغرب، وشرطة المرور قائمة بواجبها في انتباه عظيم، ومما تجدر الإشارة إليه أن سيارة كانت أمامنا سنحت لها فرصة للسبق، فأراد سائقها أن يغتنمها، فما كان من الشرطي اليقظ إلا أن استوقفه وأمره بالنزول، ثم علاه بالسوط وحكم عليه بالوقوف مدة بحيث بقي متأخرا … ولم نقض في الطريق إلى عرفات إلا نصف ساعة، في حين أننا بعد الوصول بقينا ساعة ننتظر العثور على مكان تخييمنا.
كان المطوف قد هيا لنا كل ما يلزم، واحتفل في ذلك غاية الاحتفال، فنصب لنا سرداقا فخما وفرشه بأحسن ما لديه من الفرش، واعد لنا من الطعام والماء والثلج فوق الكفاية، وكان اليوم ظليلا رحمة من الله بوفوده اللاجئين إليه الطامعين في مغفرته، فلا تسل عن روحانية ذلك الموقف والأنس والإشراق والطمأنينة التي غمرت النفوس وأثلجت الصدور ..
آوى إلينا بعض الإخوان الذين زاد بهم سرورنا، ومنهم الأستاذ سيدي التهامي الوزاني الذي لقيناه أول مرة بالمدينة المنورة، وكذلك جوق المطربين الذي صحب حجاج الباخرة، فأمتعنا بإنشاد بعض الامداح النبوية … ولا اكتم القراء أنني منذ نشأت وأنا أتمنى حجة يصحبنه فيها بعض هؤلاء المنشدين، للتملي بالانشادات الدينية، فها هي ذي أمنيتي تتحقق بفضل محمد الخامس أدام الله وجوده.
ومن الغريب أننا في حالة الإنشاد هذه، ـ استلفتنا أنظار الناس، وجاء بعض المراقبين من جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقوم بواجبه، ولكنه لما سال عن هذا السرادق، ورأى الراية المغربية ترفرف فوقه وقيل له انه (أمير) الحاج الحاج المغربي، رجع عوده على بدئه ولم يقل لنا شيئا، فهل اطمأن إلينا أننا لا نفعل منكرا واحترام الصفة الرسمية التي للوفد؟ .. وعلق بعض الإخوان قائلا: كيف لم ير حضرة المراقب المجلات المتعلقة قبالة المسجد النبوي، وعلى غلافاتها صور الراقصات الخليعة، وسمع صوت المنشدين للامداح النبوية هنا؟ …
وبهذه المناسبة اذكر، ولو للفكاهة، أن احد الأصدقاء الكتبيين، اخذ مني ذات مرة نسخا من (مورد الشارعين) شرح (المرشد المعين) لوالدي رحمه الله، وشرح الشمقمقية، ثم ما لبث أن رجع إلى واستقالني من شرح المرشد قائلا: انه يحرم بيعه لما فيه من تقرير للعقائد على مذهب الاشاعرة، وهو كفر … فقلت له: لعل فلانا كان عندك اليوم ورأى الكتاب؟ فقال: نعم.
وفلان هذا الذي ذكرته له، هو احد أصدقائنا من أئمة العلم والدين السلفيين، وكان له على صديقنا الكتبي المذكور تأثير وأي تأثير في إنقاذه مما كان عليه من الأفكار الخرافية، التي لم نستطيع نحن أن نحوله عنها مدى السنين الطويلة، لصداقتنا المبتدئة بزمن الدراسة.
فقلت لهذا الصديق: كيف يكون الكتاب الذي فيه هذا البيت:
وجوده له دليل قاطع * حاجة كل محدث للصانع
الخ حرام البيع، والكتاب الذي فيه هذا البيت:
تمنع مس جسمها لثوبها * ثلاثة مثل الاتافي في الرقي
الخ حلاله؟ .. فلم يقبل نقاشا في الموضوع، كما كان قبل لا يقبل منا نقاشا فيما كان عليه من طريق، وأنا لا أدافع عنا عن عقيدة الاشعرية، فعقيدتي والحمد لله سلفية خالصة، ولكني أنكر هذا الغلو، (ولكل وجهة هو مواليها فاستبقوا الخيرا) .
ولجا إلينا وسط النهار رجل من، عليه سيما الوجاهة ولونه يضرب إلى السواد، فطلب منا أن يستريح عندنا قليلا … وكان اثر الإجهاد والتعب باديا عليه، فبقي مدة لا يستطيع الكلام ولا يتنفس إلا بصعوبة، فباشرناه وسقيناه وأسعفناه بالثلج على رأسه حتى استرجع قوته، واخبرنا انه من تجار السودان، وانه ضل عن رفقته، فأصابه ما أصابه أثناء البحث عنها، ولما رأى هذا السرادق العظيم، أيقن انه لأناس أفاضل، فلجا إليهم وقد عزمناه، ولم نتركه يذهب إلا في أواخر النهار، وبعد أن حضر بعض رفاقه،. ولما أراد الانصراف دفع إلينا بعض الأوراق المالية، جزاء ضيافتنا له، فأخبرناه أننا لم نفعل معه إلا ما توجبه الإخوة الإسلامية والمروءة، وإننا مسرورين بهذه الفرصة التي أتاحت لنا التعرف باخ سوداني فاضل مثله وخدمته، إحدى فوائد الحج، واجتماع المسلمين من شتى أقطار الأرض في هذا الصعيد المبارك، وكفانا ما سمعناه من الثناء والشكر فذلك أعظم الجزاء.
وإنما ذكرت هذه الحادثة تنبيها إلى ما يتعرض له الحاج من الخطر حينما يتيه في هذا الخصم الهائل من البشر، فان الكثرة من الذين أصيبوا بضربة الشمس، إنما وقع لهم مثل ما وقع لهذا الحاج السوداني، وإذا كان أصحابنا إنما اهتدوا لموضوع التخييم الذي يعرفونه كل المعرفة بعد ساعة من الزمن، كما اشرنا لذلك، فكيف يهدي الغريب إذا ضل عن مكانه وسط مآت الألوف التي ترتدي ثوبا مماثلا، وتأوي إلى خيم مماثلة؟ على أن الحكومة قد أقامت مراكز للارشاد، وقسمت مكان الوقوف من الجبل إلى مناطق، واتخذت وسائل
كثيرة لتيسير الاتصال وتوفير أسباب الراحة، ومن أعظمها وجود الماء بكثرة لا مزيد عليها في كل منطقة، ولولا ذلك لما كان الموسم سالما بالنسبة لقلة عدد الإصابات، خصوصا وقد كان عدد الحجاج في هذا العام حسب الإحصاء الرسمي مليونا وثلاثة آلف وبضع مآت، مما نظن انه لم يتقدم له نظير منذ فرض الحج في الإسلام، فقد كان أقصى ما يصل إليه عدد الحجاج ستمائة ألف نسمة، وجاء في بعض الأحاديث أن الله عز وجل يتكفل بإكمال هذا العدد من الملائكة أن لم يكمل من البشر.
قيل لنا أن السبب في كثرة الحجاج هذا العام، أن الملك سعود أذن لكافة قبائل العرب من نجد بالحج، وكان قبل لا يؤذن لهم إلا في نطاق محدود، وربما كان ذلك لما شاع من المخاوف حول طريق الحج البحرية، بسبب حوادث خليج العقبة، فغلب الظن، أن الحجاج من الخارج سيكونون قلة في هذا العام، وعليه فالكثرة الكائرة من هذا العدد كانت من الداخل .. وهو شيء ملحوظ في السحن والهندام والسلوك …
وقبل الغروب اجتمع إلينا كثير من الحجاج المغاربة، وقضينا ساعة الوقوف في التلاوة والذكر والدعاء، وكان الدعاء لجلالة الملك وللمجاهدين الجزائريين ولشعوب الإسلام كافة من أكثر ما انطلقت به الألسنة، وأحر ما تدفقت به القلوب، ثقبله الله، وكانت ساعة خالدة ليست من هذا العالم الفاني في شيء، وإنما هي سمو بالروح وبالنفس وبجميع المشاعر إلى الملا الأعلى، ونسيان للذات، وطهره من جميع الرعونات، ومقام الإحسان الأول الذي يمن الله به على عباده المتقين، وهو الذي قال فيه النبي (ص) لجبريل (أن تعبد الله كأنك تراه) فلا حرمنا الله منه دائما.
ودفعنا بعد ذلك إلى المزدلفة، فقل في هذه البحار المتدفقة، ولا أقول الأمواج المصطفقة، من المؤمنين المخلصين، الذين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمة الله ويطلبون ثوابه، فكنت ارمي ببصري ذات اليمين وذات الشمال، فلا ينفذ البصر إلى آخر الكتل البشرية التي هي أشبه بغابات من الشجر تتحرك، وهذا زيادة على قوافل السيارات التي تزاحمت عرضا ما وسعها التزاحم، وأما طولا فلا يدرك لها البصر أولا ولا آخرا، على أن هذا ما هو إلا طريق واحد من عدة طرق فتحت هذا العام، كما قيل لنا إلى عرفات … وصلينا المغرب والعشاء بالمزدلفة، والقطنا حصى الرجم، وكان منظر المشعر الحرام وقد أنير بالمصابيح الكهربائية العديدة من أجمل المناظر.
وفي صباح يوم العيد، قمنا بالأعمال التي يطلب منا القيام بها في منى، ثم توجهنا إلى مكة فطفنا طواف الإفاضة، وسعينا، وأحللنا من حجنا الإحلال الأول، ثم عدنا بمنى ورمي الجمرات.
ورمي الجمرات بمنى مشكلة من المشاكل، مع هذا الازدحام الشديد الذي لم تشهد منى مثله قط، ومع الحر الشديد الذي لا يتحمله مثلنا من سكان المناطق الباردة أو المعتدلة، ومع أن وقته المفضل هو الزوال قبل صلاة الظهر، فكيف يأتي فعله على الكيفية المطلوبة من الوقوف أمام الجمرة الأولى والثانية والدعاء عندهما الخ … اللهم أن أحدا لم يكن يستطيع أن يقف ولو رمشة عين عند إحداهما، ولم يكن له يرمي إلا بمشقة عظيمة تكاد تزهق فيها النفس … والعجب أن الرمي يبدأ بأثر صلاة الصبح خلافا للوقت المقرر في ذلك، ويستمر إلى الغروب، ولم ندر هنالك مستند الذين يرمون صباحا، فقلنا لنهم ربما قاسوا ارمي أيام التشريق على الرمي يوم الأضحى الذي رخص فيه النبي (ص) للنساء فجرا وان كان وقته المفضل هو الضحى، وقلنا أنهم ربما ترخصوا في تقديمه استنادا لحديث (فما سئل النبي (ص) يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج) ولكن هذا في يوم النحر، والتخصيص واضح بقوله (يومئذ) واستبعدنا أن تكون هذه العوالم كلها على ضلال، وهممنا أن نقتدي بهم، ثم عرضت لنا الآية (ولا تقف ما ليس لك به علم) ولم تكن معنا كتاب أصول، فلزمنا ما نعرف واعرضنا عما لم نعرف.
ثم بعد الرجوع والمرجعة، وجدنا أن القول بجواز ذلك، أي الرمي أيام التشريق منقول عن عطاء وطاووس ولا مستند لهما، وان الحنفية رضخوا فيه يوم النفر فقط.
وخطر لي أن الناس ربما كانوا يتطوعون بذلك، ولكن هل يجوز التطوع بما لم يسنه الشارع؟
وذهبنا في صباح اليوم الأول من أيام التشريق اعني يوم ثاني العيد، لتهنئة جلالة الملك سعود بعيد الأضحى في قصره بمنى … واكترينا سيارة أجرة لا تحمل علامة كالتي كانت معنا بمائة ريال سعودي اعني بما يساوي ١٠٠٠٠ فرنك لمدة لا تتجاوز ساعة من الزمن، فليت شعري لو علم شرطي المركز بطريق جدة ماذا كان يفعل بصاحبها؟.
لما وصلنا إلى القصر، أخذنا إلى صرادق عظيم كان منصوبا بالفناء، وفيه وفود من مختلف البلاد تنتظر خروج المهنئين الذين سبقونا، فانتظرنا معهم، ركان هناك رجل تظهر عليه سيما العمل وبيده أوراق لم يلبث أن نطق بكلمات كالخطاب، نوه فيها بالملك سعودي حامي الحرمين الشريفين ومحي السنة والمحافظة عليها حتى في لبس العقال وتوفير شعر الذقن، فلم اشعر أن قلت له أن النبي (ص) لم يلبس العقال، وليس هذا من أمور السنة، العقال بقوله: (ولا المقصب)
العقال بقوله: (ولا المقصب) وهو المذهب، يعني تلك الجيب ذات الخطوط المذهبة التي يلبسها الوجهاء في الحجاز.
وأذن لنا بالدخول واستقبلنا جلالته بغاية الحفاوة، وأجلسنا بجانبيه وبقية الوفود فيما يلينا، والقي الأستاذ سعيد رمضان خطابا نوه فيه بالملك سعود وجهوده في نصرة الإسلام، واستنجد به لإنقاذ فلسطين وإغاثة لاجئينا المنكوبين .. ثم ألقى شاعر من اندونيسيا اسمه السيد عبد الله حنون، بالحاء مهملة، قصيدة بليغة في مدح جلالته، وقدمت القهوة والمشروبات المبردة، وانصرفت الوفود لتقدم وفود غيرها.
وهناك قدمنا هدية جلالة ملكنا المحبوب لأخيه الملك سعود، وهي عبارة عن زريبة عظيمة بديعة الصنع من شغل المغرب، وكنا في المقابلة الأولى ما زلنا لم نتوصل بها، لأنها لضخامتها لم نصحبها معنا في الطائرة، وإنما حملتها باخرة الحجاج فوصلت بعد وصولنا.
وفي المساء ذهبت أنا والسيد السفير إلى تهنئة وزير المالي السيد عبد الله بن مسرور الصبان، وقدمت له صلة جلالة الملك المعهودة للحكومة السعودية، وكان جالسا بفناء بيته المجاور لمسجد الخيف، يتقبل التهاني، فوجدنا هناك شاعرا من الأردن، ألقى قصيدة في مدحه، دارت كلها حول (المالية) ووزيرها.
وأقامت السفارة بعد الغروب حفلة شانقة بمناسبة تنصيب سمو ولي العهد المعظم الأمير مولاي الحسن، شارك فيها المغاربة وحضرها رؤساء الوفود واعيان الحجاج، وتوجهت في الأخير بحضور سمو الأمير محمد بن الملك سعود، ولم يكن يدور الحديث أثناءها بيننا وبين الزوار إلا عن المغرب وعظمة جهاده وتضحية جلالة الملك وبطولة ولي العهد، مما كان يثير إعجاب الجميع ويرفع رأس المغرب عاليا بين بلاد الشرق والغرب، ويجعله مفخرة العرب والمسلمين.
وتعجلنا في يومين، فأصبحنا يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة مولين وجهنا شطر مكة، حيث انهينا جميع العلاقات، وطفنا طواف الوداع ولم نبت إلا بجدة، في الفندق الجديد الذي حاول المكلف به أن يراوغ مرة أخرى في عدم العلم بالغرف المحجوزة لنا، فبعثنا إلى المكلف الذي كان موجودا حال الحجز، فاعترف وحلت المشكلة، ومن الواجب أن نقول أن هؤلاء المكلفين ليسوا بحجازيين، وإنما هم سوادين، وكذلك جميع الخدم في الفندق وفي غيره، ولذلك لا يستغرب منهم هذا التبلد … على أنهم في خدمة والخضوع جاوزوا حد المعهود، أو ذلك هو المعهود من جنسهم.
جلسنا في جدة ننتظر جواب الملك سعود عن رسالة جلالة الملك، وفي اليوم الثاني مساء وصلنا هذا الجواب مع الهدية الملكية، ولذلك أخذنا أهبتنا للسفر، فوجدنا لحسن الحظ، أن الطائرة إلى بيروت ستقوم عصر اليوم الثالث أي يوم ١٤ يوليوز ١٩٥٧ – ١٣ ذي الحجة ١٣٧٦ وفيها أماكن فارغة لنا جميعا، فقطعنا التذاكر، وأصبحنا في ذلك اليوم نواجه مشكلة صرف العملة السعودية التي بقيت بأيدينا، وهي مبلغ وافر، وكنا نظنها من السهولة بمكان، فإذا بالأمر على خلاف ذلك.
ذهبنا إلى البنك، فاخبرنا المكلف انه لا يمكن أن يصرف إلا بإذن حكومة، وسألنا عن الصرف في السوق الحرة فإذا به ٦٠ فرنكا للريال السعودي مع العلم بان البنك المخزني المغربي صرفه لنا يوم ٩٣ فرنكا، فالخسارة إذن ٣٣ فرنكا في الريال، وربما كانت أكثر، إذا علم الصيارفة بالمبلغ الكبير الذي عندنا.
ولجأنا إلى مكتب النقد، وعرضنا عليه المسالة. فاظهر استعداده لمساعدتنا، حيث علم إننا وفد رسمي، ولكن بشرط إحضار شهادة من البنك الذي صرفنا عنده المبالغ المالية الخاصة، والوقفية التي أحضرناها معنا، فرجعنا إلى البنك وأخذنا منه الشهادة المذكورة، وأدلينا بها لدى مدير مكتب النقد، فامر بإعطائنا تصريحا إلى البنك بصرف المبلغ الفائض لدينا بالفرنك المغربي لا غير، بالسعر الرسمي الذي هو ٨٨ فرنكا للريال …
وهكذا رجعنا إلى البنك مرة ثالثة، ووجدت المدير بالباب منصرفا إلى حيث لا يعود يومه ذلك، فأظهرت له التصريح فأمضاه ودخلنا عند المكلف، وهو مغربي الأصل من الأسرة الناصرية، فاعد لنا حوالتين إحداهما بالمبالغ المالية الخاصة بنا، والأخرى بما يخص الحكومة … وكانت الصعوبة عظيمة في عد الأوراق المالية السعودية، وقد سبق أن قلت أن اكبر ورقة فيها هي التي من فئة عشر اريلة، فاجتمع عليها ثلاثة موظفين حتى أتوا عليها عدا، وما كادت تنتهي هذه الأعمال حتى جاء وقت السفر فانصرفنا من البنك رأسا إلى المطار.
ولا بد أن أشير هنا إلى أن هذا البنك هو بنك الهند الصيني، فهو أجنبي عن البلاد ومع ذلك فان جميع موظفيه عرب، سمر الألوان، يرتدون القميص ويلبسون الطاقية، ما عدا واحدا رايته بالطابق العلوي لما قابلت المدير، وهم يقومون بجميع أشغال البنك على أتم الوجوه، وبالعربية، بل وبالأرقام الهندية أيضا، فليت شعري كيف يعمل موظفو الإدارة المركزية للبنك في مراقبة حساب هذا الفرع وتصديق أشغاله؟
فهذا هو الاستقلال الذي نريده لبلادنا، وعدم التبعية التي نتغزل بها.
ومثل هذا يقال في جميع المصالح الحكومية بالبلاد العربية السعودية، فمثلا الجامعة السعودية التي وجدناها حديث جميع الأندية هناك، وفي بلاد العربية التي زرناها من بعد، وقد فتحت في أول هذه السنة الدراسية الحالية، لم يستجلب لها أساتذة أجانب غير عرب، فيعمل من أول يوم على تعجيم التعليم العالي، ولا ألقيت مقاليدها بين أيدي عمداء أجانب بل جعل على رأسها رجل عالم مؤمن يحظي بثقة العالم الإسلامي والعربي معا، وهو الدكتور عبد الوهاب عزام … وهكذا يلحظ الفرق بيننا وبينهم واضحا في الإتجاه والشعور، مع أننا ربما كنا أغنى بالكفاءات التي لا تحوجنا-على الأقل- في أعمال الإدارة والتسيير إلى مديرين أجانب لمؤسسات يعتمد عليها في بناء كياننا والتمهيد لمستقبلنا.
وقد أوشكت أن أضع القلم، ولم اقل عن الحالة الاجتماعية في الحجاز عموما، على ما شاهدت في هذه الأيام القليلة، والتي تغلب عليها صفة الموسمية، فلا تظهر ملامح البلاد الحقيقة من خلال تلك الصفة. وعلى كل حال فقد اشرنا إلى الحركة العمرانية القائمة على قدم و ساق، واشرنا إلى الإصلاح الذي ادخل على المسجد النبوي، ونشير إلى أن إصلاحا آخر نضيره، يباشر بالمسجد الحرام، وقد تم منه تسقيف المسعى، فأصبح مضللا يحمي الساعين بين الصفا والمروة من وهج الشمس وحمارة القبط، وجعل فيه حاجز بين طريق الذهاب والإياب، يحول دون تصادم الساعين، وبحسب ما رأينا فان هناك أروقة عظيمة ما يزال العمل فيها قائما، ستضاف إلى المسجد ويصير المسعى حينئذ داخل أسوار الحرم.
كما أضيفت إلى عين زبيدة بمكة، العين العزيزة وبذلك غزرت المياه في الحرم المكي الشريف كذلك فان أعمالا عظيمة تجري بخارج المدينة، قصد توفير المياه بالحرم المدني أيضا …
والنهضة العلمية بالحجاز على حسب ما علمنا، تتقدم كل يوم، ولا سيما في عهد الملك سعود فقد أسست في السنة الأخيرة مدارس قد فتحت أبوابها في الرياض عاصمة المملكة .. وهناك معاهد أبحاث مختلفة، سمعنا عنها، ومدارس للقضاء الشرعي بمكة وغيرها.
والصحافة راقية هناك، ما بين جرائد ومجلات، وما رأينا منها لا يقل عن نظيره في بقية البلاد العربية، والسينما لا وجود لها، على أننا سمعنا أن دور الكبراه أكثرها يتوفر على شاشة بيضاء خاصة.
والمرأة ما تزال متحجبة حجابا شديدا، وتعليم البنات ما يزال غير مسموح به رسميا، وسمعنا انتقادات كثيرة على هذه الجمعية المسماة بجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر … على أننا لم نسمع انتقادات سياسية، ولا شعرنا بتذمر من رجال الحكم، كما يوجد في بعض البلاد العربية.
عبد الله كنون، مشاهداتي في الحجاز، دعوة الحق، السنة الأولى، العدد العاشر ، 1957