دراساتslider

الرسول الإنسان

إن الاشتغال على إخراج “الرسول الانسان” أي: الرسول الذي يجد فيه كل إنسان ذاته، لأنه أرسل “رحمة للعالمين”، ولأنه يبلغ رسالة “رب الناس ملك الناس”، إلى كل الناس؛ من بطون كتب السيرة والتاريخ التي تزخر بكثير من النماذج الرائعة والراقية، وبسطها في مجالات: التربية، والحقوق، والحريات، والمعاملات، والعلاقات، والإحسان.

الأستاذ سعيد شبار


في غمرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف التي تكتسي هذه السنة خصوصية مميزة، وهي أن العالم كله يشهد هذا الاحتفال والاحتفاء بذكرى المولد توقيرا وتعظيما للجناب النبوي الشريف، على عكس ما قصدته الإساءات المتكررة من تحجيم لهذا الحضور، وتقليل من شأن البعثة وصاحبها، وتهويل وتخويف من الرسالة ودين الإسلام ككل. واستثمارا لهذه الروح العالية والمحبة الغامرة، يستحسن طرح بعض القضايا الأساسية التي تستلزم اشتغالا وبناء دائما، من خلال الإيمان المثمر للعمل، والمحبة المثمرة لسلوك الاقتداء والتأسي الحق؛ كما تستلزم تصحيحا لبعض المنظورات التي تترك جوهر وأساس البناء المقوي للحضور الإيجابي للدين، وتنساق إلى حلبة المناوشات التي يَجُر إليها المسيؤون، والتي تورث المتدين تصوراً تصبح به المناوشة أصلا، وأصل الدين ومقتضيات التدين فرعا.
فحينما يستهدف طرفٌ ما قيمةً دينية بالإساءة، فالمطلوب الاشتغال على إحياء تلك القيمة والتعريف بمزاياها ومحاسنها وجعلها صلب الاهتمام، أكثر من الانشغال بالمسيء انتقادا أو مواجهة. فبناؤها الجيد الذي يثمر صلابتها وقوتها الاقناعية، هو ما سيجعل إساءات المسيئين تتهاوى وتفقد كل حجة. وحينما يتفشى الكذب والخيانة والسرقة في جماعة ما، فإن واجب التبليغ والبيان يقتضي بذل الجهد في التعريف بالصدق والأمانة والوفاء، وليس لعن الجماعة ولا حتى تلك الأخلاق الذميمة. وحينما يتم الترويج للميوعة والانحلال عبر وسائل معينة، فينبغي الاتجاه إلى بناء العفة والحياء في النفوس أكثر من مواجهة تلك الوسائل التي لا يمكن قهرها أحيانا. وحينما يُعمل على إحلال الفوضى والنزاع وإثارة النعرات المختلفة، فالواجب الاشتغال على تعزيز الوحدة والنظام والانسجام الذي على متنه الصلب تتحطم تلك النزعات.
لم تكن وظيفة الرسل مع أقوامهم إلا توسيعا وتمكينا لدائرة الإيمان والصلاح والمعروف، وتضييقا ومحاصرة لدائرة الشرك والفساد والمنكر، مع تحمل أذاهم من جهة، وتنكب مواجهتهم من جهة أخرى ما أمكن. بحيث يبقى جوهر الدعوة ومضمون الرسالة في البناء هو الأصل وما دونه عارض. وهذا منهج قراني أصيل، يكفي أن نتدبر فيه قوله تعالى لرسوله الكريم: “خذ العفو وآمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”؛ فالمعروف ومنه العفو هو أصل الاشتغال، أما ظلم المسيئين الذين يجهلون قدر تلك القيم فالإعراض عنهم أولى. وقيل في بيان قوله تعالى: “إنا كفيناك المستهزئين”: بلغ ما أنزل اليك من ربك ولا تلتفت الى المستهزئين الذين يرغبون في صدك عن التبليغ. ويكفي أن نذكر من السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، إنما وفر جوا آمنا من السلم والطمأنينة، فيه أمكن بيان قيم الخير والتراحم والمحبة في الدين التي جلبت اليها كثيرا من المتطلعين؛ وهو ما لم يدركه بعض الصحابة أنفسهم إلا بعد حين. ولو كان من عمله عليه السلام مواجهة الإساءة بالإساءة، لدعا على قومه وقد آذوه، ولم يدع لهم بقوله: “اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون”؛ ولقضى على أهل مكة بعد فتحها وقد أخرجوه، ولم يقل لهم ما قال يوسف لإخوته: “لا تتريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.
فمتى كانت الإساءة قدوة للإحسان؟ والقسوة قدوة للرحمة، والغلظة والشدة قدوة للين، وكراهية الناس قدوة لمحبة الخير لهم؟ ومتى وقع هذا الانقلاب؟ فلو هيمن هذا الفهم لما أمكن للدين أن ينتشر، ولما كان محل إقبال متكاثر من الناس يجدون فيه ملجأ آمنا، يصون ويُكرم جودهم المادي، ويضفي السكينة والطمأنينة على وجودهم النفسي والروحي.
أما الإساءة بدعوى حرية التعبير، التي يرفعها بعض المسيئين، فلا تعدو أن تكون عدميةً لو سلكها كل الناس، لما بقي شيء له قيمة وحرمة في الحياة؛ ولقال كل من شاء ما شاء فيما شاء. وأي تهافت بعد هذا؟ وأين النظام والحقوق؟ وأين القانون والمبادئ؟ فتلك الاساءات لها أغراض أخرى، سياسية انتخابية، وتجارية ربحية وغيرها، تعمل على خلق واقع يخدم تلك المصالح. وللأسف ينساق مع ذلك بعض المسلمين بارتكاب ما دُفعوا إليه بالضبط من جرائم أو تخريب فينطبق عليهم الوصف، بل يُلصق بدين الإسلام ويعمم على كل المسلمين؛ في حين لو أنهم اشتغلوا على تسفيه تلك الإساءة بالحجة والبيان، وكشف خلفياتها المتحيزة ضد المشترك الإنساني، وضد الحريات المتقاطعة المكفولة قانونا، وضد الجهود المبذولة أمميا في إحلال السلم والتعايش بين الشعوب، والتي تقوم فيها الأديان بدور أساس؛ لو فعلوا ذلك وفتحوا فيه نقاشا فكريا وسياسيا رصينا، لكشفوا خلفيات الإساءة للناس وفندوا مرتكزاتها، وقدموا الصورة المشرقة عن الرسول والرسالة التي يراد طمسها. وهذا فعله مفكرون وسياسيون غربيون، مناصرون لحرية التدين واحترام المقدسات، أكثر مما فعل المسلمون.
يستغل المسيؤون والمستهزئون أحيانا كثيرة أحداثا لبعض المتهورين والمتنطعين في الدين، من أجل إدخال كل المسلمين في بلاد الغرب، إلى حلبات نزاع وصراع تشغلهم عن تقديم أنفسهم كمواطنين مدنيين، مساهمين ومنخرطين في تنمية أوطانهم الأوروبية في مختلف الواجهات والميادين، حيث يجدون أنفسهم كل مرة، وقد قطعوا اشواطا إيجابية في البناء، في الدرجة الصفر يدافعون عن شرعية وجودهم وعدالة قضيتهم، وكأنهم قد حلوا بالأمس وهم قد مرت عليهم عقود ونشأت فيهم أجيال متعاقبة. لا يدرك المتنطعون والغلاة، والذين يقودهم الحماس الأعمى، أنهم بارتكابهم جرائم وحماقات قتل أو تخريب معينة، أنهم أول المسيئين إلى الدين وإلى وجود ملايين المسلمين بالغرب، وأنهم يتحملون مسؤولية ذلك بين يدي الله تعالى؛ كما لا يدركون أن الدين لم ينصر قط بالإساءة إلى الغير، وإنما بالإحسان إليه ما أمكن؛ وإن لم يمكن فإن الإساءة ترفع بالإحتكام إلى القانون والشرعية في الهيئات المختصة وطنيا ودوليا.
إن علاقة كل ما تقدم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن الجانب الذي لايزال باهتا فيها ولم ينل حظه من العناية والاهتمام مثل ما نالته الجوانب الأخرى، هو: الرسول الإنسان؛ الرسول الذي استجمع شروط الكمال في الأخلاق، وقد استوعب إرث النبوات السابقة، لما قيل له: “أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده”، وقيل لنا: “لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر”. الإنسان الذي تجسدت فيه قيم وأخلاق الرسالة وكان يتحرك بها بين الناس، يراها فيه العربي المشرك، والعجمي اليهودي والنصراني، وكل صاحب ملة أو نحلة، فيجدونها تخاطب فطرهم وقلوبهم وعقولهم فتكون سببا لاهتداء معظمهم.
لقد تم استثمار كتب السيرة كثيرا في المغازي والحروب حتى غلبت سيرة “النبي المحارب” على سيرة “النبي الإنسان” عليه السلام، وحتى وقر في أذهان أناس أن الحرب أصل في إقامة الدين والباقي استثناء؛ صورة معكوسة تماما عن جوهر وروح الدين الذي يجعل من السلم بدل الحرب، ومن الأمن بدل الخوف، أصولا وما دونها استثناءات تقتضيها سياقات معينة؛ مثل سياقات الحروب التاريخية التي اضطرت إليها الرسالة، دفاعا عن نفسها وليس طلبا، في السياق الإمبراطوري المفتوح الذي كانت فيه الحرب هي المحدد الأساس للوجود المادي والمعنوي، قبل الاستقرار ورسم الحدود في نظم الدولة الحديثة.
إن الأصل في التدين هو ما قررته الرسالة نفسها التي بُعث بها الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم: رحمةُ الناس، وهدايتُهم، والتواصل معهم بالمعروف، والعدل بينهم؛ وإشاعة السماحة والعفو، والبر والقسط بينهم، وحفظ الأمانة والعهود معهم، والإحسان لهم في القول والفعل…، وغير ذلك مما اشتملت عليه منظومة القيم والأخلاق التي هي جوهر الرسالة وروحها. فصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما بعثت لأتمم مكارم /صالح الأخلاق”، والله جل وعلا يثني عليه بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم”. ولم توجد الخلافة، ولا الدولة، ولا الإمارة…، في الإسلام الإّ لخدمة ورعاية الإخلاق والقيم، والكليات والمثل، التي بشر بها هذا النموذج، ومتى عرت عنها لم تكن لها قيمة أيا كان شكلها ورسمها. فالقصد الأول للشارع تلك المنظومة، والتبعي لديه ما يخدمها من رسوم وأشكال تنظيمية؛ ولهذا قد تضعف الدولة أو الكيان السياسي، لكن تبقى القيم والأفكار حية، إذ هي عنصر القوة والبقاء في هذا الدين، والتي جعلته ينتشر رغم طوق الحصار الكبير الذي ضرب عليه قديما ويضرب عليه حديثا؛ فلماذا يتم العدول عن موطن القوة الذي هو تمثل كلمات الدين وتبليغها بالحكمة والإحسان المطلوب، إلى موطن الضعف الذي هو المواجهة والمصادمة والعنف والتخريب الذي يحجب ذلك الخير عن الناس؟
إن البشرية اليوم أحوج ما تكون الى قيم وأخلاق الفطرة في الدين، التي زحفت عليها “قيم” وأخلاق السوق والصناعة والاستهلاك، والتي سحبت الكائن البشري من كينونته الآدمية، ومن فطرته الوجودية، ومن غناه وتنوعه واختلافه، لتجعل منه كائنا طبيعيا لا تراحم فيه، وبسيطا لا تركيب وتنوع فيه، وغريزيا لا آدمية فيه؛ يحيا حياة مفرغة من كل معنى وجودي، إلا معنى اللذة والمتعة الآنية واللحظية، التي طوقه بها النموذج الاستهلاكي والاستخفافي المستهين بالكينونة والوجود الحقيقي.
إن الاشتغال على إخراج “الرسول الانسان” أي: الرسول الذي يجد فيه كل إنسان ذاته، لأنه أرسل “رحمة للعالمين”، ولأنه يبلغ رسالة “رب الناس ملك الناس”، إلى كل الناس؛ من بطون كتب السيرة والتاريخ التي تزخر بكثير من النماذج الرائعة والراقية، وبسطها في مجالات: التربية، والحقوق، والحريات، والمعاملات، والعلاقات، والإحسان، والعدل، والتراحم، والعفو، والصفح، والبر، وحسن الجوار، والوفاء، والصدق، والإخلاص، واليسر، والسماحة، والتعاون…، في النفس وفي الأسرة وفي المجتمع ومع كل الناس؛ لهو في تقديري النصرة الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم، حينما تتعرف البشرية على القيم العليا الكامنة في سيرته وسنته، والتي جعلته يحظى بالتوقير والتعظيم ممن اتبعوه وممن لم يتبعوه؛ وذلك أحسن تسفيه لكل متطاول على مقام النبوة، لأنه سيكون حينها خصما لقيم الخير والحق والعدل والجمال، ولكل ما تهفوا اليه العقول السليمة وتتطلع اليه النفوس البريئة، وسيكون هو المحشور في الزاوية الضيقة وعلى الهامش، وليس من عبر بصرُه الزمن كله، وامتدت يد عطائه بالخير والمعروف، والعفو والإحسان، والسماحة والتراحم، لتشمل الناس جميعا

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى