آراءslider

تأثير الذكاء الاصطناعي على التدين: مقاربة استشرافية

نجيب مصطفى كمالي

يُعدّ الذكاء الاصطناعي أحد أبرز التحولات التكنولوجية التي تشكل مختلف جوانب الحياة الإنسانية، بما في ذلك الدين والتدين. إذ يؤثر على طريقة فهم الأفراد لمعتقداتهم وممارساتهم الدينية وعلاقتهم بالمقدس. وتتراوح هذه التأثيرات بين الإيجابي والسلبي، وفقًا لطبيعة الاستخدام، ومدى وعي الأفراد بالحدود الفاصلة بين التقنية والإيمان.

الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتعزيز التدين

أ. نشر المعرفة الدينية وتسهيل الوصول إليها

لطالما كان الوصول إلى المصادر الدينية التقليدية يقتصر على الكتب المطبوعة أو الدروس الفقهية المباشرة، أو الاستماع إلى الوعاظ. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، بات من الممكن رقمنة التراث الديني وتحويله إلى أنظمة بحث ذكية تسهّل الوصول إلى النصوص المقدسة والتفاسير والأحاديث النبوية.

  • على سبيل المثال، طورت بعض المؤسسات الإسلامية روبوتات دردشة قائمة على الذكاء الاصطناعي يمكنها الإجابة عن الأسئلة الفقهية وفقًا للمذاهب المختلفة، مثل “فتوى بوت” الذي يعتمد على الفقه الإسلامي لتقديم إجابات دقيقة حول المسائل الشرعية.

ب. دعم التفاعل الروحي والشخصي

أصبح بالإمكان استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التذكير بمواعيد الصلاة والصيام والأذكار اليومية، مما يعزز ممارسة العبادات. كما يمكن استخدام تقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR) لنقل الأشخاص إلى أجواء روحانية مثل تجربة الحج والعمرة افتراضيًا، ما يساعد غير القادرين على السفر على الشعور بالانتماء الديني.

وكمثال على ذلك طورت شركات تكنولوجيا إسلامية تطبيقات VR للحج الافتراضي، مثل تجربة “Hajj VR”، التي تسمح للمستخدمين بزيارة الأماكن المقدسة رقميًا.

ج. تحليل النصوص الدينية والتفسير الذكي

يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل النصوص الدينية الضخمة، وتقديم تفاسير مقارنة بين المدارس الفقهية المختلفة، مما يسمح للباحثين بفهم أعمق للنصوص الدينية. مثل مشروع “Qur’an AI” الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تقديم تفاسير سياقية للقرآن الكريم بناءً على استفسارات المستخدمين، يعد مثالًا على ذلك.

التأثيرات السلبية للذكاء الاصطناعي على التدين

أ. التلقين بدلاً من التفكير النقدي

قد يؤدي الاعتماد المفرط على أنظمة الذكاء الاصطناعي في المسائل الدينية إلى تراجع القدرة على التفكير النقدي في القضايا الفقهية والفكرية، حيث يكتفي البعض بتلقي الأجوبة الجاهزة دون البحث والتأمل العميق، فعلى سبيل المثال، قد يعتمد بعض المستخدمين على “فتوى بوت” بدلاً من الرجوع إلى العلماء والمصادر التقليدية، مما قد يحدّ من فهمهم العميق للسياق الديني.

ب. خطر التحيز والخطأ في المعالجة

تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على البيانات التي تُغذّى بها، وإذا كانت هذه البيانات غير متوازنة أو منحازة لمذهب معين أو رؤية أيديولوجية محددة، فقد تؤدي إلى تقديم معلومات خاطئة أو غير متوافقة مع الفهم الشامل للدين.

فإذا تم مثلا تدريب نموذج ذكاء اصطناعي على مصدر فقهي واحد دون مراعاة التعددية الفقهية، فقد يؤدي ذلك إلى نشر فهم ديني غير شامل.

ج. تراجع القيم الروحية مقابل الطابع الميكانيكي للتدين

الدين ليس مجرد معلومات وقوانين، بل تجربة روحانية تتطلب الإحساس والخشوع والتفاعل الشخصي مع الله. إن تحويل بعض الممارسات الدينية إلى أنظمة آلية قد يجعل التدين يفقد جزءًا من عمقه الروحي، فقد يستعين بعض الأشخاص بتطبيقات الذكر الرقمية دون أن يكون هناك حضور وجداني أو خشوع، مما يحوّل العبادة إلى مجرد عادة إلكترونية بدلاً من تجربة روحية.

الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل الخطاب الديني

أحد أبرز التأثيرات طويلة الأمد للذكاء الاصطناعي هو إعادة تشكيل طريقة نشر الخطاب الديني وتفسيره. مع انتشار الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الضخمة، يمكن استخدامه لرصد توجهات التدين عالميًا، وفهم كيفية تغير مفاهيم الإيمان والممارسات الدينية في ظل التكنولوجيا الحديثة.

  • مثال على ذلك، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل خطب الجمعة في العالم الإسلامي، واستخراج المواضيع الأكثر تداولًا، مما يتيح للباحثين فهماً أوسع للتحديات والقضايا التي تشغل بال المجتمعات المسلمة.

مستقبل التدين في عصر الذكاء الاصطناعي

من المرجح أن يستمر الذكاء الاصطناعي في لعب دور متزايد في تشكيل التدين، سواء عبر تقديم أدوات معرفية متطورة أو عبر التأثير على الطريقة التي يتفاعل بها الأفراد مع القضايا الدينية. ويبقى السؤال الأساسي: كيف يمكن الموازنة بين الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تعزيز الفهم الديني دون أن يصبح بديلاً عن التفاعل البشري والخبرة الفقهية العميقة؟

في الختام

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لتعزيز التدين ونشر المعرفة الدينية، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات تتعلق بالحفاظ على البعد الروحي والفكري للدين. تكمن المسؤولية في توجيه استخدام هذه التقنية بطريقة تخدم الدين ولا تحوّله إلى مجرد بيانات رقمية مجرّدة. ولذلك، ينبغي أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كوسيلة مساعدة، وليس كبديل عن التجربة الدينية الحقيقية. في كل الحالات.. فإن الذكاء الاصطناعي سيطرح حتما مجموعة تحديات للمستقبل الديني..

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى