قصة تأسيس دار الحديث الحسنية (2)
بمناسبة التكريم الذي نظمته دار الحديث الحسنية للعلامة أحمد الخمليشي مؤخرا، تقدم مجلة Oulemag لقراءها الكرام باقة من مقالات لعلماء ومفكرين استعرضوا فيها السياق والدواعي التي كانت وراء اتخاذ أمير المؤمنين الحسن الثاني طيب الله ثراه قرار تأسيس دار الحديث الحسنية وتأسيس المجالس العلمية، وتنظيم الدروس الحسنية الرمضانية.
في هذه الحلقة، ننشر مقالة للعلامة الحسين وجاج، الذي ينتمي إلى الدفعة الأولى من خريجي دار الحديث الحسنية (عام 1972 )، وعمل أستاذاً بها. كما تولى عمادة كلية الشريعة بأكادير ، وكان يرأس المجلس العلمي المحلي بتزينت ، كما انتخب نائباً في البرلمان ، وعين عضواً في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان,
ولقد نشرت هذه المقالة في العدد 257 من مجلة دعوة الحق عام 1986
الحسن الثاني وتأسيس دار الحديث بقلم الحسين وجاج
تأسيس دار الحديث الحسنية، إنجاز رائع من إنجازات مولانا أمير المؤمنين الحسن الثاني نصره الله، أراد الله أن تكون بركة من بركات شهور رمضان المتوالية على المسلمين، ونتيجة من نتائج المجالس الحديثية التي اعتاد الملوك المغاربة عامة، والعلويون خاصة أن يعقدوها في حلهم وترحالهم، وهي في هذا الوقت بالذات، وفي هذه الظروف العصبية التي يعيشها الشرق والغرب الإسلاميان على السواء، تعتبر تعتبر بمثابة هدية إلاهية إلى المسلمين، وإشارة ربانية إليهم، ليقلعوا عن حالهم، ويرجعوا إلى رشدهم، ويتدبروا وصية نبيهم لعلهم يهتدون، وقد انبعثت بإذن الله من وحي الدروس الحسنية التي تلقى أمام أمير المؤمنين في قصره العامر في رمضان، فكانت بعثا جديدا للإسلام، ودعوة صادقة إلى الإحياء والتجديد، ونداء حارا إلى الشباب المسلم ليقبل على حديث نبيه، ويحفظ متونه وأسانيده، ويعمل بمضمونه وتعاليمه، ويتحلى بأخلاقه وآدابه. سبب تأسيسها
وسبب تأسيسها أن مولانا أمير المؤمنين الحسن الثاني رأى بثاقب فكره، وسداد نظره أن فن الحديث وعلومه في المغرب وفي العهود الأخيرة من تاريخه بالخصوص، أصيب بما أصيب به في أقطار العالم الإسلامي من إهمال نتيجة الغزو الفكري والمادي لتلك الأقطار، وأن الشباب المسلم أخذ يتحول عن الثقافة الإسلامية إلى الثقافة العصرية الطاغية، وإن ما عرف به المغرب من علماء ومحدثين كبار منذ عصوره الأولى، أخذ ينقرض شيئا فشيئا، الأمر الذي جعله أعزه الله يستدعي مكتب رابطة علماء المغرب برئاسة أمينها العام سيدي عبد الله كنون الحسني مساء يوم الإثنين الحادي عشر من رمضان المعظم عام 1383 هـ ليتذاكر مع أعضائه في شؤون التربية والتعليم بالبلاد، ويبشرهم بحضور بعض الوزراء وكبار رجال الدولة بأنه عازم على إنشاء دار للحديث بالرباط، لتخريج المحدثين الشباب، وتكوين الأطر العليا للتعليم والقضاء، وإعداد البعثات الصالحة للقيام بواجب الدعوة في الأقطار الإسلامية والنائية.
وقد أبى السيد الأمين العام إلا أن يشكر أمير المؤمنين على بادرته الطيبة قائلا : “إن العلماء وقد كانوا يرون الإهمال الذي تمنى به هذه العلوم الإسلامية، لم يخامرهم شك في أن يوم بعثها على يد جلالتكم لابد آت، وأن العلماء سيقومون بكل طاقاتهم لمساندة هذه الحركة، وتحقيق أمل جلالتكم في بعث الثقافة الإسلامية، واللغة وهكذا أسست دار الحديث بالرباط، ودشنت يوم 27 رمضان 1383 هـ في الضريح الحسني، وبمحضر أمير المؤمنين الحسن الثاني الذي ألقى بهذه المناسبة الكريمة خطابا ساميا قال فيه على الخصوص :
“إن فتوحات المغرب العلمية لا تقل عن فتوحاته السياسية، فما أكثر أولئك العلماء الذين أسهموا في الحضارة العربية الإسلامية بالنصيب الأوفى، وما أوفر من ظلوا منهم عبر التاريخ يضربون أكباد الإبل في طلب العلم أو تلقينه مهما بعدت بهم الدار، أو شط المزار، وإن تراثنا الإسلامي والمغربي بصفة أخص لخليق بأن يحملنا على الاعتزاز به، ومن أجل ذلك فنحن مدعوون للمحافظة عليه، وشمله بمزيد العناية التي تقيه خطر الخفاء والاندثار”، إلى أن قال:
“وهكذا حرصنا في عدة مناسبات، وخاصة أثناء هذا الشهر المعظم من كل سنة، على أن نستقدم إلى جانبنا طائفة من العلماء المتخصصين في مختلف أطراف مملكتنا لإلقاء دروس الحديث والتفسير، تأكيدا للأهمية التي نوليها لاستمرار وانتشار ذلك النوع من الدراسات الإسلامية التي يتميز بها المغرب اليوم بين الأقطار الإسلامية الأخرى، والتي هي إحدى مميزاته الأصيلة، ولكي يستمر، هذا العمل، وضمانا لانتشاره وازدهاره، ندهش في هذه الليلة المباركة دار الحديث التي ستضم ثلاثين طالبا، سيتخصصون في الدراسة الإسلامية طيلة أربع سنوات، على أن يتزايد هذا العدد كل سنة، وخلال السنوات الأربع هذه سيلم الطلبة بفن الحديث متنا وسندا ورواية، ويتخصصون في كل ما يقوي من مداركهم وينمي معلوماتهم في هذا الفن الأصيل من قواعد وفروع وأصول، وما يقترن عادة بدراسة علم الحديث من دراسة متممة على أن يضمن لهم في نهاية الشوط مستقبلهم بالمساهمة في عدة مجالات نحن في حاجة إلى أن يعمل فيها خريجو هذا المعهد الذي نجتمع اليوم لتدشينه”.
وقد رد على مقال جلالته السامي فضيلة الأمين العام للرابطة بكلمة قال فيها: “مولانا صاحب الجلالة، في غمرة من النشوة الروحية والسرور النفسي تلقى شعبكم المومن، بشرى عزمكم على إحياء العلوم الإسلامية، وبعثها من مرقدها، وإنشاء دار الحديث بعاصمة مملكتكم الشريفة، وصلا لما انقطع أو كاد من سند هذا العلم، ورفعا لمناره الذي طمس بعد إنافة وإشعاع، إلى أن قال: ومن الثابت تاريخيا أن الرجوع في الدراسات إلى الأصول، إنما يكون في عصر الازدهار الفكري” فهذا عصر الموحدين، وهو أزهى العصور المغربية من حيث التقدم الفكري، كان لعلم الحديث فيه ظهور وانتشار، بحيث أفضى الأمر إلى أن أصبح هو مذهب الدولة، ونحى فقه مالك جانبا، بل أعلن الحرب عليه، حتى كانت كتبه ومدوناته، تحرق في الساحات العمومية بأمر الدولة، إمعانا في الأخذ بمذهب أهل الحديث والعمل به، إلى أن قال :
فدار الحديث التي تدشنها جلالتكم اليوم، هي جامعة علمية في مظهر معهد عال، وهو عمل يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:
من أحيا سنة من سنني أميتت أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب.
وقوله :
من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها، بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء، وفي رواية وكنت له شفيعا وشهيدا.
والطلبة الذين سيلتحقون بها هم بدورهم سيدخلون في قوله عليه السلام: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وقوله : ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة”.
وقد كان التدشين عظيما، حضره العلماء والوزراء وكبار الشخصيات، وصفق له الشعب المغربي المومن، ودعا لأمير المؤمنين، وكل من يعمل لإصلاح الدنيا بالجزاء الأوفى من عند الله، وقد سمعت بأذني شيخنا الكبير سيدي علال الفاسي، والعلماء يتبادلون التهاني أمام أمير المؤمنين وهو يقول : إن لم يكن من هذه الدروس إلا هذه البادرة الطيبة لكفى، تقديرا منه لهذه الدار التي يعلق عليها كبير الآمال.
وهكذا تم تأسيس دار الحديث في عهد مولانا أمير المؤمنين الحسن الثاني رائد التمنيات والمسيرات، وقد صدق الله ظنه، وحقق أمنيته من هذه الدار التي خرجت عددا من العلماء العاملين، والمحدثين الملتزمين، وقد أعاد التاريخ نفسه بإنشاء هذه الدار التي أيقظت الهمم، وحركت الضمائر، وأحيت العزائم، وأثارت الانتباه، وأنارت السبيل أمام المسلمين ليسيروا في طريق واحد، ويعملوا في صف واحد، صامدين في وجه المناورات والمؤتمرات، متحدين متعاونين حتى يصبحوا كما كانوا بالأمس القريب سادة العالم، وبناة الحضارة، وحماة العدالة، ورواد السلام.
وإذ يحتفل المغرب المومن هذه الأيام بالذكرى الخامسة والعشرين لجلوس مولانا أمير المؤمنين على عرش أسلافه المنعمين، والذكرى السابعة والخمسين لميلاد مولانا أمير المؤمنين، يحمد الله الذي متعه بهذا النظام الملكي المغربي المبني على عنصري الإمارة والإيمان، هذا النظام الذي زوده بالحماة المومنين والملوك المجاهدين المطبوعين بتعميم الخيرات والبركات على المواطنين، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يدركون الدور العظيم الذي قام به محمد الخامس رحمه الله حينما وهب نفسه لوطنه، وتحرير سيادته، كما يقارن وارث سره مولانا الحسن الثاني الذي جاهد في الله حق جهاده، هذا الملك الذي جدد أمر الدين بمسيراته، واختار الحياة الدستورية لتسيير شعبه، هذا الملك الذي شجع الأمة، ونشر علوم الحديث والسنة، وأنشأ علوم الحديد والتقنية، وزود البلاد بمؤسسات الإنتاج والتنمية، وجاهد في سبيل الكرامة الإسلامية والوحدة الوطنية، وقارع الخصوم بمحكمة لاهي الدولية بالمنطق السليم والحجة الدامغة، ونظم ايمانا منه إلى الله المسيرة القرآنية، يحدوه في كل ذلك واجب أداء الأمانة المقدسة، والدفاع عن العقيدة الإسلامية، وحماية الملة المحمدية.
هذا الملك الذي أنعم الله عليه بإشراقات متوالية ومتجلية في هذه المبادرات الديموقراطية التي يفتح بها الباب على مصراعيه أمام الهيئات السياسية لتجاهر كلها إلى الله في إطار الملكية الدستورية، كما يفتح بها الباب على مصراعيه أيضا لإتمام الهيئات العلمية لتهاجر كلها إلى الله في إطار إمارة المؤمنين، ليتعاون الجميع في خدمة المواطنين وتركيز عنصري الإمارة والإيمان اللذين بنى عليهما النظام الملكي العتيد في هذه الديار. هذا الملك العجيب أمره، والفريد في بابه، بابتكاراته واهتماماته، والمؤسس في إطار ما شرعه من حرية التعبير، والتزم به من خدمة العلم والدين أكاديميات لتسيير أسباب المعرفة وتحقيق وسائل التنمية، والاستنارة بوحي القرآن والسنة، ونشر الأمن والفضيلة، وإحياء الأصالة والمروءة.
هذا الملك الذي حبب إلى شعبه المكرمات، وكره إليه استعمال كلمة “لا” في المعاملات وقطع الآمال بمقاريض اللاءات، فهو أعزه الله مثل أحد جدوده الذي قال فيه الشاعر العربي “الفرزدق”.
ما قال لا قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاءه نعم
هذا الملك الذي دعا المسلمين في مطلع القرن الخامس عشر الهجري برسالته الخالدة إلى العمل الصالح وتوحيد الصفوف، أسس المجالس العلمية، ونظم الدروس الحسنية الرمضانية لنشر الوعي الإسلامي في نفوس، وإذكاء روح الأخوة في القلوب، مزج الإيمان بالمعرفة، فسار شعبه في الصراط المستقيم، وعبد الله بالعلم، فنال رضا الله العظيم، كان حسنا عند الله في السماء، فنشر له القبول في الأرض، وهداه إلى اتباع أسباب التيسير في الشؤون، واختار أسلوب اللين والعفو والصفح في الأمور، اقتداء بجده الرسول الأكبر صلوات الله وسلامه عليه.
ولا يسعنا ونحن نحتفل بذكرى ميلاده السابعة والخمسين إلا أن نهنئه على ما أنجز من أعمال صالحات، ويحقق من انتصارات من هذا العصر الحافل بالالتواءات في المعاملات، والزاخر بالمعوقات في الحركات.
“إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون”.