العلامة الرحالي الفاروقي يكتب عن ” ابن يوسف والكتبية”

في هذا المقال تعيد مجلة Oulemag نشر دراسة للعلامة الرحالي الفاروقي حول جامع الكتبية والتي صدرت في العدد 54 من مجلة دعوة الحق أكتوبر 1962.
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على عباده المرسلين، وعباده المخلصين وبعد :
فالمساجد كانت ومازالت شعارا من شعائر الإسلام، ومعلما من معالم الدين، وهي أول ما يفكر فيه المسلمون الجادون المسبحون، كما اتضح ذلك في عمل الرسول العظيم، حيث لم يشغله شيء بعد الهجرة عن النظر في إقامة مسجد يأوي إليه المسلمون لعبادة ربهم، ويتعلمون فيه الإيمان بمجتمعهم، ثم يتصافون في حياتهم، كما يتصافون في صلاتهم.
وقد كانت وضعية المسجد في الإسلام وضعية سامية، تتلاقى مع الأهداف وتتجاوب مع المشاعر، فهو راحة الساجدين، ومثابة المؤمنين، وملجأ المستضعفين، ومجلس المشاورة، والقائم مقام المدرسة، يهذب ويؤلف، ويعرف ويثقف، والمركز الدائم للترغيب والتنفير والتوجيه، على لسان الخلفاء والخطباء، الذين تتميز بمعانيهم المنابر، وتتوضح ببيانهم الخواطر، ومن ثم كان مستباحا ولا حجر ولا حظر، ومستأمنا لا إثم ولا غدر، أذن الله لعباده المؤمنين أن يتوجهوا إليه بالسكينة والوقار، ويرفعوه بذكر الليل والنهار.
وإنما يقرب بيوت الله المؤمنون والموحدون ـ وإنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
وعمارة المسجد تكون ببنائه وإصلاحه، وتنقيته وإثارته، وإقام الصلاة واعتكاف أي جهة من جهاته، وحمايته من الزيغ والعناد، وصيانته من الضلا والفساد، حتى يكون بيتا خالصا لله، لا يدعى فيه سواه البتة.
والإسلام يأمر الناس بإقامة المساجد، وأداء الجماعات والجمعات ـ وبتعليم كتاب الله الذي هو أصل الإيمان والهداية، وطريق العزة والاستقامة، وأساس المعرفة والثقافة، وقوام المزايا والخصائص الإنسانية، كما كان الشأن في عهد آبائنا الأقدمين، وأسلافنا الصالحين الذين ساسوا أنفسهم بسياسته، وحكموا الدنيا بشريعته، ولا بد لأبنائهم وأحفادهم أن يقتصوا أثرهم، ويربطوا تاريخهم، حتى تقوم الحضارة على أصل أصيل، وإلا فالحياة أنف لا سابق لها من تراث فضل، وتاريخ مجد، وإن كانت فهي حياة مدخولة لا ترفع ذكرا، ولا تقدم شبرا (ذلك)
وأفضل المساجد على الإطلاق، مسجد مكة المكرمة ـ ومسجد المدينة المنورة، ـ ومسجد البلدة المباركة ـ فقد اختصها الله بمضاعفة الأجر والثواب في المجاورة والعبادة والهجرة، فأما البيت الحرام فقد رفعه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وأما مسجد بيت القدس فقد بناه داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، وأما مسجد المدينة فأسسه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من المهاجرين والأنصار، بعد الهجرة، خدم فيه صلى الله عليه وسلم بنفسه ونقل الحجارة إليه كما نقلها عند بناء قريش للبيت الحرام بيده الكريمة، وكأنه الأصل في وضع الملوك والرؤساء حجر الأساس لبناء المساجد، والمساكن، والمعامل، ودور التجارة الكبرى ـ وكأنه دعوة بالعمل إلى العمل في سبيل الله، وفي سبيل الصالح العام، لما فيه من الشرف والرقعة والتقدم والنهضة ـ وأشرف العمل ما كان مرتبطا بدعائم الدين، وخادما لمصالحه، ونعم ذلك العمل، ونعم أجر القائمين به.
وهنا نسجل ما لمؤسسات الأوقاف في عالم الإسلام عموما، وفي عالمنا خصوصا من أثر كبير في حياة المساجد، والسهر على إحيائها، والعناية بإنشائها، مما جعل الألسنة المؤمنة رطبة بالثناء على جلالة الملك محمد الخامس المرحوم الذي كان يوحي دائما إلى المصالح، التي يرجع إليها أمر المساجد أن تقدر قدرها، وتعرف حقها بالإخلاص في خدمة شؤونها، ورعاية القائمين بأمرها، حتى يتسنى للعمار والزوار أن يشهدوا علمهم البار، ويعبروا عن الغاية التي يرمي إليها رفع المساجد من وجود الصلة الدائمة بين العبد وربه، وبين الإنسان وأخيه، فتكون الحياة سامية، والقلوب واعية، والجماعة وافية، والأمل في هذا الوضع معقود على الخلف البار جلالة الملك الحسن الثاني، الذي تعهد وأكد أن يحذو سياسة والده المنعم ولقد كان الناس في كل زمان يهرعون إلى المساجد بقلوبهم، وينفقون عليها من أموالهم، ويعتقدون أن الخير كله أن يوفق المرء إلى إرصاد ملك من أملاكه في سبيل مسجد من مساجد المسلمين آملين أن يندرجوا في سلك الذين أثنى الله عليهم بالإيمان والخشية، ومن عليهم بالهداية والاهتداء، هذا كله كلام شامل، يأتي بعده كلام خاص بمسجد ابن يوسف، ومسجد الكتبية بمدينة مراكش تلك المدينة التاريخية، التي كتب لها الفضل في مصاحف الإعصار على مفاخر الأمصار.
مسجد ابن يوسف
هو ذلك المعهد الكبير الذي عاش ما يقارب تسعة قرون، منذ أن أقامه أبو الحسن علي بن يوسف اللمتوني في دولة المرابطين التي أشادت معالم الحضارة وآثارت مآثر الثقافة، ورفعت قواعد العقيدة، وأصول الملة المحمدية، فكان منبرا للدعوة، ومنهلا للمعرفة، ومنتدى للثقافة، ومركزا لإثبات دعائم الدولة، وبات من زينة الدراسة في العصر الماضي أن تكون بالمساجد الدينية حيث تتوقف الصلة بين الحياة والعقيدة وتتأكد الرابطة بين الروح والمادة، كما هو اتجاه الإسلام الحميد، ومذهبه السليم.
ولما انتهى الإمام المرابطي من تشييده سنة 514 ـ التفت إليه بالحظ الأوفى من عنايته، ووفر له من وفره وعطائه، وجلب أهل العلم والفضل لساحته، وجمع رجال الفكر والأدب بجانبه، فوطئته أقدام الأندلس، وحلت به ركائبه الأولى، وتدفق فيه علمه وأدبه، فتحول سريعا إلى حياة الإيجاب والإنتاج، وراجت سوقه رواجا عظيما، وتقدمت تقدما باهرا، أخذت به مراكش طابعها العلمي والأدبي بين كبريات العواصم العلمية البارزة، وساعد على نفاق سوقها، وسمو مجدها إن كانت قاعدة البلاد الكبرى، وعاصمتها الأولى، لإغلب دول المغرب، فأسرع إليها من كل طرف رؤوس البلاغة والفصاحة، وقطع المساوف من أجل بلاطها ذوو الحيثيات والهيئات.
بذلك فاز معهدها العظيم، وأصبح تاجا في مفرق المعاهد. ومهبطا لوحي الأفكار، وملتقى للظرفاء والأخبار، تنبعث منه أنوار الهداية والعرفان إلى سائر جهات المغرب، وإلى الأقطار المجاورة له..
ومن ذلك العهد وهو يكافح ضد الضلال والفساد، وينافح عن تراث الإسلام النفيس واللسان العربي المبين، واستطاع بجهاده الصادق أن يقطع المراحل البعيدة، ويجابه الأحداث الخطيرة، ويرفع صوت الحقيقة والشريعة، كما شهدت بذلك أقلام المؤرخين، واعترفت به السنة الباحثين، والتاريخ خير مرجع وأقوى شاهد، وفيه الموعظة والعبرة لمن آمن واتقى، وكم كان تاريخ الجامعات الإسلامية حافلا بالنشاط في تدعيم الوطنية العربية، وتثقيف العقول البشرية وتأدية الرسالة الكاملة التي تتجلى في حفظ اللغة، وصون العقيدة، ونشر التاريخ، وأطوار الحضارة، وذلك من المقومات التي ينبني عليها وجود سائر الأمم الواعية، ـ ومن الحق أن نشير إلى بعض من تخرج من هذا المعهد قديما وحديثا وإلى عناصر العلوم التي كانت تروج منذ أن برز هذا المعهد إلى الوجود، وتوحد عرش المغرب والأندلس.
فمن العلوم ـ التفسير، والحديث، والنحو، واللغة، والأصول، والبيان، والأدب، والتوحيد، والتصوف، والطب، والحساب.
وتخرج قديما من هذه الجامعة ما يعلمه الله من نوابغ العلماء، وإفذاذ الأدباء، وعباقرة الحكماء، ممن يشار إليهم بالبنان، ولا يقعقع لهم بالشنان.
ففي عهد الملثمين الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف اللمتوني، وأبو عمرو وعثمان السلالجي الفاسي، وأبو عبد الله محمد بن أحمد السرقسطي المراكشي، وفي عهد المرينيين فخر المغرب في الرياضيات أحمد بن البناء المراكشي، وتلميذه الإبلي، وفي عهد السعديين مثل المنصور السعدي، وابن القاضي، واليفراني، وفي عهد دولة الشرفاء العلويين مثل أمير المؤمنين سيدي محمد بن عبد الله، والأمير الجليل مولانا الحسن، وغيرهما من سائر أمراء الدولة العلوية القائمين حتى الآن.
وفي سنة 1938 شمله ذو الشرف والجلالة مولانا محمد الخامس ملك المغرب بظله وفضله، محافظة على عظمته التاريخية، ومراعاة لمكانته الاجتماعية، فأبى جلالته إلا أن ينظم فيه الدروس، مثل ما نفعل بالقرويين.
وفي سنة 1943 ـ أمر جلالته بإنشاء الدروس العالية فيه على غرار القرويين أيضا، وفي أثناء هذا النظام الكريم، تخرج منه مائة عالم، وأغلبها موزع على مصالح الدولة المغربية، وقائم بالمعاهد الإسلامية، وهكذا كان يلقي دائما كامل العناية، وحسن الرعاية، من لدن المرابطين حتى دولة العلويين … وأنه الأن يفخر بوطنيته وقوميته، ويسهر في الحياة الجديدة على تحقيق دعائم الثقافة المشتركة، ويدعو باستمرار إلى دعوة الإسلام وحركته المثلى ولغته الفصحى واعترافا بهذه المكانة، أفرغ عليه جلالة محمد الخامس ما يناسبه من حلل الاعتبار، وأسدى إليه من معروفه وبره البار، ما سجله التاريخ في صفحاته اللامعة، وخلده في سطوره البيضاء.
مسجد الكتبية
وأما مسجد الكتبية، وهو الاسم الذي اشتهر في الأزمنة الأخيرة بعد أن كان يسمى من قبل : بمسجد الكتبيين فقد شيده : عبد المومن بن علي الكومي الموحدي صاحب المهدي بن تومرت، حينما تم له الدخول إلى مراكش سنة 537.
وذلك أنه لما دخل مراكش استقدم أعيان الموحدين، فامتنعوا من دخولها، وقوفا عند وصية أمامهم : (لا تدخلوها حتى تطهروها) وسأل فقهاءهم عن مغزى الوصية، فأجيب ببناء مسجد فبناه بدار الحجر، قرب قصر الإمارة وقد كانت العادة أنه كلما قامت دولة قامت معها منابر ومدارس، تبشر بالمبدأ الذي تعتنقه الدولة وتلتزمه، وتنبئ عن نشاطها وعظمتها، كما كان الشأن في الجامع الأزهر، على عهد الدولة الفاطمية، وعبد المومن الموحدي هذا هو الذي حمل الناس في المغرب على مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول، بعد أن كانت العقائد سلفية، ولا تنكر عناية الموحدين بالمظاهر الفنية والعمرانية وبمعاهد العلم، وخزائن الكتب، حتى أنه كان من سنتهم فيها، أن لا يتولاها إلا من جلس على دست المعرفة، وثبت وقت التجربة.
وقد روى التاريخ أن الذين أشرفوا على بناء مسجد الكتبيين من المهندسين أبو الليث الصفار، وأبو الحسن علي بن أبي حفص عمر بن عبد المومن، وأن يد التجديد قد تناولته مرارا في عهد الدولة العلوية ـ في عهد المولى عبد الرحمان وفي عهد المولى الحسن سنة 1307.
وهو مربع الشكل منحرف له أربعة مخارج في جانبه الشرقي، وأخرى في جانبه الغربي، وعلى يسار المحراب خوخة صغيرة لدخول الإمام والأمير.
منار الكتبية
وفي سنة 593 ـ شيد يعقوب المنصور حفيد عبد المومن مناره العظيم الذي لم يشيد مثله في الإسلام، حتى قيل أنه العلم في الفلاة، ومنزلته بين المآذن منزلة والي الولاة، ولاتترك الوحدة المعمارية أي شك في أنه من آثار المنصور، الذي كان مولعا بالبناء والتشييد، ومغرما بالإبداع والتمييز ومهتما كذلك بشعائر الدين، فقد سن النداء في الأسواق بالمبادرة إلى الصلاة وقتل أحيانا زجرا على شرب الخمرة، وهذا وقد كان بجانب المسجد المذكور خزانة عظيمة لمختلف الكتب العلمية والدينية، امتدت إليها مع الزمان أيدي الحدثان، ولم يبق من نفائسها إلا ما قل مما أضيف إلى مخطوطات خزانة ابن يوسف، كما كان يكتنفه : سوق للكتبيين، وإليهم نسب المسجد فيما بعد، وذلك من دلائل نهضته الفكرية والثقافية، وأن كانت الحياة الثقافية لا تتجلى ألا ببسط تراجم القائمين بها وذكر بحثهم ونتاجهم وبعد :
فقد شاهد كل من المسجدين التاريخيين أحداثا، وطاولا إعمارا، وصافحا حضارة، وعالجا ثقافة، إلا أن صفحات تاريخهما مطوية ومنسية، من حقها أن تنشر وتتلى بآيات الحمد والثناء والله يعلم حقائق الأمور، ودقائق الأشياء «والله يعلم وأنتم لا تعلمون».
المصدر: مجلة دعوة الحق، العدد 54، أكتوبر 1962