بنو مرين من خلال رحلة ابن بطوطة

يتطرق الأستاذ محمد عبد العزيز الدباغ في هذا المقال إلى رحلة ابن بطوطة الشهيرة في عهد السلطان أبي سعيد المريني، حيث حظي برعاية السلطان أبي عنان فارس عند عودته، الذي أمر بتدوين الرحلة.
ويُبرز المقال اهتمام الدولة المرينية بالعلم والعلماء، ودعمها للثقافة الدينية، مما ساهم في إشعاع المغرب في العالم الإسلامي. كما يعكس حضور بني مرين في الرحلة التأثير السياسي والثقافي القوي للمغرب آنذاك، ويجعل من رحلة ابن بطوطة وثيقة حية تسجّل مظاهر الحياة المغربية خلال القرن 14م.
من الضروري أن يرتبط كل مسلم في صلاته وحجه بمكة المكرمة،هذا الارتباط أصبح من مقومات الشخصية الإسلامية وتركز في قلوب الذين آمنوا حتى أصبحوا يأتون إلى الكعبة راكبين ورجالا من كل فج عميق.
ولم تكن المواصلات سهلة، ومع ذلك كان يطوف بالكعبة في كل سنة عدد كبير من المسلمين، يأتون من أطراف الأرض ويجتمعون في ذلك البلد الأمين الذي أشع منه نور الإسلام على الكون، فأصبح مربط قلوبهم وموئل خائفهم وملتجأ مذنبهم.
ومن بين هؤلاء جماعة كانت تخلد رحلاتها وتسجلها لمن بعدها فقد رحل من المغرب والأندلس إلى مكة عدد من العلماء كان لهم شأن كبير كابن جبير الأندلسي، والعبدري الحاجي ، وابن بطوطة إلا أن هذا الأخير استهواه السفر وحببت إليه المغامرات وأراد ان يطلع على العالم من أدناه إلى أقصاه وان يقارن بين الدول المختلفة وان يجمع بين فريضة الحج والاستمتاع بلذة الاستطلاع، فلم يرجع إلى بلده إلا بعد سنوات طوال قضاها في متعة الاكتشاف ورغم ما كان يلاقي فيها من عذاب ومحن.
ورغم رجوعه إلى المغرب فقد رحل مرة أخرى إلى الأندلس ثم إلى السودان ومجاهل افريقيا وجمعت هاته الرحلات الثلاث في كتاب سمي بتحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
وأهم رحلات ابن بطوطة وأطولها هي الرحلة الأولى التي استمرت من يوم الخميس ثاني رجب سنة 725هـ إلى يوم الجمعة من أواخر شعبا سنة 750 م.
خمس وعشرون سنة قضاها في رحلته الأولى بين ربوع العالم، فشاهد فيها الجزائر وتونس ومصر وطرابلس وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين والحجاز وتركيا وما جاورهما من البلدان والهند والصين وجزر اندونيسيا كجاوة وسومطرة
خرج فريدا لكنه لم يغادر مسقط رأسه طنجة حتى استطاع ان يربط العلاقات بينه وبين الناس نظرا لقوة شخصيته وحدة ذكائه وسعة ثقافته الإسلامية وسماحة أخلاقه، فأصبح بينهم مرموقا يقدمونه في صلواته ويحكمونه في قضاياه.
لم تكن سنة عند مغادرة طنجة تتجوز الثانية والعشرين فهو في مقتبل العمر وفي عنفوان الشباب، ولكنه لم يركن إلى اللهو والعبث، ولم يستأثر الدعة والخمول، بل هاجه الشوق إلى السفر لتحقيق رغبة في نفسه تدعوه لمشاهدة الأراضي المقدسة قال: (فجزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والدي بقيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا)
وكانت مغادربه لطنجة في أيام ابي سعيد عثمان ابن يعقوب بن عبد الحق المريني الذي تولى الملك سنة 710 ه وتوفي سنة 731 م.
كان هذا الرحالة معجبا ببني مرين نظرا لمواقفهم الحاسمة في تاريخ المغرب فهم سعوا في توحيده وإزالة الفرق بين حدوده وأعانوا سكان الأندلس على مقاومة الاسبانيين ولذلك كان لا يفتر عن ذكر محاسنهم ولا يغفل عن نشر محامدهم.
ولما رجع الى المغرب وجد على سرير الملك أبا عنان المريني الذي عمل على لم شتات المغرب العربي ونشر الثقافة العربية بين أجزاء البلاد، وكان من بين وزرائه ابو زيان بن ودرار الذي استأنس بابن بطوطة وأولع بأخباره ودافع عنه في كثير من المجالس حينما شاع الخبر، بأنه يكذب في روايته ويبالغ في أحاديثه ويتقول ما لا وجود له، فقد ذكر ابن خلدون أنه كان يشك في إخبار ابن بطوطة نظرا لتواتر الألسنة بتكذيبه، ولكنه قال ان ابن ودوار حذرني من الانسياق إلى أقوال الناس لما في ذلك من التحكم، ونهائي أن أستنكر شيئا من أخبار الأمم ما دمت لم أر بعيني ما يخالفه.
ولما أصبح ابن بطوطة يذيع مشاهداته وينشرها بين الخاصة والعامة، ـمر أبو عنان كاتبه أبا عبد الله محمدا بن جزي بأن يضم أطرافا ما يليه هذا الرحالة في كتاب يكون جامعا لفوائده مكملا لقاصده مع العمل على تنقيح الكلام وتهذيب معانيه.
قال ابن جزي ( ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمعاني التي اعتمدها، وربما أوردت لفظة على وضعه فلم أخل بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما أوردت جميع ما أوردت من الحكايات والأخبار ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختيار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهده سائرها بما بما يشعر من الألفاظ بذلك، وقيدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط ليكون أنفع في التصحيح والضبط،وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية لأنها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس).
وكانت هاته المقدمة بمثابة تصميم خاص تقيد ابن جزي به في كتابة الرحلة والتزم تالسير على خطته في حبكما إلا أننا يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب التي دعت أبا عنان المريني ليصدر أمره بكتابة الرحلة إلى كاتبه، أليس لابن بطوطة القدرة على كتابة رحلته بنفسه؟
الظاهر أن سبب ذلك يرجع إلى أمرين: أما أولهما فسياسي واما الثاني فأدبي، ونحن سنخصص حديثنا في هذا الموضوع عن الجانب السياسي فقط، وأما الجانب الأدبي فسنخصص له بحثا آخر.
الجانب السياسي يرتبط بالغاية التي كان يتوخاها أبو عنان من نشر الرحلة، فإنه كان يريد أن يستغلها للدعاية له ولأعماله، وأن يجعلها وسيلة للمس بأعدائه والكشف عن مساوئهم بحيث لا يقتصر ابن بطوطة عن نشر الأخبار مجردة بل يضيف إليها في كل مناسبة ما يرفع به بني مرين على العموم.
واذا كان ابن بطوطة قد يتوقف في هذا العمل بالنسبة إلى مرئياته العامة فهو ليس له إلمام بكثير من الحوادث السياسية التي وقعت بالمغرب أيام غيبته الطويلة، لذلك كان من الضروري أن يضاف إليه شخص آخر تكون له دراية بالوقائع الحديثة ومعرفة بأحوال الدولة القائمة وعلم بالسير العام الذي تسير عليه سياسة الدولة في الداخل والخارج، ولم يجد ابو عنان من كتابه من تجتمع فيه هذه الصفات مثل أبي عبد الله ابن جزي لذلك أمره بجمع ما يمليه ابن بطوطة في كتاب جامعا لفوائده مكملا لمقاصده.
ولقد عمل هذا الكتاب على تحقيق الغاية من اختياره، فكان لا يتوانى عن ذكر محاسن أبي عنان وغيره من ملوك بني مرين ولا يقصر في الحديث عنهم مهما أمكنه ذلك.
لما ذكر ابن بطوطة في رحلته الخصام الكريمة التي يتصف بها ملك العراق أبو سعيد بهادرخان قال ابن جزي: (كرم الله هذه الكنية الشريفة فما أعجب أمرها في الكرم وحسبك في مولانا بحر المكارم ورافع راية الجود الذي هو آية في الندى والفضل أمير المسلمين ابي سعيد ابن مولانا قامع الكفار والآخذ للإسلام بالثأر أمير المسلمين ابي يوسف قدس الله أرواحهم الكريمة، وأبقى الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين) (1) ولما تعرض ابن بطوطة لذكر مآثر أبي الحسن في جبل الفتح تعرض ابن جزي لمواقفه الحربية، ولاستيلائه عليه، من يد الإسبان فقال: ( ثم فتحه مولانا ابو الحسن رضوان الله عليه واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكهم له عشرين سنة ونيفا، وبعث إلى حصاره ولده الأمير الجليل أبا مالك وأيده بالأموال الطائلة والعساكر الجرارة، وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ولم يكن حينئذ على ما هو الآن عليه، فبنى به مولانا ابو الحسن رحمة الله عليه المآثر العظمى بأعلى الحصن، وكانت قبل ذلك برجا صغيرا تهدم بأحجار المجانيق فبناها مكانه وبنى به دار الصناعة ولم يكن به دار صنعة وبنى به السور الأعظم المحيط بالتربة الحمراء (2).
ولما تحدث ابن بطوطة عن فضل أبي عنان وشيمه الكريمة قال ابن جزي: ( لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد عليه أهون من قتل الشاة على الأسد فإنهلما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة يحوز سلا وتحامته الأبطال وفرت أمامه الفرسان والرجال، برز إليه مولانا ايده الله غير محتفل به ولا متهيب منه، فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعا) (3).
ثم قال: (…لو أن عالما ليس له شغل الا بالعلم ليلا ونهارا لم يصل إلى أدنى مراتب مولانا ايده الله في العلوم من اشتغاله في امور الأمة وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره احد من الملوك، ونظره بنفسه في شكاية المظلومين ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسالة علم في أي علم كان الا جلا مشاكلها، وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها، واستدرك على علماء مجلسه مافاتهم من مغلقاتها).
وفي هذا التقريظ من المبالغة ما لا يخفى.
وليس إظهار موقف ابن جزي من بني مرين في الرحلة معناه سلبية موقف ابن بطوطة فان هذا الأخير أيضا استطاع ان يقوم بواجبه نحوهم وان يصور أعداءهم تصويرا مشوها فقد ذكر بعد خروجه الموحدين وولاتهم).
من المغرب ومروره بالجزائر ان احد المسافرين قد توفي وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها رجلا ليوصلها الى ورثته بتونس ولكن والي بجاية علم بذلك فانتزعها من الوصي واستبد بها دون أربابهاـ قال ابن بطوطة ( وهذا اول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم).
إن التحدث عن ظلم الموحدين إنما هو إشارة إلى مشروعية الأعمال التي قام بها بنو مرين ضد الدولة الحفصية بتونس، فلقد توج أبو الحسن المريني إلى تونس وأزال الحفصيين من الحكم واستقر بها إلا أنه وجد معارضة كبيرة من بعض العرب فقاوموه مقاومة شديدة أدت إلى حصاره بالقيروان في سنة 749 ه، ولقد اتفق هؤلاء العرب على تولية احد الموحدين عليهم، واستطاعوا ان يستميلوا إليهم رجلا كان في جانب أبي الحسن هو أبو عبد الله محمد بن تافرجين ففر معهم واستغل معارضتهم لمصلحته، ولكن ما لبث أن فر إلى الإسكندرية حينما اضطرب أمر أصحابه.
ولما وصل ابن بطوطة إلى تونس ذكر اتصل بالملك أبي الحسن المريني وكان من الأسئلة التي وجهها إليه الأمير سؤاله عن ابن تيفرجين، قال ابن بطوطة: ( فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وأمرني بالقعود فقعدت، وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته وسألني عن ابن تيفرجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه وأرادتهم قتله بالإسكندرية، وما لقي من اذايتهم انتصارا منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه).
ان ابن بطوطة هنا ايضا يظهر تعلق المغاربة بملكهم ابي الحسن رغم وجودهم في خارج المملكة لأنهم حاولوا قتل رجل علموا بخيانته للملك.
ولا شك أن تعرض ابن بطوطة لابن تيفراجين وتحدثه عن كراهية المغاربة له، يرجع الى الدور الخطير الذي لعبه هذا الرجل في تاريخ بني حفص، والتخوفات العظيمة التي كانت تنتاب ملوك بني مرين منه، لأنهم كانوا يعرفون قوة دهائه وكثرة حيله فهو الذي كان قد أثار حربا داخلية في تونس واستطاع الفرار بعد إذكائها في المغرب الأقصى وهو الذي استطاع في أيام لجوءه أن يزين لأبي الحسن غزو تونس والقضاء على بني حفص مؤملا من ذلك أن يفوض إليه الملك المريني أمر تونس بعد انتصاره فلما لم يبلغ هدفه قلب ظهر المجن، وازور عن أبي الحسن واتصل بأعدائه وتزعم الثورة ضده حتى إذا خشي الفشل فر إلى الإسكندرية وطاف بالشرق ينشر الدعاية لنفسه، وينتظر الفرصة للانقضاض على أبي الحسن مرة أخرى، ولذلك اهتم هذا الأخير بفراره، وعمل الوسائل على معرفة أخباره فلم يتصل بابن بطوطة حتى سأله عنه ولكنه طمأنه على الأقل بموقف المغاربة منه.
والحقيقة أن تخوفات أبي الحسن كانت صائبة فلم يلبث ابن تيفراجين أن رجع إلى تونس في ثامن عشر جمادى الأولى من سنة 751 هـ، وقام بانقلاب خطير في الدولة الحفصية حيث ولى على الملك أبا إسحاق إبراهيم ابن المولى أبي بكر وهو يومئذ قد ناهز الحلم (4)وتحقق لابن تفراجين ما أراد وأصبح شأنه في تونس كشأن المنصور ابن أبي عامر بالأندلس عند نهاية الأمويين بها، فقام بتدبير أمور الدولة وكان له في ذلك شأن عظيم، ولذلك يقول لسان الدين بن الخطيب عند تحدثه عن أبي الحسن المريني ونهايته بتونس وإرجاع الدولة الحفصية بها ( ثم ضم نثرهم بعد نكبته وخروجه عن وطنه بإبراهيم بن أبي بكر عضد أمره وجبر دعونهم بهشيخ جماعتهم وفخر أوليائهم المجتمع على الأصالة دهائه وصحة تمييزه واعتدال سيرته أبو محمد بن تيفراجين (5).
هذا ولم يغفل ابن بطوطة حين توج إلى الأندلس الأسباب التي دعته إلى ذلك قال: (فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا فوصلت إلى بلاد الأندلس حرصها الله تعالى حيث الأجر موفور للساكن والثواب مذخور للمقيم والظاعن، وكان ذلك أثر موت طاغية الروم الفونسو وحصاره الجبل عشرة أشهر وظنه أنه يستولي على ما بفي من بلاد الأندلس للمسلمين فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات الوباء الذي كان أشد للناس خوفا منه) (6).
ان تحدثه عن حصار الإسبانيين لجبل الفتح مدة عشرة أشهر دون أن يستطيعوا التغلب عليه ليدل على ما كان لأبي عنان من العناية بحماية الدولة من الأعداء ومقاومة كل من يحاول الاستيلاء على بعض مراكزها والاستماتة في ذلك، ولقد ذخر ابن الجزي في هذه المناسبة بابن أبي عنان كان يهيء العدة في أيام السلم حتى لا يخول لمن تسول له نفسه الحرب أن ينتصر قال: ( ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل، واستكثاره من عدد البحر وهذا في زمن الصلح والمهادنة، إعدادا لأيام الغزاة، وأخذ بالحزم في قطع أطماع الكفار وأكد ذلك بتوجهه أيده الله بنفسه إلى جبال جاناتة في العام الفارط ليباشر قطع الخشب للإنشاء، ويظهر قدر ماله في ذلك من الاعتناء، ويتولى بذاته أعمال الجهاد مترجيا ثواب الله تعالى وموقنا بحن الجزاء) (7).
ومن أهم ما اهتم به ابن بطوطة في رحلته إظهار بني مرين بالعلم واهتمامهم بشؤون الثقافة والعمران لأنه يعلم أن هذا الجانب له أثر عظيم في الرفع من قيمتهم وتخليد مجدهم فلقد نحدث عن أبي عنان فقال: ( وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كل يوم بعد صلاة الصبح ويحضر لذلك أعلام الفقهاء، ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة وفي كل علم منها له القدح المعلى، يجلو مشكلاته بنور فهمه، ويلقي نكته الراقية من حفظه، وهذا شأن الأئمة المهتدين، والخلفاء الراشدين، ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية) (8).
ثم تحدث عن أبي الحسن بتونس فذكر أنه كان بمجلسه عدد من العلماء وذكر منهم عالمين مغربيين وهما الإمام أبو عبد الله السطي، والإمام أبو عبد الله محمد بن الصباغ، وعالمين تونسيين وهما قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع، وأبو عبد الله بن هرون (9).
إن وجود العلماء بمجلس الملك دليل على اهتمامه بهم واسترشاده بآرائهم، ولقد سجل التاريخ بأن أبا الحسن كان يشجع العلم حقيقة، وكان لا يسافر إلا والعلماء بجانبه ولقد ذكر الأستاذ عثمان العكاك عند التحدث عن أبي الحسن في تونس قوله: ( ومن غريب ما اتفق للسلطان أبي الحسن أنه اصطحب إلى إفريقية أكابر العلماء مثل ما فعل نابليون في زحفه على مصر).
وعليه فإن ملاحظة ابن بطوطة على ذكر الاهتمام العلمي بل تحدث عن العمران العام الذي خلفه المرينيون فوصف آثار أبي الحسن بجبل طارق، وتحدث عن المدرسة التي بناها أبو عنان بحضرة فاس فقال: ( ومدارس خراسان والعراق ودمشق وبغداد ومصر وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن فكلها تقتصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله، المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان وصل الله سعده، ونصر جنده وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسه الله تعالى فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعا، ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه) .(10)
وكأني بالقارئ بعد هذا العرض العام قد عرف آثار بني مرين في الحضارة المغربية واطلع على بعض جوانبها من خلال رحلة ابن بطوطة إلا أنه يمكن له أن يستفهم عن وجود ملكين في آن واحد ولدولة واحدة أحدهما بتونس، والآخر بالمغرب، يمدح كلاهما وتذكر مآثرهما بكل إجلال حتى لا يشعر القارئ بأي خلاف كان موجودا بينهما فهذا أبو الحسن بتونس، وهذا ولده ابو عنان بالمغرب الأقصى وكلاهما أثنى عليه ابن بطوطة وابن جزي معا فهل من المعقول ذلك؟ الواقع التاريخي يثبت الخلاف لأن أبا الحسن بعد استقراره بتونس وقعت بينه وبين الحفصيين حروب كاد يغلب في بعضها، فقتل من جنوده عدد كبير حتى شاع الخبر بهزيمته ونقلت جماعة من بني مرين وبني عبد الواد إلى أبي عنان بأن أباه كان أحد ضحايا الهزيمة فلم يسعه إلا أن يضم شأن البلاد، وأن يعلن البيعة لنفسه، ولكن لم تمر أيتم حتى ظهرت له الحقيقة وعلم أن أباه ما زال على قيد الحياة.
هذه مشكلة كبرى حدثن لأبي عنان فهل من المصلحة أن يتنازل عن الملك لأبيه؟ أم يجب عليه أن يستمر في ولايته ويلزم أباه بالتخلي عن العرش؟ إن الشعب أصبح مرتبطا به، وأنه يخشى على شؤون الدولة إذا ما تنازل عن الحكم، لأن أباه فقد تلك الهيبة التي كان يتمتع بها، وأخيرا رأى من المصلحة استبقاء الحكم رغم ما سيحدث عن ذلك من الأحداث، وأرسل الجنود لحماية الحدود وللقضاء على زحف أبيه، لكن شاء القدر أن يعبر أن يعبر أبو الحسن البحر وأن يصاب بالزوابع، وأن يصل إلى فئة قليلة من جنده إلى المغرب وأن يحارب ابنه، وشاء القدر أن تكون النتيجة عليه فيقتل بأحواز مراكش، بل يذكر بعض المؤرخين بأنه انتحر حزنا، وأنه قبل الانتحار أرسل رسالة إلى ابنه، يطلب منه أن ينتقم له من بني عبد الواد بتلمسان، ويذكر الشماع كيفية الانتحار فيقول: (فقصد نفسه في الذراعين، وترك دمه يسيل حتى مات في عشر صفر عام اثنين وخمسين وسبعمائة).
وبعد موته تولى ابنه دفنه وأقام له الجنازة، ولم يترك الألسنة تتحدث عن مقتل أبيه لأنه كان لا يطمئن إلى ذلك ولم يكن له بد من العمل على نشر بعض الأسباب التي دعته إلى مقاومة أبيه وتبيان ذلك، خصوصا في أراضي السودان التي كانت مرتبطة بأبي الحسن ارتباطا متينا فلقد كانت السفارات متبادلة بين مالي والمغرب، وكان السفير المالي في المغرب على عهد أبي الحسن هو الحاج موسى الونجراتي، ولما خشي أبو عنان من إفساد العلاقة بينه وبين السودان أرسل ابن بطوطة ليقوم بذلك ويظهر فضل أبي عنان والترحم على أبي الحسن رغم أن نهايته كانت على يده وحضر ابن بطوطة في مالي حفلة أقيمت لتباين الملك الراحل حضرها سلطان مالي والأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب، ثم ذهب بعد ذلك إلى تكدا ليقوم بنفس العمل ولكنه جاءته الأوامر السلطانية بالرجوع إلى فاس فلبى الطلب بسرعة: (فلما عدت إلى تكدا وصل غلام الحاج محمد بن سعيد السجلماسي بأمر مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين آمرا لي بالوصول إلى حضرته العلية وامتثلته على الفور …..وخرجت من تكدا يوم الخميس حادي الحادي عشر شعبان سنة 754 ه في رفقة كبيرة فيهم جعفر التواتي وهو من الفضلاء) وأن المطلع على هذا النص سيقرر معي أن الرحلة السودانية لم يقم بها ابن بطوطة إلا بأمر من أبي عنان وأنها كانت مقصودة للدعاية له لأن الأمر بالإياب يستلزم الأمر بالذهاب.
ولما رجع ابن بطوطة إلى فاس ارتبط بالخدمة مع الدولة المرينية واستمر في ذلك إلى أن توفي سنة 779 هـ موافق 1377 م.
(1) نسبة إلى حاجة القبيلة المصمودية الشهيرة اقرأعه بحث الأستاذ عبد القادر ومامة بالعددين 2-4 من مجلة دعوة الحق السنة 5 وهاته النسبة قياسة الا ان الاستاذ عميد الجامعة محمد الفاسي يقول عنه: العبدري الحيحي لانه ذكر ان النيبة الى حاحةحيحي على غير قياس كما يتلفظ بها اهل البلاد انظر بحثه عن الرحالة المغاربة واثارهم في مجلة دعوة الحق ايضا العدد 3 من السنة الثانية.
(1) أبو عبد الله كنية لمحمد بن بطوطة وكان يلقب في الشرق بشمس الدين وفي الهند ببدر الدين.
(1) رحلة ابن بطوطة الطبعة الثانية الجزء الثاني صفحة 107.
(2) نفس الرحلة والجزء صفحة 184
(3) نفس الرحلة والجزء صفحة 180
(4) الأدلة البينة النورانية عن مفاخر الدولة الحفصية للشيخ أحمد الشماع، ألفه في أواخر 861 ه، وعلق عليه الأستاذ عثمان الكعاع طيع بتونس 1936 م صفحة 129.
(5)اللمحة البدرية في الدولة النصرية للسان الدين بن الخطيب طبعه سنة 1947 ه صفحة 9.
(6)رحلة ابن بطوطة الجزء الثانيصفحة 183 نفسالطبعة.
(7)نفس المصدر صفحة 183
(8)نفس المصدر صفحة 181
(9) نفس المصدرصفحة 178.
(10)نفس الرحلة الجزء الأول ص 252
المصدر: دعوة الحق، العدد 49 ، أبريل 1962