دراسات

دور العقيدة الأشعرية في إرساء التسامح والتعايش السلميين في إفريقيا: السنغال والمغرب نموذجين

إذا كانت العقيدة تحدد توجهات الإنسان الكبرى، وتضبط منظومات قيمه، بترشيدها أو تضليلها من خلال تصرفاته التي تصدر عنه في حياته وسلوكه الذي يناسبه أو يخاله؛ وانعكاس ذلك في إرساء نور التسامح والتعايش السلمي أو عكسه في إرساء سدول الكراهية والبغضاء وتكفير المخالف حتى قتاله… فإن العقيدة الأشعرية باتسامها وتحليها بالوسطية والاعتدال، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)1 مكّنتها هذه الوسطية وهذا الاعتدال، من تحاشي رذائل الإفراط والتفريط، والغلو، والتطرف، والإرهاب؛ والمزج في تناسق وتناغم بين النقل والعقل، أو بين الطبع والشرع.

وتمثل القارة الإفريقية على العموم، والسنغال والمغرب على وجه الخصوص روافد نموذجية للتسامح والحوار والتعايش السلمي بين أبنائها رغم تعدد المرجعيات والطرق الصوفية فيها.

ما هي العقيدة الأشعرية؟

ينتسب المذهب الأشعري إلى مؤسسه علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري، وكنيته أبو الحسن؛ وقيل إنه لقب بالأشعري لأن أمه ولدته وهو أشعر. وقيل لأنه من ولد أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل. وقد ولد سنة 260ه‍، وتوفي سنة324ه‍. والأسس والمرتكزات التي يعتمد عليها المذهب الأشعري هي منهجيته التي تخالف المعتزلة في العمق، ذلك أنه في الوقت الذي يعطي فيه المعتزلة الصدارة للعقل باعتباره أداة معرفية فعالة في جميع المستويات؛ نجد الأشاعرة يعطون هذه الصدارة الأولية للنص الديني، وينفون أن تكون للعقل مثل هذه الفعالية. وإذا بحثنا في الأصول عند الأشاعرة فإننا لا نجدها كتلك التي عند المعتزلة، فإن ما يميز الأشاعرة هي قناعتهم العامة والمشتركة بمشروعية النظر العقلي في أمور العقائد، ذلك أنهم يدبجون كتبهم العقدية ويبدؤونها في الغالب بإثبات النظر والدفاع عن مشروعيته الدينية، والاستدلال على ذلك بأدلة عقلية وأخرى نظرية. وللأشاعرة بناء منهجي متناسق في أنسابهم الفكرية، كالإيمان بذات الله وصفاته، وما اندرج تحتها من محاور.. ولذلك تمكنت الأشعرية من الانتشار لدى غالبية الأمة الإسلامية في المشرق، والشام، ومصر والمغرب وأفريقيا السمراء. وخلاصة القول في الأشعري ما قاله السبكي: «وأنا أعلم أن المالكية كلهم أشاعرة لا أستثني أحدا، والشافعية غالبيتهم أشاعرة، لا أستثني إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال مما لا يعبأ الله به، والحنفية أكثرهم أشاعرة، أعني يعتقدون عقيدة الأشعري.. والحنابلة أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة، لا يخرج منهم إلا من لحق بأهل التجسيم..».

نبذ التكفير وإرساء التسامح في الأشعرية.

إن العقيدة الأشعرية تعرف الإيمان بأنه هو التصديق بالله عز وجل، فالإيمان عندهم، «اعتقاد بالجنان، وقول باللسان». وليس ضروريا أن يكون مقترنا بالعمل بالأركان؛ فالإيمان عندهم، يزيد وينقص. بعكس عقيدة المكفرين الذين سموا أنفسهم «سلفيين»، فالسلفية أبعد ما تتعاطى سفك الدماء وإزهاق الأرواح. فعقيدة هؤلاء اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، فإذا انتفى واحد من هذه الثلاثة وجب تكفير الشخص وقتاله. بعكس الأشاعرة، فإنهم يعتبرون الإيمان مجرد اعتقاد بالقلب، فلم يشتركوا العمل بالجوارح، فيكفي أن يكون عند الإنسان اعتقاد وتصديق كي يكون مؤمنا، وعكسه هو الكفر، فهذا الأخير عندهم هو عدم الاعتقاد، أو الجهل بالخالق والتكذيب به؛ وعلى هذا الأساس فإن مرتكب الكبيرة ليس جاهلا بالله ولا مكذبا به، فهو إذن ليس كافرا، وإنما هو مؤمن، إن تاب رجع كيوم ولدته أمه. وبهذا نرى أن الأشاعرة ينبذون تكفير أهل الملة بذنب ومعصية، ويتركون الفرصة للعاصي بالإقلاع والتوبة… ويؤمن الأشاعرة بالكرامات والأرواح والجنة والنار، وبالصراط والميزان والحوض.

إفريقيا رحاب الأشعرية الفيحاء.

إن إفريقيا احتضنت العقيدة الأشعرية منذ بداية نشأتها، فالشخص الذي يرجح أنه من أوائل من أدخل الأشعرية في إفريقيا هو أبو الحسن القابسي (ت403ه‍)، ذلك أنه خرج من الأندلس في اتجاه المشرق طلبا للعلم، فالتقى هناك بأشاعرة أثروا فيه تأثيرا واضحا، عكسه في دفاعه عن مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري، معتبرا إياه واحدا من جملة القائمين بنصرة الحق، ما سمعنا من أهل الإنصاف من يؤخره عن رتبته تلك، ولا من يؤثر عنه في عصره. وتخرج من مدرسة القابسي- كما أخبر المؤرخون أيضا- أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الفاسي (ت357ه‍)، دفين فاس، الذي اشتهر عنه أنه رحل إلى المشرق مبكرا، واحتك ببعض أقطاب الفكر الأشعري هناك، وألف رسالة في الدفاع عنهم. وقد تخرج من مدرسة القابسي الأشعري تلميذه المسمى بأبي عمران الفاسي الغفجومي (ت430ه‍)، الذي استطاع أن يساهم بقسط وافر في نشر المذهب الأشعري وتعميمه في المغرب خصوصا، وإفريقيا عموما. وقد تميز هذا الأخير عن غيره من المغاربة والطلبة الذين سافروا إلى المشرق لطلب العلم، فقد كان نابغا في حلقات دروس العالم المالكي تلميذ أبي الحسن الأشعري، الإمام أبي بكر الباقلاني (ت403ه‍)، حتى استحق أبو عمران الفاسي شهادة أستاذه الباقلاني فيه، حيث قال له: «لو اجتمعت في مدرسة أنت وعبد الوهاب بن نصر لاجتمع فيكما علم مالك بن أنس (ت179ه‍)، أنت تحفظه، وهو ينصره؛ ولو رآكما مالك لسر بكما». وهناك شخصيات مغربية وتونسية ساهمت في نشر الأشعرية في إفريقيا كأبي عمر الطلمنكي (ت429ه)‍، وأبي الوليد الباجي (ت474ه)‍.. وغيرهما. فقد كانت القيروان والقرويين مركزي إشعاع الفكر الأشعري، وكان أبو عمران الفاسي من حاملي مشعل وشهاب هذا التنوير الفكري، فوسع دائرة الفكر الأشعري في أوساط القارة الإفريقية من خلال تلامذته المغاربة الأفارقة، أمثال أبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي (ت488ه‍)، وأبي الحجاج يوسف بن موسى الضرير (ت520ه‍)، ووكاك بن زلو اللمطي (ت465ه‍)، وعبد الله بن ياسين (ت451ه‍)، ويحيى الكدالي (ت1036ه‍)، والملك السنغالي وار كأبي (ت1045ه‍)، وابنه لبيب (ت1062ه‍). والذين جاؤوا من بعدهم من أعلام السنغال كالشيخ القاضي عمر فالت (ت1048ه‍)، والشيخ مختار اندومبي جوب (ت1197ه)‍، والشيخ سليمان راسين بال (ت1183ه‍)، والشيخ عمر تلفوني تال (ت1281ه‍)، والشيخ الحاج مالك سي (ت1341ه‍)، والشيخ أحمد بن مبكي (ت1346ه‍)…

السنغال والمغرب نموذجان في التسامح والحوار والتعايش السلمي.

إن السنغال والمغرب بحكم تقاربهما الجغرافي، وتشاركهما في الثوابت الدينية، مثل العقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف الجنيدي، المتمثل في متن ابن عاشر:

ذلك أننا في السنغال نلاحظ واقع هذا التسامح والحوار والتعايش السلمي بين الناس، فشعب السنغال متشكل من أغلبية مسلمة، وأقلية مسيحية ووثنية، ولكنه يتعايش بسلام ووئام، فالعمليات الإرهابية التي تصدر جراء المعتقدات المنحرفة من المقاتلين الذين يكفرون الإنسان لمجرد اختلاف في التصور العقدي، كأمثال «بو كو حرام» و «جبهة النصرة» و «المرابطين»… المنبثقة من الفكر الظلامي للقاعدة وداعش، فالسنغال بمنأى عن ذلك؛ لأن العقيدة الأشعرية لا تكفر أحدا بذنب ارتكبه أو معصية اقترفها، وهي عقيدة السنغاليين منذ دخول الإسلام إلى السنغال إلى يومنا هذا. فقتل النفس عمدا أمر خطير في الإسلام، ففي القرآن: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).2

وفي المملكة المغربية كذلك نرى أن اليهود يشكلون أقلية فيها، إلا أنهم يتمتعون بحقوقهم كاملة، ولا يتعرضون لأي مضايقات بانتمائهم الديني والعرقي، فالتعايش السلمي والتسامح والحوار هو الذي يسود المملكة منذ تربع العائلات المالكة على عروشها. فالعقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف الجنيدي هي ثوابتنا ومقوماتنا التي تشبثنا بها، ونعض عليها بالنواجذ. فقد فهمنا مبكرا مقاصد الشريعة وحكمتها في الاختلاف والتمايز، (لا إكراه في الدين)3، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)4؛ (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)5؛ (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)6.

فسنة الله في الحياة أن يكون الناس مختلفين في عقائدهم وأجناسهم وألوانهم… والحكمة تقتضي الحوار والتعايش السلمي، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

خاتمة:

من خلال هذه المقالة المختصرة، والعجالة الملخصة نستنتج أن دور العقيدة الأشعرية ومساهمتها في إرساء التسامح الديني، وإرخاء الحوار والتعايش السلمي في إفريقيا عموما، والسنغال والمغرب خصوصا، واقع معيش وملموس تتمتع به شعوبها، إلا ما استثني من بعض البقاع التي لا تتبنى العقيدة الأشعرية والتي تسرب فيها داء الاعتقاد المنحرف الفاسد، الذي أدى إلى إراقة الدماء وإزهاق الأرواح وإلحاق الأضرار بالبلاد والعباد.

د. محمد بشرى عيسى جيي
مدير الأبحاث والدراسات في الشؤون الأشعرية في السنغال

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى