استهل الكاتب مذكراته اليومية شارحًا الظروف التي دفعته إلى الإقدام على المشاركة الاختيارية والتطوع التلقائي كجندي في فرقة الخدمة المدنية التابعة للجيش الثالث المعبأ على عجل إمدادًا للجيشين الأولين اللذين كانا يقاتلان فعلاً في واجهة سبتة ضد الجيوش المغربية منذ أن أعلنت إسبانيا الحرب على المغرب في 22 أكتوبر 1859، ذاكرًا أن انطلاقته الأولى كانت من مالقة يوم 11 ديسمبر 1859 قائلًا: وأخيرًا، وبعد شهر من الانتظار جاء يوم ركوبنا.. سنقاسم إخواننا الذين يحاربون في الضفة الأخرى من البوغاز، وأسطولنا يتكون من 20 باخرة (بأسمائها) وعلى ظهرها عشرة آلاف جندي (ذكر طوابيرها) وكتيبة من الخيالة وأخرى من المدفعية.
تأليف: الكاتب الإسباني دي ألاركون
عرض وتقديم وترجمة: الأستاذ رضى الله إبراهيم الأيفي
عن دخوله لتطوان ( في فبراير 1860) :
نوالي عرض ما قصدنا لأجله في هذه الترجمة من ذكر بعض أحوال تطوان المدنية والاجتماعية مما استخلصناه من يوميات الكاتب الإسباني دي الاركون المتطوع في فرقة الخدمات المدنية التابعة للجيش الثالث الذي أتى من إسبانيا على عجل مددًا للجيشين الأول والثاني في الحملة الحربية العظيمة القاصدة احتلال تطوان (1860) انطلاقًا من مدينة سبتة المجاورة التي لا تفصلها عن تطوان إلا نحو أربعين كيلومترًا ومع ذلك استغرق القتال بينهما أكثر من ثلاثة أشهر وقد شاهد صاحبنا الاركون منها قرابة شهرين ابتداء من 11 ديسمبر 1859 تاريخ خروجه من مالقة إلى 6 فبراير 1860 حين دخوله تطوان مع القائد العام اودونيل .. تلك الفترة القاسية الهائلة التي قاسى فيها الكاتب الأمرين، مرارة الحرب الفظيعة ومرارة فصل الشتاء القارس والأمطار المتوالية وتراكم الأوحال والزّوابع وانتشار الأوبئة والأمراض .. وغير ذلك من الأهوال والمتاعب التي جعلت كاتبنا يستبشر ويطير فرحًا لما وجد نفسه على أبواب تطوان حيث كتب ما يلي: “أخيرًا وصلنا .. أخيرًا أستطيع أن أؤرخ هذه الرسائل (لأنه كتب يومياته في صورة رسائل صحافية) من تطوان بعد ما أرختها بعدة نقاط في الطريق من سبتة، من السراى، من الفنيدق، من واد اسمير، من كابو نيكرو، من الواد الحلو .. كل هذه الأسماء الملطخة بالدماء التي عنونت بها عدة مرات مذكرتي تبدو لي الآن في مخيلتي كأنها أضغاث أحلام .. وكذلك معسكراتنا ومخيماتنا فإنها اختفت وتعيش الآن في طيات التاريخ الذاهب .. كم من ليالٍ مرت تحت خباء تعصف به الرياح أو على ضوء نار خافت أو على قمم جبال موحشة وفي غابات وسهول وضفاف أنهار وفي خنادق وأغوار .. وتحت وطأة ذلك الشتاء الطويل الذي عشنا فيه كأننا وحوش مفترسة في الأدغال .. وفي غمار تلك المعارك الضارية التي صورنا فيها جوعًا وكابدنا الأتعاب والحرمان والإهمال .. وصارعنا خلالها الأمراض والموت الزؤام .. كل ذلك قد انتهى الآن .. انتهى ابتعادي عن المجتمع وعن العالم كله .. تلك الوحدة الموحشة التي طويت فيها ليلة الميلاد وليلة السنة الجديدة ويوم الملوك الثلاثة .. أيام وليالٍ قضيتها بألم مزدوج وبحسرة وانقباض .. كل ذلك مضى وذهب مع الأيام .. الآن أنا في سبيلي إلى سقف يظلني وإلى بيت يؤويني وإلى مدينة تحتويني .. كل آمالي تحققت .. وأنا واحد من المحظوظين الذين يدخلون تطوان ..
ثم أخذ يروي أخبار تطوان الواصلة إليهم ممعنًا في ذكر الحالة السيئة التي كانت عليها المدينة في الليلة السابقة لدخولهم إياها .. ثم ذكر كيف نظم القائد العام اودونيل موكبه قبل الدخول وكيف رتب كل شيء للمسير إليها .. حيث عين على كل فرقة من جيوشه جنرالًا من جنرالاته دخل على رأس فرقته في الجهة المعينة له .. وسار هو بوصفه القائد العام على رأس طابور يتقدم موكبه ومعه أركان حربه قاصدًا الباب المعروف بباب المقابر حسب الخطة التي كان قد رسمها وكانت محل اتفاق بينه وبين الوفد الممثل لسكان تطوان وعلى رأسهم أحمد ابعير .. قال الكاتب: وأنا منذ البداية اتخذت قرارًا أن لا أفارق الجنرال اودونييل في هذه الساعة المشهودة لأتمكن من مشاهدة سائر المراسم وأسجل جميع المشاهد والوقائع الكبرى التي تصحب هذا الحدث العظيم.
الدخول :
كانت الساعة التاسعة صباحا يوم 6 فبراير 1860 حين تحرك موكب القائد العام نحو باب المقابر منطلقا من معسكر العام الذي يقع اسفل المدينة على طريق مارتيل .. فاغتنم الاركون الفرصة فصار يصف ما يمز عليه فى طريقة من معالم المدينة وضواحيها ومزارعها وبقايا العمارة ومخلفات الحرب ومنازل مهدمة وسواقى وقناطر وخنادق .. واشياء اخرى كثيرة جعلته يتذكر بروح شعرية حالة طفولته وكيف كان يلعب ويجري فى مدينته الموريسكية واد آش .. فى بيئة اشبه بما رآه هنا خارج تطوان .. ولم يصرفه عن تأملاته وتخيلاته الا وصول موكب اودونيل الى باب المقابر ..وكان فى حسابه ان يجده مفتوحا وفيه من ينتظره .. ولما وجده مغلقا ولا من ينتظره اصدر اوامره بفتح الباب واجابه الحراس من الداخل بان ليست عندهم المفاتيح فامرهم بكسر الاقفال .. وفعلا كسرت الاقفال وفتح الباب .. فدخل القائد العام بمفرده على فرسه آمرا من معه ان لا يدخل معه احد خوفا من مكيدة تدبر لهم .. ولما اطمأن على سلامة المكان عاد اليهم واذن لهم فى الدخول .. وفى نفس الوقت كان قواده الآخرين قد دخلوا المدينة من الابواب المعينة لهم ، ولم يلقوا مقاومة تذكر .. وكانت فرقة تقدمت الى اعالي القصبة المطلة على المدينة ورفعت العلم الاسباني على صاريها وحيته بطلقات مدفعية اهتزت لها المدينة وزرعت الهلع فى النفوس .. وعلى الاثر سارت الفرق العسكرية تحتل احياء المدينة وابراحها وساحاتها واجواقها الموسيقية تصدح باهزيجها واناشيدها وهتافاتها .. الا انها لم تجد تجاوبا الا من نزر قليل من السكان المتمثل بل المنحصر فى الاقلية اليهودية ومن على شاكلتهم .. كما يتجلى ذلك واضحا من يوميات الكتاب ..
استطلاع :
اما القائد العام فانه قبل ان ينزل الى المدينة واى ان يصعد مترجلا هو ومن معه الى اعالي القصبة حيث يرفرف العلم الاسباني ويلقي من هناك نظرة عامة فاحصة على المدينة وابراجها واحيائها واحوازها ليعلم كيف يرسم خططه ويتصرف ..
ومما كتبه الاركون عن هذا الاستطلاع الاول انهم فى طريقهم اليه اجتازوا على مقابر المسلمين الاولين وظنوها فى اول الامر بقايا منازل قديمة ( نظرا الى الطريقة العتيقة التي كان الاندلسيون يبنون بها القبور حيث كانوا يجعلونها على هيئة حوش مغطى بقباب واقواس كما يدل عليه المتبقى منها الى الآن ) .. ووصف الاركون بانه لم ير ابهى منها وبان اقواسها وزخارفها لا يوجد لها مثيل فى اروبا وانها كلها بالآجر والجبر وباتقان وبياض باهر وتنبت فيها اشجار اللبلاب والخروب وازهار الياسمين والرياحين .. ولكن لا اسماء عليها ولا تواريخ ولا كتابه .. قائلا : ان الموت هنا بليغ وان كان اصم ابكم .. كالذي يوجد فى تصورات الانسان .. واضاف : اننا صعدنا من هذا المكان المقدس بدون مبالاة .. نقفز من قبر الى قبر باقدامنا واحديتنا وتصطدم اسلحتنا برخام المقابر .. ولا شك من وطأة اقدامنا واسلحتنا .. اولئك النبلاء العرب الذين ولدوا بغرناطة وجاءوا ليموتوا فى هذه الارض .. اولئك الذين لم يجل بخاطرهم انه سياتي يوم تلحق فيه هذه المحنة ابناء النبي .. آه .. لو استيقظوا ورفعوا الرؤوس وراونا بالصليب على الصدور والسيوف على الحزام .. ثم استرسل يقول : وبينما افكر على هذه الصورة اذا بنظراتي تتبع سربا من حمامات بيضاء وهي تطير فوق المدينة وتروعها جلبة وضوضاء جنودنا فى الازقة .. ولا تدري اين تتجه .. وفى النهاية التجات الى الملاذ الذي يلجا اليه كل خائف .. احتمت بمسجد المدينة بصومعة الجامع الكيبر .. من هناك ايضا ذكر انه لمح على سطوح المدينة – وهي شبه خالية – اشخاصا لا يدري اهم رجال ام نساء لانهم جميعا يلبسون لباسا متشابها .. ( هو بجهل ان الرجال لا يصعدون عادة الى سطوح المنازل فى عرف المدينة اذ هي خاصة بالنساء ) .. كما ذكر انه من هناك ارسل نظرة الى الحدائق والجنات والبساتين المنبثة والمحيطة بالمدينة .. فراى ان تطوان مثل زمردة خضراء او مثل فص ابيض فى خاتم اخضر بين اصبعين ( جبلين ) ملتفعين بكوة خضراء .. وان كل شيء رائع وباسم فى هذه الربوع الا سكانها التعساء .. الذين يهرعون منها ويهربون فى افواج .. يا له من مشهد .. ! ذلك المشهد المؤلم الذي يبدو لي من بعيد لاولئك الفارين العائدين من جديد الى بداوتهم الاولى .. النساء يحملن اطفالهن والشباب باخدون بيد المشايخ والجرحى والعجزة محمولون علىالدواب .. والخيل التي كانت تقاتل صارت تحمل الاثقال .. والنبلاء والاثرياء يسيرون راجلين مع الاشقياء والضعفاء .. يذكرني هذا بهجرة الموريسكوس عندما طردوا من اسبانيا .. ان المغاربة يفضلون كل انواع الحرمان والبؤس والشقاء ولا يرضون بذل الاعتراف بهزائمهم .. هذا شيء بطولي وقديم فى الشعوب الباسلة ..
تنظيمات :
ثم تعرض الاوكون لبعض الاعمال التنظيمية التي بادر القائد العام اودونييل بالقيام بها التي منها التحاقه بدار المخزن الكائنة فى ساحة الفدان ( السوق ) وكيف نجا من انفجار مدبر وقع بها وكيف استعرض جيوشه فى الساحة وكيف رتب شؤون المدينة بان عين الجنرال ريوس حاكما عاما للمدينة وعين بجانبه حاكما مغربيا ( وهو الحاج احمد ابعير ) وكلفهما باحصاء المنازل العامرة منها والفارغة وانزال الضباط الكبار بها واختيار اللائق منها للمصالح والمرافق العامة .. الى غير ذلك من الاجراءات المدنية الضرورية .. مشيرا الى ان القائد العام اودونييل فضل ان يبقى مقيما بمعسكره العام خارج المدينة وكذلك بعض جنرالاته وان كان جعل تحت تصرفهم دورا لائقة بهم فى المدينة .. واما الاركون نفسه فانه ذكر انه كان يقيم اولا فى بيت الاسرائيلي ابراهام من اعيان اليهود واثريائهم ثم انه انتقل الى دار آل اشعاش الكائنة بالفدان واستقر بها طول مقاومه بتطوان مع احتفاظه بخيمته الخاصة به فى المعسكر العام وفى نفس الوقت كان يتردد على بيوت كتيرة يطيب له ان يسهر فيها ويلهو مع اصحابها الضباط كدار الفقيه الشربي التي اشار الى بعض مغامراته فيها ( وسياتي بيانها ) .
جولات :
وهو فى ذلك كله لا يترك فرصة تتاح له الا وانتهزها ليبحث وينقب ويتجول ويسجل كل ما سنح له ويصف كل ما عن له من الاشياء كبيرها وصغيرها جليلها وحقيرها ولا سيما ما يمت منها باي صلة الى الشؤون المغربية متخذا معه دليلا من ابناء المدينة يدله على خفاياها ويرشده الى خباياها ويعرفه بعادات اهلها واحوالهم الحاضرة والغابرة .. الا انه كان يمقت هذا الدليل ويهزا به ويشتمه فى وجهه واحيانا يطرده .. ومع ذلك ظل بلازمه ويمعن فى طاعته وخدمته كلما تعمد صاحبنا فى اهانته واذلاله .. لان ذلك الدليل من الجنس الذليل الذي لايحس بمهانة ولا يبالي بزراية .. وهذه النعوت تغني عن التصريح باسمه واصله ..
عزة النفس عند المغربة :
وكان من استنتاجات الاركون من خلال جولاته واستطلاعاته ان المغاربة وبالاحرى سكان تطوان من عنصر كريم ومحتد اصيل وفى مظهرهم ومخبرهم تبدو امارات النبل وتبرز دلائل العزة الانفة لا يرضون بالضيم والصغار ولا يحنون الراس لاي كان مهما توالت عليهم النكبات وتعاقبت المصائب والهزائم .. فهم لا يعترفون لنا – يقول الاركون – بهزيمتهم امامنا ولا بانتصارنا عليهم .. استنتج الاركون من المعارك التي شاهدها ومن موقف المغاربة التطوانيين وعدم اكتراثهم بالجيوش الاسبانية وهي تحتل مدينتهم .. فقد آثروا ان يجلوا عنها ويتركوها بلقعا على ان يشاهدوهم فى ازقتها ويبادلوهم التحية والمنافع .. وحتى الضعاف والعجزة منهم الذين لم يستطيعوا مغادرة البلدة فانهم لاذوا بيوتهم ولازموها ليلا ونهارا صابرين على الجوع والخصاصة كاتمين آلامهم ومتجرعين همومهم الى ان ياتي الله بالفرج .. ومن اضطرته الظروف لمغادرة بيته الى الشارع فانه لا يلتفت الينا – يقول الكاتب — ولا يعبرنا ادنى اهتمام كاننا لسنا بموجودين .. وقد قص الكاتب كثيرا من الشواهد والوقائع شاهدها بنفسه تدل على صدق ما يقول .. من ذلك انه لاحظ عند دخول الجيوش الاسبانية الى تطوان خلو الطرقات والسطوح والنوافذ وسائر الممرات من العنصر المغربي .. لا وجود لهم اطلاقا ولا للفضوليين منهم .. ولا ساحة الاستعراض التي تجلب اليها عادة غمار الناس فلم يشاهد الاستعراض الا بعض اليهود القريبين منها .. وقال الاركون انه كثيرا ما كان يتجول فى الازقة وهي خالية تماما فيقول له دليله : انهم مختبئون فى بيوتهم .. قال : فنتسمع من اخصاص الابواب فنحس ان بداخلها حركة ودويا كدوي النحل .. وان بها جرحى ومرضى يكتمونهم عن السلطات الامر الذي جعلني – يقول الاركون – اكن اعمق الاحترام لاولئك الذين يكتمون آلامهم ويصبرون على بلواهم .. كما لاحظ ان بعض الصبيان يغفل اهله ليطل من الباب ولكن سرعان ما تمتد يد من الداخل فتجذبه وتصفق الباب .. كما لاحظ فى احدى جولاته انه مر فى زقاق ووجد فيه شيوخا يجلس كل واحد منهم بباب بيته منعزلا عن جاره الآخر لا يلتفت اليه ولا يبادله الحديث مع قربهم من البعض .. قائلا وذلك من فرط تحفظهم وابتعادهم عن الفضول خوفا من ان يصدر من احدهم شيء يتم عن اعترافهم بالوجود الاسباني فى مدينتهم .. واضاف ان هؤلاء المغاربة الذين كانوا اغلقوا عليهم ابواب بيوتهم ولبثوا قابعين فيها ربما اضطرهم طول المكث الى الخروج ولو لبضع ثوان وعدة خطوات قصد استنشاق الهواء النقي ..
كما قص علينا الكاتب قصة ذلك الشيخ الذي مر عليه موكب القائد العام فى طريقه الى وسط المدينة يوم دخوله تطوان .. فراى الاركون من ذلك الشيخ صورة م صور الآباء الممزوج بالترفع وعدم الاكتراث .. كان شيخا طاعنا فى السن ذا لحية طويلة بيضاء كالثلج وعمامة كثيفة وحائك من الصوف كان جالسا امام دكان صغير لا شك انه له وكان باب الدكان ورفوفه الخشبية وكاما على الارض .. ويداه على فخديه وعيناه مركزتان على الارض كانه غارق فى بحر التاملات .. مر الموكب حواليه فى صخب ولجب دون ان يرفع واسه لينظر ما حوله ولا انه تململ من مكانه ليتقي على الاقل سنابك الخيل ويتحاشى ان يصيبه مكروه .. قال : فاعظمنا فى الشيخ هذا الاباء واكبرناه فى نفوسنا .. واشرنا اليه بالتحية بايدينا وما تحرك ولا بالى بنا ..
وقد تكرر مثل هذا الموقف .. مما جعل الكاتب فى مشاهد مماثلة يدون فى مذكرته ان المغاربة عند ما تمر مواكبنا لا بعيرونها التفاتا ولا يرفعون اليها راسا ولو على سبيل الصدفة .. انهم يعتقدون ان النظر الينا والى مواكبنا معناه الاعتراف بنا ولو ضمنيا .. يصدق عليهم مثلهم العربي : اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب .. اني لم ار نبلا اقدر على تحمل المصائب مثلهم .. جائعون ولا يطلبون الخبز ، يتالمون ولا يبكون ، يموتون ولا يتساهلون معنا ، قرارتهم لا يفصحون عنها ولو بالتبجح بالوطنية ، يكتفون باقتناعهم بانهم لن يكونوا عبيدا لنا ابدا .. الحقيقة انني لا ادرك مستوى حضاريا اكثر من هذا ، فاذا كانت الحضارة تعني تمجيد النفس الانسانية وجعلها تنتصر على المادة وعلى الشهوات فانا اعتقد ان ثبات المغاربة وصمودهم وعزة النفس التي يحتفظون بها فى الهزيمة – هذا الشموخ المستمد من دينهم — لمما يظهر لنا ويعطينا الدليل على انهم عنصر قوي يمارس قدراته بحكمة سقراط .. وان لا سبيل الى غزوهم وقهرهم ولو بالقوة ولا بالحضارة الكاثوليكية .. انهم يشبهون الانجليز فى جل الصفات ..
حضارة تطوان :
هكذا كان الاركون فى تجولاته بحارات تطوان يسير الاغوار ويستشف ما خلف الاسوار وما وراءها م الاسرار .. ليس كالسائح الذي يقف عند المظاهر ويكتفي بالقشور بل انه يتعداها الى الكشف عن حقائق الامور والى رد الفروع الى اصولها والمعلومات الى عللها وحكمتها .. شان العالم المنقب والصحافي الماهر المستطلع ، لذلك كان يلهج بالحالة التي وجد عليها المدينة ويبهج بحالة اهلها المحافظين وتمسكهم بعاداتهم وحضارتهم العتيقة .. وآثارهم القديمة .. ومما كتبه فى هذا الصدد : انني وجدت تطوان لا احلى منها ولا ابهى ، فلو كانت كما يريدها اصحابي الجنود من توفرها على مظاهر الحضارة الاروبية من اوطيلات ومقاهي ومسارح ومقاصف ونوادي وملاعب … الخ لو كانت كذلك لرايتها انا عديمة الجدوى لا تعدو ان تكون كحي من احياء المدن الاوربية ، اذن لا داعي للمجيىء اليها .. فانا انظر اليها بعين الفنان الذي لا ينظر الى القشور والظواهر بل يغوص الى اعماق الاشياء ، بستشف وراء المحسوس والملموس .. اني وجدت تطوان كما كنت اتمنى ، عربية صرفة لا مثيل لها عندي فى المدن الاوربية ، هي فى نظري عش المغاربة الخلص وبقية مما تركه اجدادهم فى البيازين بغرناطة الفيحاء .. واضاف ان المغربي يعزف عن الملاهي ويميل الى الانعزال ويكره التظاهر بالاشياء الفارغة ، فلا يقيم وزنا لمظهر بيته الخارجي ولا للمغريات والمباهج الزائفة .. واستنتج من ذلك ان المغاربة يجعلون المدينة مقبولة من الخارج والبيوت مزينة فى الداخل .. ثم استطرد يقول : وهناك استئناء وهو ذلك الفندق الكائن بفسحة الوسعة المقام ازاءه مقهى عمومي احدته الجزائريون اللاجئون الى تطوان ويرتاده الشباب والشيوخ على السواء حيث يتناولون كؤوس الشاي والقهوة ويتبادلون الاحاديث .. وذكر انه كان يشاركهم فى هذا المقهى وانه معجب بطعم القهوة التي يغلونها على النار فى غلايات خاصة .
ووصف المدينة بانها كبيرة نوعا ما ومزدحمة وان سكانها يقدرون ب 50 الف نسمة وان بها اسواقا حسنة وساحات واسعة وقيسارية تحتوي على اكثر من 300 دكان الا انها مخربة الآن ومنهوبة وهناك سقايات عمومية وافران وحمامات وفنادق للتجار وللدواب …
بيوت تطوان :
ووصف بيوت تطوان بانها تذكر ببيوت الاندلس القديمة من حيث التخطط والمرافق .. وان ترف البيت ينجلى فى الابواب والنوافذ الداخلية وفى السقف المخدوم بنقش رائع على الخشب الملون .. وكذلك فى الموزيك الذي يكسو الارض والحيطان .. وفيما يخص الاثاث ذكر ان آماله لم تخب عند زيارته لبعض البيوت .. ( فالاثاث الذي وايته والزرابي والستائر والخزانات وادوات الاكل وكل ما شاهده ودرسته كان اصيلا وفنيا رائعا ، له مميزات شرقية جد بارزة مليء بالكتابات والصور الرمزية والخطوط الهندسية .. ويطاق تماما الامتعة الموريسكية الموجودة فى اسبانيا .. كل شيء لم يتغير ، الفن والصناعات والعوائد .. تطوان اليوم معناها وؤية قرطبة القرن الثالث عشر ) .
دار الرزيني :
وكان قصر الحاج محمد الرزيني الشهير من اكبر البيوتات التي تعلق بها الاركون واستصدر اذنا خاصا من الجنرال الحاكم يسمح له بزيارته ، اذ كانت عليه حراسة عسكرية خوفا من امتداد يد النهب اليه بعد ان غادره صاحبه فى جالة من غادروا تطوان والتجا الى بستان له يقع غير بعيد من تطوان فى الاجنة المعروفة هناك بمدشر كيتان .. ووصفه الاركون بانه غني جدا وان اخاه ( يقصد الحاج احمد الرزيني ) اغنى منه .. يقولون عنه انه يزن الذهب بالقفاف وانه عندما فر من تطوان البارحة ( كذا ) حمل امواله على تسعة بغال وعلى ثلاثة جمال وثمانية عبيد .. وان القصر نفسه يكشف عن هذا الثراء الفاحش ، وبما انه قصر فاخر فان صاحبه تركه كما هو لما شرع فى بناء قصر آخر بجانبه يريده افخم منه واعظم .. فجاءت الحرب وتوقف البناء .. فالاقواس قائمة والاخشاب مجموعة واكوام الموزيك باحجامها والوانها وتصاميم الرياض الواسعة .. كل هذا يبنىء عما سيكون عليه القصر لو تم ..واما ما يتعلق بالدار القديمة فانها وحدها كافية لتعطينا فكرة عن حياة ذلك الاستقراطي الذي كان يسكمها .. الغرف واسعة والسقوف عالية جدا وهي من الخشب الملون المصنوع بدقة متناهية .. والحيطان كلها مكسوة بالفسيفساء الجميلة وكذلك الحنايا والاقواس المكونات للممرات ، فهي تخطف الابصار وتعجب برقتها وفخامتها ..
ثم تابع يقول : واول شيء يرغب فيه المرء عندما يدخل الى هذه الدار هو الجلوس والاتكاء عدة ساعات .. فهناك الهدوء والراحة وشيء آخر لا اجد له اسما .. هناك ظل الاشجار وخرير المياه وازهار البرتقال التي تعطر الجو والطيور التي تغرد وتزقزق بين الاقواس والاشجار.. واسترسل يقول : لا املك وانا ما زلت فى الصحن الاول من هذه الدار الا ان افكر فى النساء .. ولم لا .. ! وهذه التحفة الفنية بنيت للحب .. والجو ما زالت عبقا بطيب الحريم .. فصرت اتحسس واتسمع الى ان سمعت من وراء ستار غناء امراة وبكاء طفل .. ولكن التعليمات تقضي بان لا انتهك الحرم واقتحم الحجب .. والحارس وهو مغربي مسن واقف لي بالمرصاد .. ومن ورائه عسكري مسلح واقف بالباب لا ياذن الا لمن بيده ورقة ممهورة من الحاكم وعليها تعليمات صارمة .. الا انني بحيلة استطعت ان اغافل الحارس المغربي واتسلسل الى غرفة انيقة وفيها فتاة سوداء تهز بيدها مهدا يرقد فيه صبي .. تاملتها فاذا هي فاتنة كانها قطعة من الكهرمان الاسود .. ابتسمت وافترت عن ثغر نضيد من اللؤلؤ دون ان تبدي انزعاجا او نفورا .. وتاملت غرفتها فاذا كل ما بها آبة من الآيات .. سرير ملوكي مغطى باقمشة حمراء فاخرة وستائر من الحرير ومتكآت عديدة ومخدات كثيرة وفى الوسط مبخرة ذهبية على صينية ومعها كؤوس بلورية وابريق لماع .. الى غير ذلك من الاواني والتحف النادرة .. ولم يسعني الا ان انسحب من الغرفة قبل ان بنكشف امري .. ثم اكتشفت ان هناك جناحا آخر فيه بقية نساء الرزيني اللاثي لم يصحبهن معه .. وتابعت تطوافي على سائر الغرف والمرافق فاذا هي تحتوي على اثاث ثمين من مختلف الانواع .. وكذلك المخازن فانها ممتلة باصناف الماكولات والمشروبات . ( واطال القول فى ذلك كله اذ تتبع كل ما احتوت عليه الدار من النفائس والذخائر الدالة على ثراء الرزيني الرجل الدبلوماسي الذي كان فيما ستق قنصلا معتمدا للمغرب فى جبل طارق وكانت جل الصادرات والواردات تمر على يده …).
الجامع الكبير :
وكان الجامع الكبير من معالم المدينة التي حرص صاحبنا على زيارتها .. فبادر هو ورفيق له الى زيارة الجامع قبل ان يمنع الحاكم زيارته على غير المسلمين كما هو المتبع عند المسلمين المغاربة من منع دخول غيرهم بيوت العبادة ( والمعروف ان اودونييل كان تعهد للوفد الممثل لسكان تطوان باحترام امكنة العبادة ولكنه لم يوف بهذا التعهد .. ) قال الاركون وجدنا حرسا عسكريا على باب الجامع الكبير وهو باب مهيب عليه نقوش وزخرفة باهتة .. دخلنا وطفنا جنبات المسجد فاذا هو خال الا من الحصر وبعض المنابر الهيئة للوعظ اشبه ما يكون بالكنائس البروتيستانية الخالية من التماتيل والتهاويل .. فجلسنا جانبا فى الصحن الواسع انا ورفيقي .. يرسم هو بريشته ما يراه واكتب انا بقلمي م يبدو لي من افكار حين لم اجد شيئا يستحق الوصف ، وقلت ها هي اقدامنا واحديتنا وطئت ارض هذا المسجد وسقفه يردد صدى وقع اقدامنا المنتعلة بنعال النصارى الثقيلة الوطأة .. اين ذلك النبي .. لماذا لا يهدم على رؤوسنا ها البيت الذي دنسناه باحديتنا وانتهكنا حرمته باقتحامه ..
وسجل فى الاخير ان المؤذن حضر ونظر اليهم بامعان وقصد المزولة وقاس ظلها بعينه واشار اليهما بان الساعة هي الثانية فصعد الى الصومعة واذن للصلاة : الله اكبر .. الله اكبر ..قال : فبادرنا بالخروج وتركنا المكان لقداسته وللمؤمنين الذين اخذوا يتواردون لاداء الصلاة .. وكنا نسلم عليهم : سلام ، فيردون علينا بمثله ..