
إن أول مملكة نشأت بإفريقيا السوداء من الناحبة الغربية هي مملكة غانا باتفاق كلمة المؤرخين وخاصة منهم الغرب. وينبغي إلا نخلط بين هذه المملكة و دولة غانا الحديثة التي تبعد عنها بآلاف الكيلومترات بعد فاس عن بنغاري مثلا .وسنرى في غرض الحديث لماذا اختار الرئيس نكرومة إطلاق لفظ غانا على قطرة الذي كان يعرف قبل الاستقلال بساحل اذهب.
فما هو أصل غانا ؟ ومتى نشأت؟ هذا ما لم يستطيع المؤرخون أن يثبتوه بدقة وقد اقتصر العرب منهم على الإشارة بان هذه المملكة نشأت في القرن الثالث الميلادي ، يوافق عبد الرحمن السعدي صاحب “تاريخ السوداء” على هذا الرأي . ويذهبون إلا أن هذه المملكة كانت تسمى بإمبراطورية بافور وقد تعاقب على عرشها ثلاثون ملكا قبل ان تعرف بغانا فيما بعد، ويقول احد المؤرخين المحدثين(1) ” أن مما لا جدال فيه أن إنماء المبدلات بين السودان وشمال افر يفيا عن طريق الصحراء الغربية هو الأصل في نشوء أول دولة كبرى عرفها التاريخ وهي المسعودي والفزاري وابن عبد الحكيم أن المبدلات التجارية كانت في غاية النشاط بين شمال افر يفيا و السودان وكان مركز هذة التجارة بتافيلالت في الشمال.
وأيا كان أصل غانا ، فان هذة الدولة بلغت أوج عظمتها ما بين القرن التاسع والقرن الحادي عشر للميلاد. وقد زارها ابن حوقل في القرن العاشر .واستقصى أخبارها الكبرى ثم ياقوت في “معجم البلدان” بعد ما كان أمرها إلى الزوال.
ويذكر المؤرخون العرب ان دولة من جنس أبيض نشأت أول مرة فكانت الأساس الذي تفرعت منه إمبراطورية غانا وازدهرت بعد ذلك . ويرجع صاحب”تاريخ الفتاش” أن هذه الدولة كانت بربرية الأصل ثم آل الحكم بعدها غالى الأفارقة السود أما موقع هذه الإمبراطورية فكان يمتد من أدرار إلى ما بعد تمبكتو و يشمل اغلب الصحراء الغربية أي موريطانيا حاليا والسودان أي الجمهورية مالي وبلاد التكرور أي السنغال بينما كان نفوذ ملوكها يتسع إلى ابعد من ذلك فتشمل النيجر وغينيا . وكانت المناطق البربرية في الشمال الصحراء تدين لهم بالطاعة وتؤدي لهم الجزية .
اما موقع عاصمة هذه الإمبراطورية أي غانا ، فلا يعرف بالضبط . والتقنيات التي قام بها العلماء قد كشفت عن مدائن تمتد على عدة كيلومترات قرب مدينة النعمة في منطقة الحوض من موريطانيا على مسافة ثلاثمائة كيلو متر من باماكوا.
والملوك المعروفين كانوا من أسرة ” سيسي تونكارا” . وجدهم الأعلى ” كايا مغان” هو الذي أسس هذه الإمبراطورية وكانت قاعدة الملك هي مدينة غانا . بينما كانت الإمبراطورية تحتوي على حواضر لا تقل أهمية عن غانا مثل ساما قندة وغارنطيل و غاديار ودياريس وسيلا . وبين كل مدينة وأخرى مسافات بعيدة تعد بالأيام على ظهور الإبل.
كان ملوك هذه الإمبراطورية وثنيين كعامة الشعب بيد أنهم كانوا في وئام وتسامح مع الأقلية الإسلامية التي كانت تعيش وسطهم كما سنرى.
فكيف كانت الحياة الاجتماعية وتمشي شؤون الدولة في إمبراطورية غانا ؟ أن الوصف الذي تركه المؤرخون العرب لقاعدة الملك ليعطينا صورة عن هذه الأحوال.
لقد كان الملك يقيم في غانا نفسها. وكانت المدينة تنقسم إلى مركزين رئيسـيين: مركز وثني ومركز إسلامي يجمع بينهما شارع طويل بنيت على جوانبه دور بالحجر تحيط بها حدائق. أما الملك فكان يسكن الحي الوثني وسط قصر بنوافذ من زجاج وجدران مزخرفة بالتماثيل. وتحيط بالقصر منازل للكهنة المكلفين بالسهر على الأصنام وأضرحة الملوك . ومن الدلائل على التسـامح الذي كـان يبديه أباطرة غانا أنهم بنوا مـسجدا قرب القـصر ليتسـنى لضـيوفهم المسلــمين أن يؤذوا الفرائـض به.
أما المركز الإسلامي فكان يحتوي على متاجر ومنازل للمسلمين. وكان به اثنا عشر مسجدا أمامه ومؤذنه ومقرئه. وكان العلماء والفقهاء يأتون من البلاد الإسلامية ليفقهوا الناس في دين . ووفرة المساجد في حاضرة غانا تدلنا على كثرة عدد المسلمين إبان عظمة هده الدولة.
كانت الحاضرة مركزا تجاريا عظيما ترد عليه قوافل الإبل من إفريقيا الشمالية وخاصة من المغرب محملة بالقماش والنحاس والتمر والعنبر والملح، وتروج مثقلة بالذهب. إذا كانت ارض هذه الدولة تحتوي على المعدن الثمين حتى ملكها كان يعقل جواده بكرة ذهبية تزن نحو 15 كيلو . وكان هذا المعدن متداولا بين أهلها
والى جانب هذا النشاط التجاري كان هناك نشاط مهني منقطع النظير، فكان الصناع على اختلاف أنواعهم يشتغلون في صنع الأقمشة الحريرية والصوفية والقطنية ، وصناعة الحلي والمجوهرات لا يفتئون يشتغلون إلى غير ذلك . وكانت آثار النعمة بادية على سكان غانا . وفي مقدمتهم الملوك الذين كانوا يرتدون القز والصوف و ينتعلون الأحذية الرفيعة.
كان الإمبراطور يخرج كل صباح وسط الضباب وبجانبه أبناء الملوك التابعين له في أزياء الزاهية فيجلس إلى الناس لفض نزاعاتهم و الاستماع إلى تشكياتهم أو أرائهم . وفي المساء يقوم بجولة في المرافق المدينة ، ولكن لا يسمح لأحد بالاقتراب منه ، و كان الشعب متعلقا بملوكه . فكان الناس يتجردون من ثيابهم عند رؤيتهم هؤلاء الملوك ويتخرون في التراب ويلقونه على رؤوسهم. وهي عادة ظلت مستعملة في أغلب السودانيين هذه صورة مختصرة عن الحياة في قاعدة الإمبراطورية ولم تكن الحواضر الأخرى بأقل منها ازدهارا ونهضة . فقد تحدث ابن حوقل عن حاضرة مملكة أو داغشت البربرية التي كانت تابعة لغانا والتي زارها في أواخر القرن الحادي عشر فأعجب بها وبما كان عليه سكانها من سعة العيش وتعجب من أناقة البيوت التي كانت تحيط بها الحدائق وتغمرها المياه الدافئة ، كما ذكر ازدهار التجارة بها حيث كانت تأتيها صنوف البضائع من جميع الجهات . وشاهد ابن حوقل وصلا بأربعين ألف دينار دينا على أحد سكان تافيلالت مما يدل على وفرة المبادلات التجارية اذ ذاك بين المغرب وغانا.
ان هذه المعلومات الني تعمدنا اختصارها لضيق المقام والتي ندين بها للمؤرخين والجغرافيين والرحالة العرب لتعطي صورة عن مدى ما بلغته الحضارة في عهد امبراطورية غانا . وإذا كانت هذه المدينة قد عفت أثارها، فان المنقبين والباحثين جادون في الكشف عن رسومها. وقد دلت الحفريات التي قام بها بعضهم قي سنة 1939 ثم في سنتي 1949 و 50 وما عثروا عليه من آثار وأدوات على “رقي هذه المدينة سواء من الناحية العمرانية أو الفلاحية” على حد قول هؤلاء العلماء (1) فقد عثر على مجوهرات محلية إلى جانب المجوهرات التي كانت تجلب من البحر المتوسط، كما عثروا على أدوات منزلية وأوزان في غاية الدقة مما يشهد بما بلغته هذه الدولة من رقي مادي.
فكيف درست آثار هذه الدولة وزالت من الوجود ؟ مع أن ذكرها ظل عالقا في الأذهان عدة قرون بعد ذلك وبقي أنشودة في أفواه المغنين من الأجيال التي أعقبت زوالها . حتى ان ابن خلدون سمع بأمجادها وهو في مصر أواخر القرن الرابع عشر..
ذلك ما سنذكره بشيء من الاختصار.
أن نهاية مملكة غانا كان في الربع الأخير من القرن الحادي عشر الميلادي على يد المرابطين ولا مناص من التذكير بظروف قيام هذه الدولة على سبيل الإيجار تخلصا للحوادث التي ذهبت غانا ضحيتها.
تعرفون أن يحي بن إبراهيم الكدالي كان رئيسا على قبائل صنهاجة في الصحراء الغربية أي موريطانيا في الإصلاح الحديث. فلما رحل إلى المشرق في أوائل القرن الخامس الهجري اصطحب معه إلى الصحراء ـــ بناء على نصيحة الشيخ ابن عمر ابن الفاسي ــ الفقيه عبد الله بن ياسين ليفقه الناس في أمور دينهم فلما اشتد يأس الفقيه عبد الله بن ياسين دعا مريديه إلى نشر الدعوة ومقاتلة أهل الردة حتى “ملك جميع بلاد الصحراء وكذلك قبائلها”.
ثم توفي يحي عمر الكدالي، فجمع عبد الله بن ياسين رؤساء قبائل صنهاجه وولى عليهم برضاهم يحي بن عمر. وامتد الجهاد من الصحراء إلى المغرب لكن يحي بن عمر ما فتيء ان عاجلته المنية في بعض الغزوات بالسودان . فولى عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر . وهذا هو الذي قهر غانا وأدل دولتها.
فبعد ما جاهد أهل الردة والبدعة صحبة عبد الله بن ياسين الذي استشهد في موقعة دارت بينه وبين قبائل بورغواطة ودفن بكريفـلة على مسافة يسيرة من مكاننا هذا، جددت البيعة لأبي بكر بن عمر فاسلخلف على المغرب ابن عمه يوسف ين تاشفـيـن لإتمام الغزو وعاد هو إلى الصحراء لما انتهى إليه من “اختلال أمرها ووقوع الخلاف أهلها”
فاقترنت عودته بمواصلة الزحف على السوداين لنشر الدعوة الإسلامية ، فانقض بجيوشه على مملكة غانا . ودار الكفاح مدة أربع عشرة سنة إلى ان سقطت العاصمة سنة 1079 ، وانهارت الدولة وانقضت من حولها الممالك التي كانت تابعة لها، و نشأت على انهيارها مملكة مالي الإسلامية التي سنتحدث عنها ثم تحت ضربات هذه الممالك خرجت غانا وأصبحت أثرها بعد عين.
ويقال ان كثيرا من أهلها فروا بأنفسهم من الهلاك أمام زحف المرابطين العارم وقصدوا “ساحل الذهب” فعمروها . ولهذا اختار الرئيس نكرومة إطلاق اسم غانا على دولته إحياء لذكرى هذه الإمبراطورية التي ضربت بحظ وافر في مضمار المدينة.
وهكذا سقطت أول إمبراطورية بإفريقيا السوداء تحت طعنات المرابطين . ولم يدع حكمهم لها سوى احد عشر عاما ، ثم تفرقت كلمتهم، فانتهز أهل غانا هذه الفرصة وازحوا نير العبودية عن عاتقهم . فرجع المرابطون إلى الصحراء من حيث أتوا. ولكن عز غانا وصولتها لم يعد كما كانا حيث انتقضت عليها الأقطار التي كانت خاضعة لنفوذها، ونشأت ممالك جديدة أهمها مملكة سوس . وبقيت غانا من عثرة إلى عثرة إلى قرن الثالث عشر حين حطم مؤسس دولة مالي الملك سوندياتا آخر صروحها ومحا معالمها من الوجود.
على أن الزحف المرابطي لم يكن له سوى هذه النتيجة ، بل كانت له نتائج أخرى من حيث انتشار الدعوة الإسلامية . فدخل الإسلام كثير من الأمراء، وخاصة أمراء الأقطار التي كانت غانا نخضعها لسيطرتها وأصبحوا دعاة متحمسين للعقيدة في وسط شعوبهم.ومن ذلك الحين والإسلام يختط طريقة في قلب إفريقيا السوداء يعتنقه قوم ويرفضه آخرون . فاكتسح رقعة ممتدة الإطراف ، وقامت منذ ذلك مماليك إسلامية هنا وهناك ، وسنعرض في الحديث المقبل بحول الله أهم مملكة نشأت بعد سقوط غانا ، وهي مملكة مالي ، وكانت هذه المملكة إسلامية عريقة بأمرائها و شعوبها بخلاف مملكة غانا التي كانت وثنية.
قاسم الزهيري
المصدر: دعوة الحق، العدد49، مارس 1962