دراسات

جهود العلماء الأفارقة في نشر المذهب المالكي

د. محمد زين العابدين الحسيني – باحث في تاريخ المغرب-

مما لاشك فيه أن روابط المغرب بالقارة الإفريقية روابط عريقة ومتعددة المكونات، وفي مقدمتها الروابط الروحية، وهو ما لخصه الخطاب الملكي السامي بالقول: ”فإفريقيا بالنسبة للمغرب، أكثر من مجرد انتماء جغرافي، وارتباط تاريخي. فهي مشاعر صادقة من المحبة والتقدير، وروابط إنسانية وروحية عميقة. إنها الامتداد الطبيعي، والعمق الاستراتيجي للمغرب1.“ وما أكده أحد المفكرين الأفارقة، حيث قال: ”ثمة ثلاثة مفاتيح أساسية لتقوية العلاقات المغربية الإفريقية هي: التنمية والأمن والدين. فلا أمن ولا سلام ولا استقرار في إفريقيا بدون دور ديني فعال يواجه معضلة التطرف والإرهاب2“ . ويبدو من ذلك أن العنصر الديني يشكل إلى جانب الاقتصاد والأمن منظومة ثلاثية المكونات ترسخ العلاقات المغربية الإفريقية.

والملاحظ أن المغرب انخرط في المنظومة الإسلامية منذ مجيء الفاتحين الأوائل، غير أن ترسيخ العقيدة الإسلامية لم يتم إلا على يد مولاي إدريس الأول، الذي تمكن من التفاعل مع قبيلة أوربة وإقناع زعمائها بمبادئ الإسلام السمحة، المنبعثة من الكتاب والسنة النبوية. وخلال هذه الظرفية تم انتقال المذهب المالكي إلى المغرب، حيث كان لدخول موطأ مالك بن أنس إلى المغرب من طرف عامر بن محمد بن سعيد القيسي، على عهد المولى إدريس الثاني، الأثر البارز في نشر المذهب، واتخاذه مذهبا رسميا للدولة. كما كان لتأسيس جامع القرويين، الفضل في تطويره وترسيخه، وإعداد نخبة من العلماء خدموه تأصيلا وتفريعا وتنظيرا3. وانتقل من المغرب إلى باقي بلدان إفريقيا الغربية، وفي هذا الشأن يقول ابن بطوطة، في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار: «أما السودان الغربي قديما فهو الآن الغرب الإفريقي، ومذهبهم هو المالكي… ولما أسلم كثير من أبناء السودان الغربي على أيدي التجار المغاربة المالكيين، كان من الطبيعي أن ترتكز تعاليمهم الفقهية على المذهب المالكي، وهذا غالبا يكون بعد حفظ القرآن». ومن بين أسباب انتشار هذا المذهب صمود فقهاء المالكية في وجه المذاهب المخالفة منذ وقت مبكر، وفشل المذهبين الشيعي والخارجي في التغلغل بين شعوب بلاد السودان. إضافة إلى ربط شيوخ وعلماء الزوايا بالسودان علاقات جد وطيدة بملوك المغرب.

ومما يدل على تشبث هؤلاء بالمذهب المالكي، وجود العديد من مؤلفات علماء السودان مثل أحمد بابا التنبكتي، المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي الشنقيطي التنبكتي… لتبسيط وتفسير وتوضيح المذهب مما كان له الدور الكبير في انتشاره واستمراره، ومن بين المخطوطات التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الشأن: «إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام أبي عبد الله مالك»، «القواعد الفقهية من الأصول القريبة»، «حاشية ابن عبد الرحمن على شرح الخراشي لمختصر خليل»، «الشرح الصغير على مختصر خليل»… وغيرها كثير. ومن بين أسباب انتشار المذهب واستمراريته سواء بالمغرب أو البلدان الإفريقية خصائصُه القائمة على أصول وقواعد تتصف بالسعة والمرونة، مما جعلها تضمن لهذا المذهب صلاحية دائمة على استيعاب التطورات واحتواء المستجدات. كاعتماد المصالح المرسلة والاستحسان في الاجتهاد الفقهي، كل ذلك أضفى على المذهب صفة الاعتدال والتوسط بين العقل والنقل، بين الشرع والواقع.. ومن ثمة نجد من بين الحجج على استمرارية هذا المذهب مخطوطات السلطان سيدي محمد ابن عبد الله، خصوصا منها «طبق الأرطاب فيما اقتطفناه من مسانيد وكتب مشاهير المالكية، والإمام الحطاب». وانفتاح المغرب على إفريقيا في إطار إمارة المومنين، حيث شكلت الزيارات الملكية السامية للبلدان الإفريقية، وإقامة الدروس الحسنية، وإنشاء المؤسسات، كمؤسسة محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة… وتنظيم العديد من الندوات، مناسبة لترسيخ الروابط الدينية المتصفة بالاعتدال والوسطية، والمرتبطة بالمذهب المالكي.

انطلاقا من ذلك فإن هذا الموضوع سيتم تناوله من خلال المحاور الرئيسية التالية:

  • المذهب المالكي بالمغرب منذ عهد الأدارسة.
  • وسائل ومظاهر انتقال المذهب المالكي إلى إفريقيا.
  • امتداد انتشار المذهب المالكي إلى الوقت الحاضر.

  • المذهب المالكي بالمغرب منذ عهد الأدارسة:

لقد كان لدخول موطأ مالك بن أنس إلى المغرب من طرف عامر بن محمد بن سعيد القيسي، على عهد المولى إدريس الثاني، الأثر البارز في نشر المذهب، واتخاذه مذهبا رسميا للدولة. كما كان لتأسيس جامع القرويين، الفضل في تطويره وترسيخه، وإعداد نخبة من العلماء خدموه تأصيلا وتفريعا وتنظيرا. وقد مر وجود المذهب المالكي بالمغرب بعدة مراحل، يبينها الخط الزمني التالي:

على أن اعتماد المغاربة للمذهب المالكي انعكس بشكل واضح على معاملاتهم مع الذين قد ينحرفون عن المباديئ الإسلامية، ومن أمثلة ذلك مواجهة المرابطين للمتنبئين الذين ظهروا بالمغرب بعد وفاة إدريس الثاني، ومن بين هؤلاء المتنبئين حاميم الذي ظهر بجبال غمارة، وقد أورد ابن أبي زرع الحديث بتفصيل عن الديانة التي شرعها في مخطوط «روض القرطاس».

إضافة إلى ظهور متنبئ آخر هو صالح ابن طريف… وقد عمل المرابطون بتوجيه من عبد الله ابن ياسين على مواجهتهم بالبراهين والحجج دون استعمال السلاح أو الحرب، ويظهر ذلك من خلال الخطبة التي خاطب بها المرابطين بعد أن أتم تكوينهم الديني والعسكري، وقد أورد ابن أبي زرع هذا الخطاب الذي قال فيه:» وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى الطريق المستقيم فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم وتامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر… اخرجوا على بركة الله وأنذروا قومكم وخوفوهم عقاب الله وأبلغوهم حجته…»

خصوصا وأن المذهب المالكي يتصف بالاعتدال والوسطية، وعدم العنف في التعامل، والتطور والتجديد؛ والواقعية التي تعني الاهتمام بما هو واقع وجرى عليه الناس في حياتهم؛ والمرونة التي تتجلى بوضوح في قاعدة مراعاة الخلاف التي تَرجِعُ أهميتُـها أساسا إلى محاولة التقريب بين المذاهب. وهو الأمر الذي بلور وحدة مذهبية أصبحت من القواسم المشتركة بين هذه البلدان، ومما يؤهلها لتحقيق وحدة جزئية عظيمة للأمة الإسلامية، في هذا الجَناح الغربي من العالم الإسلامي وفي كل إفريقيا.

وهو ما يؤكده كتاب الموطأ: «قال يحيى وقال مالك في الرجل يقول كفر بالله أو أشرك بالله ثم يحنث، إنه ليس عليه كفارة وليس بكافر ولا مشرك، حتى يكون قلبه مضمرا على الشرك والكفر، وليستغفر الله ولا يعد إلى شيء من ذلك، وبئس ما صنع».

والملاحظ أن كتاب الموطأ يتضمن العديد من الأحاديث النبوية التي تحض على عدم قتل النساء أو الأطفال أو الشيوخ في الحرب، مع المحافظة على البيئة مثل عدم قطع الأشجار والنخيل أو إحراقها، أو إتلاف الآبار، والنهي عن الغدر بجميع أنواعه.

ولعل وسطية المذهب المالكي واعتداله كانتا من بين عوامل استمراره بالمغرب، وانتقاله إلى إفريقيا فيما بعد. فقد ذكر الشريف الإدريسي أن سكان تارودانت يتمذهبون بمذهب المالكية من المسلمين.

كما ذكر أبو القاسم محمد بن أبي جعفر، في كتابه: «كتاب في قوانين الأحكام الشرعية»، أن المذهب المالكي هو مذهب أهل المغرب، حيث يقول: «على مذهب أهل المدينة عبد الله مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه إذ هو الذي اختاره أهل بلدنا بالأندلس وسائر المغرب، اقتداء بدار الهجرة وتوفيقا من الله تعالى، وتصديقا لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم»

ومما يدل على استمرا المذهب المالكي في الزمن بالمغرب، ما كتبه السلطان سيدي محمد بن عبد الله في مخطوطه طبق الأرطاب، حيث أكد بأنه:» مالكي المذهب».

وارتبط المذهب المالكي في المغرب بالعقيدة الأشعرية، وطريقة الجنيد، التي هي من الاتجاهات الصوفية التي تعتمد على الاعتدال والوسطية.

وفي هذا الشأن يقول ابن عاشر في منظومته:

في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك1

على أنه إذا كانت الوسطية والاعتدال من بين أسباب انتشار المذهب في الزمن والمكان بالنسبة للمغرب، فإن هناك عوامل أخرى ترتبط بخصائص ومميزات المذهب المالكي، ساهمت في ذلك، تبرزها الخطاطة التالية:

إضافة إلى تبسيط وتفسير وتوضيح المذهب على يد العديد من العلماء، مثل مختصر خليل، ومجالس ابن القاسم التي سأل عنها مالك رحمه الله… مما كان له دور كبير في انتشاره واستمراره.

  • وسائل ومظاهر انتقال المذهب المالكي إلى إفريقيا:

إن استقرار المذهب المالكي في المغرب واستمراره في الزمن والمجال، شكل منطلقا أساسيا للانتقال نحو القارة الإفريقية، حيث أصبح السكان انطلاقا من غربها يتمذهبون بالمذهب المالكي، وهو ما ذكره ابن بطوطة، في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار، حيث يقول: «… أما السودان الغربي قديما فهو الآن الغرب الإفريقي، ومذهبهم هو المالكي». ويؤكد ذلك ما ذكره أحد العلماء النيجيريين في ندوة الإمام مالك: ”إنني من نيجيريا البلد الإفريقي الذي يعيش به ستون مليونا من المسلمين على مذهب الإمام مالك.. إذ المغرب هو المنطلق الأساسي للمذهب المالكي بعد المدينة المنورة… حتى وصل إلينا في جميع انحاء إفريقيا، وإفريقيا لا تعرف إلا مذهب مالك عبر تاريخها الطويل1“ .

فكيف انتقل المذهب المالكي إلى التخوم الإفريقية؟. إن انتقال المذهب المالكي إلى إفريقيا تم عن طريق عدة وسائل:

  • دور العلماء والدعاة المغاربة، الذي يقول عنه شارل أندري جوليان: ”عمد المغرب الأقصى طيلة ما يقارب القرن إلى إرسال العلماء ورجال الدين والصلحاء الدعاة وتغلغلت الحضارة المغربية بمدن ولاته وتومبوكتو وغاو2…“ .
  • دور التجار المغاربة، الذي يقول عنه ابن بطوطة: ”لما أسلم كثير من أبناء السودان الغربي على أيدي التجار المغاربة المالكيين، كان من الطبيعي أن ترتكز تعاليمهم الفقهية على المذهب المالكي، وهذا غالبا يكون بعد حفظ القرآن…» 3.
  • دور شيوخ وعلماء الزوايا الأفارقة، الذي يقول بشأنه ابن بطوطة: ”كان يربط شيوخ وعلماء الزوايا بالسودان علاقات جد وطيدة بملوك المغرب… وكانوا كوسطاء لضبط المجالات الترابية بين المغرب والسودان… إن المدرسة المالكية التنبكتية تعتبر امتدادا للمدرسة المالكية الفاسية4“ .

ومن أسباب انتشار المذهب المالكي من بلاد المغرب إلى الصحراء وما وراءها كذلك، صمود فقهاء المالكية في وجه المذاهب المخالفة منذ وقت مبكر، وفشل المذهبين الشيعي والخارجي في التغلغل بين شعوب بلاد السودان.

ومن بين الممالك الإفريقية التي انتشر بها المذهب المالكي، مملكة غانا التي كان نفوذها يمتد إلى شمال النيجر الأعلى، وحدودها الشرقية نهر النيجر، والغربية نهر السينغال، والشمالية الصحراء المغربية. ومملكة مالي التي اتسعت حدودها اتساعا كبيرا نحو الشرق، حتى النيجر الأوسط، كما اتسعت نحو الغرب فشملت أراضي السينغال الحالية عدا الأجزاء الممتدة في الصحراء. ومملكة سنغاي التي كانت تقع على نهر النيجر الأوسط، وكانت عاصمتها مدينة غالر، وهي في مالي الحالية. ومملكة كانم التي كانت في أقصى الشرق حول بحيرة تشاد وامتد نفوذها إلى أراضي غانة ومالي في الغرب.

وقد كان انتقال المذهب المالكي إلى المناطق الإفريقية دافعا للعلماء في هذه المناطق للتشبث به وتأليف العديد من المؤلفات من أجل شرحه وتبسيطه ونشره أكثر، لما يتميز به من اعتدال ووسطية. كما كان للممالك والعواصم والمراكز العلمية التي ذاع صيتها في غرب إفريقيا، مثل: تمبكتو وجنى وأغاديس وكنو وكتشنا، الفضل العظيم في نشره، ضمن نشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة، حيث وصلت الثقافة العربية الإسلامية إلى ذروة ازدهارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وذلك في عهد (إمبراطورية سنغي الإسلامية) التي اشتهرت بكثرة علمائها ومؤلفاتهم العلمية التي أسهمت بدور كبير في نشر الثقافة الإسلامية في غرب القارة وخارجها.

وقد حفلت مدينة تمبكتو– العاصمة الثقافية لإمبراطورية سنغي– بالعديد من مشاهير العلماء الذين ألفوا في شتى العلوم الدينية واللغوية والتاريخية، خصوصا منها المتعلقة بالمذهب المالكي. ومن أشهر هؤلاء العلماء؛ الشيخ أحمد بابا التمبكتي، الذي كان عالماً موسوعياً، مؤرخاً، عالماً بالشريعة، ومن المتبحرين في اللغة العربية وآدابها, يذكر مترجموه أنه ألف ما يزيد عن أربعين كتاباً. وقد درس في دولة سونغاي وفي مدينة مراكش، وحضر دروسه مئات من طلاب العلم في مراكش وخارجها. ومن أشهر مؤلفاته: (كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج)، وهو كتاب ذيَّـل به كتاب ابن فرحون المالكي (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب)، وله شرح على (مختصر خليل)، و(كفاية المحتاج)، و(معراج الصعود) وغيرها من الكتب. والشيخ شمس الدين النجيب بن محمد التيجداواي، قال أحمد بابا التمبكتي عنه: «أحد شيوخ العصر، معه فقه وصلاح، شرح مختصر خليل بشرحين: كبير في أربعة أسفار، وصغير في سفرين», وله تعليق على كتاب (المعجزات الكبرى) للإمام السيوطي، و(شرح العشرينيات للفازازي)، وله أيضاً (الطريقة المثلى إلى الوسيلة العظمى). والشيخ أحمد فورتو البرنوي، والشيخ عثمان بن فوديو…

وتمثل الخطاطة التالية بعض المؤلفين الأفارقة الذين كتبوا حول المذهب المالكي من أجل تيسير تناوله من طرف الأفارقة، وهو ما يبرهن على الجهود التي بذلوها من أجل نشر المذهب، باعتباره من الثوابت المشتركة بين المغرب وإفريقيا:

ومن ثمة فإن تبسيط وتفسير وتوضيح المذهب على يد العديد من العلماء ومن بينهم العلماء الأفارقة كان له دور كبير في انتشاره واستمراره في القارة الإفريقية. وهو ما يدل على الجهود الكبرى التي بذلها هؤلاء العلماء من أجل ذلك. مما ساهم في استمراره إلى الوقت الحاضر.

بل إن العديد من المكتبات الإفريقية تتوفر على العديد من المخطوطات المالكية، وفي مقدمتها «كتاب الموطأ» للإمام مالك ابن أنس. الذي ما تزال مكتبة (تومبكتو) تحتفظ بنسخة أصلية منه.

إضافة إلى مخطوطات أخرى مثل مخطوط «إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام أبي عبد الله مالك»، الذي توجد نسخ منه في العديد من المكتبات الوطنية والإفريقية.على أنه قد يتبادر إلى ذهن البعض أن انتقال المذهب المالكي إلى إفريقيا تم بطرق عنيفة، بل إن بعض المؤرخين يتحدثون عن «غزو السودان» من طرف السلطان أحمد المنصور السعدي، وهو ما لا يمكن قبوله علميا، حيث إن الحدث التاريخي لا يمكن فصله عن إطاره المجالي والزمني، ذلك أن «الحملة إلى السودان» كانت في ظروف خاصة ارتبطت بالاكتشافات الجغرافية، حيث إن الإيبيريين عملوا على إنشاء مراكز لهم على السواحل الغربية للمغرب، أثناء توجههم إلى خليج غينيا، حيث أقاموا هناك عدة مراكز، وأخذوا ينتقلون منها نحو الشمال، الشيء الذي أصبح يهدد الامتداد الاقتصادي الحيوي للمغرب، في الوقت الذي لم تعد فيه الأندلس متنفسا عموديا للمغرب من الجهة الشمالية، ولم يعد فيه الامتداد الأفقي مستمرا بسبب الوجود العثماني في الشرق، والذي تربطه بالمغرب روابط الجوار والدين. وبذلك كان الهدف من التوجه إلى السودان هو إيقاف المد الإيبيري بعد الاكتشافات الجغرافية. بل يمكن القول بأن ذلك كان بمثابة حرب استباقية لإيقاف هذا المد، وقد بين ذلك اليفرني في مخطوطه نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، حيث تحدث عن «بعث المنصور جيوشه للسودان» ولم يتكلم عن «غزو السودان».

ومن ثمة فإن انتقال المذهب المالكي إلى إفريقيا وانتشاره بشكل كبير لم يشهد انقطاعا أو توقفا طيلة المراحل التاريخية، لكنه أحيانا وبسبب الفتور في التعامل مع مبادئه المتسمة بالوسطية والاعتدال، كانت تتعرض العديد من المناطق لمشاكل متنوعة. لذلك كان المغرب يسعى دائما إلى تجديد ترسيخ المذهب المالكي وقيمه السامية. وهو ما جعله يستمر حسب الامتداد المجالي والزمني.

  • امتداد انتشار المذهب المالكي إلى الوقت الحاضر:

إن وسطية واعتدال المذهب المالكي جعلت منه صمام أمان بالنسبة للمغرب وسائر الدول الإفريقية من أجل مواجهة مظاهر التطرف والعنف والإرهاب بكل أنواعه، حيث أظهر هذا الامتداد أن المغرب بلد التسامح والتعايش والتساكن، بل مُصَدِّر العديد من القيم التي يتشبث بها. وتمثل الخطاطة المرفقة بعض خصائص المذهب المالكي التي جعلته يستمر زمنيا:

إلى جانب كثرة التصانيف التي تبسط وتفسر وتوضح المذهب المالكي، الشيء الذي كان له دور كبير في انتشاره واستمراره، من بينها «شرح ابن رحال المعداني على مختصر خليل، و»إتحاف ذوي الذكاء والمعرفة بتكميل تقييد أبي الحسن وتحليل تعقيد ابن عرفة، تكميل التقييد وتحليل التعقيد على المدونة»…

إضافة إلى تفعيل واستمرار الروابط الدينية والروحية بين المغرب وإفريقيا في إطار إمارة المومنين، وما الزيارات الملكية السامية إلى العديد من هذه البلدان إلا دليل على متانة الروابط الدينية التي تجمعها بالمغرب. وكذلك تنظيم ندوات مشتركة مغربية إفريقية حول الإمام مالك إمام دار الهجرة، مثل «ندوة الإمام مالك» التي نظمت بمدينة فاس، في أبريل 1980م، والتي دعا إلى عقدها جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه. والتي بين الهدف منها في الرسالة السامية التي بعثها للمؤتمرين.

ضافة إلى تدشين «معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات» يوم 06 جمادى الثانية 1436هـ موافق 27 مارس 2015 م. الذي يضم جنسيات متعددة يشكل الأفارقة منها 68 بالمائة، ويمثل المبيان التالي توزيع جنسيات طلبة هذا المعهد.

وإنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في 14 يونيو 2016، التي تلخص الخطاطة المرفقة أهدافها، وفق ما ورد في الظهير الشريف رقم 1.15.75 المؤرخ في 7 رمضان 1436ه (24 يونيو 2015م) المتعلق بإحداث هذه المؤسسة.

وهكذا فإن إنشاء هذه المؤسسات، ومشاركة العلماء الأفارقة في العديد من المناسبات ومن بينها الدروس الحسنية، سيشكل حافزا لهم للاستمرار في بذل الجهود من أجل نشر المذهب المالكي وتوظيف الرمزية الدينية والروحية بالنسبة لسكان دول منطقة الساحل وإفريقيا الغربية، المتسمة بالاعتدال والوسطية. لقوله تعالى: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ ‏الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً1} ‏. وهو ما سيجعل جهود العلماء الأفارقة وضمنهم المغاربة تصب في اتجاه واحد، بهدف تحقيق الأمن والاستقرار الروحي بكامل التراب الإفريقي، مما يعتبر مصلا واقيا لمواجهة مظاهر التطرف والكراهية والحقد والإرهاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى