هكذا اختطفت طائرة القادة الجزائريين الخمسة
كلنا يذكر اللغط الكبير الذي أثارته مزاعم الصحافي المصري محمد حسنين هيكل التي أطلقها عبر قناة الجزيرة بشأن إمكانية تورط الملك الحسن الثاني والذي كان وليا للعهد آنذاك في مؤامرة اختطاف الطائرة التي كانت تقل قادة الثورة الجزائرية الخمسة في اتجاه تونس يوم 22 أكتوبر 1956 ؛ وكيف تلقفها بعض المرجفين من جوارنا الشرقي بدون ترو ولا تبصر، وراحوا يجترونها في محاولة يائسة لتبرير سياستهم العدائية تجاه المغرب.
لكن تهافت هذا البهتان سرعان ما خر عليه سقف الحقيقة من أناس كانوا في قلب الحدث، وعاشوه بأدق تفاصيله. وحسبنا أن نذكر هنا شهادة الزعيم الجزائري حسين آيت أحمد، أحد القادة الخمسة المختطفين، التي أخرست بوق الدعاية الناصرية؛ وأيضا هذه الشهادة النادرة للمجاهد الدكتور عبد الكريم الخطيب، والتي ارتأينا إعادة نشرها بالنظر لأهميتها البالغة. (مولاي رشيد السليماني)
محمد الخامس حاول ثني القادة الخمسة عن الذهاب إلى تونس
زار المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه إسبانيا في أبريل 1956 للتفاوض مع المسؤولين الإسبان على استقلال الأقاليم الشمالية، والتقى خلال ذلك مع أحمد بن بلة بمدينة اشبيلية.
وقد اتسم هذا اللقاء بالود والتفاهم؛ وكنت حاضرا أيضا مع بعض الإخوان، منهم التونسي د.حافظ إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي. ولمّا عرف أحمد بن بلة، ورفاقه في الكفاح، أن محمداً الخامس قرر السفر إلى تونس، قدموا عبر مدريد إلى تطوان حيث أجروا لقاء مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن بحضور الأخوين اليوسفي وحافظ إبراهيم. بعد ذلك انتقلوا إلى الرباط، فاستقبلهم صاحب الجلالة وتحادث معهم.
وكان رأيه طيب الله ثراه ألا يذهبوا إلى تونس، وسيتكلف هو شخصيا، نيابة عنهم، بالدفاع عن قضيتهم مع الباي وبورقيبة وقادة الحركة السياسية في تونس. لكن الإخوان الجزائريين صمموا على الذهاب إلى تونس لأنهم اعتبروا أن حضورهم هناك بمثابة اعتراف رسمي بهم كممثلين للشعب الجزائري.
وقد كلفني صاحب الجلالة بإقناعهم بالتخلي عن فكرة السفر؛ وقضيت في ذلك ليلة كاملة.
كان صاحب الجلالة يملك حدسا وإلهاما يسبق به الأحداث. وأمام إلحاحهم الشديد في الذهاب، تقرر أن يركبوا طائرة خاصة لا تمر فوق أجواء الجزائر؛ لأن محمداً الخامس طيب الله ثراه قال لهم : » بما أنكم قررتم السفر، فاذهبوا عن طريق أوروبا .
سافر الإخوان الجزائريون على متن طائرة تابعة لشركة AIR ATLAS مع صحافيين وأصدقاء. أما نحن فقد ركبنا مع جلالة الملك محمد الخامس طائرة تقل الوفد المغربي، وكان معنا فيها الدكتور حافظ إبراهيم. ومما أتذكره عن هذا الحدث، أنه كان لي رشاش صغير من نوع BERETA أهدي لي من طرف معمل في إيطاليا اشترينا منه السلاح أيام الكفاح المسلح؛ فقلت لأحمد بن بلة : »خذه معك، من يدري .»!؟
وقبل إقلاعنا قال لي حافظ إبراهيم: » أنظر إليهم، فلن تراهم بعد اليوم ». كان هو الآخر يملك حدسا قويا.
وصلنا إلى تونس، وبعد انتهاء الاستقبال الحار الذي خصص لمحمد الخامس طيب الله ثراه ، لاحظنا أن الطائرة التي تقل الإخوة الجزائريين لم تصل. وبعد انتظار طويل، وصل خبر اختطاف الطائرة وإلقاء القبض على أحمد بن بلة ومحمد خيضر والحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومصطفى لشرف الذي لم يكن من بين قادة الثورة.
رد الفعل المغربي، بمستوييه الرسمي والشعبي، على جريمة الاختطاف
وطلبت منهم أن يكون رد الفعل قويا، فاندلعت أحداث في مناطق كثيرة كمكناس والغرب، قتل فيها بعض المعمرين. وعندما عدنا إلى المغرب، جرى اجتماع في ديوان ولي العهد بوزارة الدفاع حضره السياسيون وبعض الإخوان من المقاومة وجيش التحرير.
المقاومون وأعضاء جيش التحرير تحمسوا لعمل إيجابي ضد الفرنسيين، أما المهدي بن بركة والمحجوب بن الصديق فقد رفضا أي عمل بما في ذلك الإضراب. وقال المهدي : » لا يمكن أن نضر بالاقتصاد الوطني، لا نريد عمل أي شيء في سبيل هؤلاء .
وكان محمد الخامس طيب الله ثراه قد قال لي في تونس، عندما سمع الخبر، بحضور حافظ إبراهيم: » لم يبق إلا الرجوع إلى تطوان، وشن الحرب من هناك على فرنسا ». كان غاضبا لأنه اعتبر اختطاف ضيوفه مساسا بسيادة المغرب. وعلى عكس هذا الموقف كان القادة السياسيون الذين لم يكونوا يتصورون أن الجزائر ستستقل في يوم من الأيام، كانوا ضد أي عمل يمس فرنسا لأنهم كانوا يرغبون في الاحتفاظ بعلاقات طيبة معها.
بالنسبة للأحداث التي وقعت في عدد من المناطق المغربية للانتقام من فرنسا، أحيل المشاركون فيها على محكمة عسكرية، كان إدريس بن عمر رئيسا لها، وعبد المجيد بن جلون وكيلا للملك. وحكم على كثير من المتهمين بالإعدام. ذلك لأن القادة السياسيين كانوا يريدون إرضاء الفرنسيين والمحافظة على العلاقات مع الحكومة الفرنسية.
ولمّا لاحظنا بأن المحكمة بالغت في الأحكام القاسية ضد إخوان لنا نهضوا للدفاع عن كرامة المغرب، ذهبنا نحن جماعة من قادة جيش التحرير إلى المحكمة خفية، ودخلنا قاعة الجلسات؛ فما أن لمحتنا الهيئة القضائية حتى دخلها الرعب والهلع؛ وحاولت الصحافة الفرنسية التي كانت حاضرة التقاط صور لنا. ومنذ ذلك اليوم خفت الأحكام وأصبحت أقل قسوة.
المساعي التي قام بها المغرب لإطلاق سراح القادة الجزائريين.
بعد مؤتمر الدارالبيضاء الذي حضره فرحات عباس كرئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة، بدا في الأفق أن الجزائر ستستقل قريبا؛ فبدأت فرنسا ترخص لنا في الالتقاء بالإخوة الجزائريين المعتقلين. فكنت أزورهم في «تيركان » و »أونوا » باسم صاحب الجلالة الحسن الثاني )كان محمد الخامس قد توفي رحمه الله(. وعندما أضربوا عن الطعام في الستينات، بعث الملك الحسن الثاني وفدا وزاريا إلى الجنرال ديغول، وكان مكونا من المرحوم علال الفاسي والمرحوم اكديرة وعبد ربه)عبد الكريم الخطيب( ومحمد الشرقاوي سفير المغرب آنذاك.
استقبلنا الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك بقصر الإليزي، فطلبنا منه باسم المغرب، وباسم صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني، وتكريما لروح صديقه محمد الخامس طيب الله ثراه ، أن يطلق سراح ضيوف جلالة المغفور له محمد الخامس؛ فقال لنا:>> لا يمكنني إطلاق سراحهم في هاته الظروف، ولكن سأسمح للسفارة المغربية بالسهر عليهم داخل قصر »أونوا » <<؛ وهو القصر الذي كان فيه القادة الجزائريون ضيوفا. وهكذا أوقفوا إضرابهم الطويل عن الطعام، وسهر على علاجهم أطباء مغاربة حتى خرجوا من المستشفى.
بعد ذلك بدأت مفاوضات «إيفيان »، وأطلق سراحهم وعادوا إلى المغرب رفقة رابح بيطاط، أحد قادة الثورة الجزائرية الذي القي عليه القبض بعد اختطاف الطائرة، وألحق برفاقه في السجن.
استقبلهم الشعب المغربي بحفاوة بالغة، ثم ذهبوا لتفقد الجيش الجزائري المرابط على الحدود المغربية الجزائرية؛ ومن هناك ذهبوا إلى مصر ومنها إلى تونس.
المرجع: الدكتور عبد الكريم الخطيب.. مسار حياة؛ إعداد: حميد خباش ونجيب كمالي؛ من ص: 98 إلى ص: 101 ؛ الطبعة الأولى.