لقد كتب الأركون عن الطائفة الإسرائيلية المقيمة بتطوان إذ ذاك صفحات عديدة في أماكن مختلفة من كتابه ذاكراً أنه لاحظ من أول يوم أنهم وحدهم كانوا مبتهجين بالجيوش الإسبانية يوم دخلت المدينة حيث وجدهم عند الأبواب وفي الطرقات وفي الساحات
تأليف: الكاتب الاسباني دي ألاركون
عرض وتقديم وترجمة: الأستاذ رضى الله ابراهيم الأيفي
نأتي على بقية ما قصدن لأجله هذا البحث المستخلص من ذكريات الإسباني ذي الاركون المتطوع بالجيش الإسباني كصحافي يدون الوقائع و الأحداث التي شاهدها خلال الحرب الإسبانية المغربية من أواخر 1859 إلى 1860 م معرضين عما أطال فيه من وصف المعارك و الأهوال التي قاساها الجيش الإسباني في سبيل استيلائه على تطوان مقتصرين فقط على ما أحدثته حالة تطوان المادية والأدبية في نفسه من أحاسيس و مشاعر وما خص به أهلها الأصلاء و سائر المغاربة من تقدير واعتبار. مع العلم بأن يومياته هذه هي التي رفعت مقامه بين الكتاب الرمانسيين الإسبان بفضل براعته في الوصف وأسلوبه الرشيق الرائع، ونحن نقتطف منه فقرات متفرقة نجمعهما في نسق واحد تحت عنوان جانبي حسبما سلكناه في الحلقة السابقة، وهذه بقية منها :
العنصر الإسرائيلي :
لقد كتب الأركون عن الطائفة الإسرائيلية المقيمة بتطوان إذ ذاك صفحات عديدة في أماكن مختلفة من كتابه ذاكرا أنه لاحظ من أول يوم أنهم وحدهم كانوا مبتهجين بالجيوش الإسبانية يوم دخلت المدينة حيث وجدوهم عند الأبواب وفي الطرقات وفي الساحات. يلوحون ويحيون القوات عند المرور وعند الاستعراض هاتفين بالاسبانية مرحبا بكم ! مرحبا بكم ! تحيا ملكة اسبانيا ..تحيا … ! يقولونها بلغة ولهجة ركيكة، قال الأركون : كنت أظن أنها كلمات حفظوها للمناسبة ثم علمت أنها لغتهم المعتادة. من ذلك أن أحدهم هتف بالانجليزية ثم بالفرنسية ظنا أننا انجليز أو فرنسيين .. ولما قيل له إننا اسبان هتف أيضا بالاسبانية. وان نساءهم وأطفالهم يشاركون في هده التظاهرة. النساء يزغردن والأطفال يندسون بين سنابك الخيل وأرجل الجند يرومون مصافحتنا وتقبيل أيدينا. وكانوا في مواقف كثيرة يتباكون ويشتكون من الحالة التي هم عليها مدعين ان أمتعتهم و أموالهم قد سرقت ونهبت مع أنهم – يقول الأركون – هم الذين نهبوا وسرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم بدليل أنني رأيت ذات صباح صفوفا منهم يدخلون إلى الملاح أكياس الدقيق وأحمال الثياب واللباس والمتاع وأشياء لا تحصى أخذوها من دكاكين السوق والقيسارية و من بيوت الغاربة الفارين. كل ذلك جعلنا نشمئز منهم ونقارن موفقهم المهين بموقف المغاربة الأباة ذوي الأنفة والشمم والعزة والكرامة. هذا بعض ما كتبه الأركون عن العنصريين فان كان فيه بعض الغلو فعليه عهدته. وزاد يقول إن نسائهم لفتن أنظارنا يبروزهن وزينتهن، فيهن جميلات رائعات وبنات صغيرات بلغن سن النضج قبل الأوان وهن متبرجات ونصف عاريات لا يحتشمن ولا يتحرجن. شان اليهود و اليهوديات في كل مكان. وإجمالا فقد رأيت العنصر اليهودي كما كنت أتخيله وأقراه عند شكسبير وغيره من الكتاب والشعراء ورغم ذلك فان الكاتب – كالكثير من رفقائه الضباط – نزل صيفا بالملاح قبل ان ينتقل لدار آل اشعاش الكائنة بساحة الفدان حيث آواه التاجر اليهودي أبراهام في بيته عدة ليال خصه أثناءها بحديث صحافي طويل تناول فيه أخبار المغاربة وأحوال المدينة قبل أن يدخلها الاسبان وكذلك الأسباب الداخلية و الخارجية التي أدت إلى اندلاع هذه الحرب. ويبدو واضحا من خلال هذا الحديث ان ابراهام كان يتعمد إثارة الحزازات القديمة و الحديثة التي بين الاسبان و المغاربة قصد ايغار صدر الأركون وتحريشه ضد المغاربة. كقوله في معرض حديثه عن موقف المغاربة من الدول الأوروبية : إن المغاربة يكرهون الاسبان ولا يكرهون الفرنسيين ويحبون الانجليز ويعتمدون عليهم..وكذلك عندما قال : ان السلطان سيدي محمد حرم عليه أبوه المولى عبد الرحمن ركوب الخيل وحلق شعره إلى أن يمحو عنه العار الذي لحقه بانهزامه في اسلي أمام الفرنسيين بقهر الاسبان في هذه الحرب وإخراجهم من أرضه وأكد ابراهام ذلك بأنه رأى بعينيه وهو بمكناس السلطان سيدي مجمد وقد كساه الشعر من أعلى رأسه إلى أسفل صدره وظهره ومنكبيه. فهذا كلام يراد به الدس والكيد وان كان فيه بعض الصدق لذلك لم يلق له الأركون بالا ولا أعاره اهتمام وانه ادخله في حسابه وموازينه عندما تابع تدوين مذكرته وتحديد موقفه من المغاربة وقضيتهم الكبرى كما ينضح فيها سطره من المفاوضات في شان السلام بين الجانبين.
وأياما كان فإن الشاعر يقول : اجن الثمار وخل العود للنار..والمثل المغربي يقول: كل من جنان اليهودي والعن مولاه.. أي كل منه واتركه ..وهذا ما فعله الأركون وأصحابه فقد استخدموا يهود تطوان واستعانوا بهم في جل الشؤون اتخذوا منهم خدما ومرشدين وتراجمه.. كما اعتمدوا عليهم في الاستخبارات وكشف الخبايا وفضح العورات.. فهم الذين ذلوهم على مكامن السلاح ومخابئ الذخيرة والبارود ..كالسرداب الكبير الكائن تحت القصبة الذي كان مملوءا بالبارود ولا يعلم به إلا يهودي ذلهم عليه.. وكان صاحبنا الاركون نفسه اتخذ له خادما يهوديا يسميه خاكوب، كان يلازمه ولا يفارقه إلا يوم السبت، يخدمه في مأواه ويرشده في جولاته وجسوس دوابه.. وظل لاصقا به إلى آخر يوم، مع أنه كان يضنيه ويتعمد اهانته والعبث به..وهو صابر شاكر،وقد سجل في حقه أشياء من هذا القبيل لا فائدة من الإتيان بها إلا أن تكون من قبيل ما يحكيه كتاب ذلك العصر عن الحالة التي كان عليها ذلك العنصر البشري الذي تبدلت حالته الاجتماعية في هذا العصر فصار مضرب الأمثال في النشاط و الدهاء..
الجالية الجزائرية :
ومما تعرض له صاحب المذكرات حالة الجزائريين المقيمين بتطوان الملتجئين اليها – على الرحب والسعة – أواسط القرن الماضي من جراء الاحتلال الفرنسي للجزائر.. فوصفهم بأنهم على حظ وافر من الكياسة والنباهة والمهارة في بعض الصناعات والفنون كصناعة السلاح والمدفعية والسيوف وفنون الطرز والخياطة والطبخ أثاث النازل وكالأعمال التجارية وإقامة المبنيان والعمران وتأسيس المؤسسات الاجتماعية على الطريقة الحديثة.. ذاكرا أنه زار متاجرهم فوجدها عامرة بمختلف البضائع النفيسة الغالية الثمن بتسعيرة محدودة لا تقبل المساومة، بخلاف اليهود الذين يغلون ويغشون في المساومة.. ملاحظا أن دكاكين الجزائريين تقع داخل بيوتهم(دون ان يبين هل ذلك بصفة دائمة أو لظروف الحرب فحسب) لذلك لم تمتد إليها يد النهب كما امتدت إلى غيرها.. وذكر أن من جملة مؤسسات الجزائريين بالمدينة ذلك الفندق المعروف بساحة الوسعة وأنهم أحدثوا المقهى العربي الكائن بجانب الفندق المعدود أول مقهى بلدي يقصده خاصة القوم لتناول كؤوس الشاي والقهوة على الطريقة التقليدية ولتبادل الأحاديث حول ما استجد من الأحداث.. وقال الأركون انه نفسه كان يتردد مع أصحابه على هذا المقهى الفريد من نوعه ليتذوق طعم القهوة العربية التي أطنب في وصفها منوها بطريقة إعدادها بواسطة غلايات على النار مشيرا إلى أن من خواصها أنها تحدث فتورا واسترخاء لدى الشاربين عكس القهوة الأوربية التي تثير الأعصاب وتطرد النوم من الجفون وهنا أثار الأركون ملاحظة هامة في حق أولئك الجزائريين الطارئين على تطوان وهي أنهم يتهمون بموقفهم السلبي إزاء إخوانهم التطوانيين حيث لم يشاركوهم في تحمل أعباء التضحية والدفاع عن المدينة.. زاعما – أي الأركون – أنهم وقفوا من أهل تطوان موقف الشماتة.. ردا وجزاءا وفقا لشماتة التطوانيين بهم لما انهزم الجزائريون أمام الغزو الفرنسي.. والعهدة على الراوي في هذا الزعم وهذه التهمة.. لأن هذه الدعوى يعوزها الدليل – ولا دليل – وأيضا فإن أولئك الجزائريين المهاجرين في تلك الظروف القاسية مازالوا حديثي العهد بديارهم الجديدة.. لم تكتمل بعد ظروف الاستقرار والاستيطان بالقدر الذي يسمح لهم بتحمل الأعباء المخزنية على العموم والمشاركة في الحركات الجهادية بصفة خاصة.. فالذي نعلمه حق العلم أن سلطان البلاد طالما أوصى عامله على تطوان بإغفاء المهاجرين الجزائريين من التكاليف المخزنية زمن سائر الأعباء والخدمات.. نظرا لضعفهم ولما نجشموه من المشاق وتعرضوا له من الأخطار.. إذ كيف يعقل أن يتقاعسوا عن مناصرة إخوانهم ويقفوا منهم موقف الشماتة وهم أنفسهم مازالت جراحهم ندمى وقلوبهم تقطع أسفا وحسرة على ما حل ببلادهم وبأهليهم وذويهم وكيف هان عليهم أن يتحملوا أقسى التضحيات وهم يغادرون بلدهم الأول في سبيل عقيدتهم وكرامتهم.. ولا يهون عليهم أن يتحملوا تضحيات أخرى في بلدهم الثاني دفاعا عن نفس الغايات التي هاجروا من أجلها.. هذا وأننا لا نزعم أن أولئك الجزائريين كانوا كلهم على قلب واحد وأنه ليس فبهم من تصدر منه كلمات طائشة أو أعمال مريبة في تلك الأيام الحرجة فيتناولها المغرضون وتتداولها الألسن إلى أن تصل إلى مسامع أمثال صاحبنا الأركون فينقلونها على أنها حقيقة وتعم سائر الجزائريين ..
مأدبة في بيت جزائري :
وفي هذا الصدد قدم لنا الأركون نموذجا لما كانت عليه العائلات الجزائرية المقيمة بتطوان.. فقد ذكر أنه واتته فرصة طالما تمنى أن تتاح له لزيارة عائلة تطوانية تدعوه إلى تناول الطعام مع أفرادها بالطريقة المغربية الصميمة ليرى الطبع المغربي على حقيقته وطريقة العيش في البيوت المغربية. فتحقق له ما أراد يوم 16 فبراير 1860 حين كتب مايلي :
هذا اليوم لن أنساه، كيف أنساه وقد عشت فيه يوما مغربيا صميما قضيته مع المغاربة أكلت على مائدتهم وتحدث معهم أخويا..أنني محظوظ، لقد دعاني عبد القادر الجزائري.. حفيد الأمير عبد القادر الجزائري إلى الغذاء في بيته واستدعى ستة أنفار أحد أصدقائه المغاربة وشخصية فرنسية وأربعة إسبان – وكان الموعد بعد صلاة الظهر في ساحة الفدان، وكانت المناسبة أن مضيفنا أقام مأدبة إكرام للشخصية الفرنسية المشار إليها وهو كوندي حفيد الملك الفرنسي لويس فيليب الأول المعاصر للأمير عبد القادر الجزائري جد المضيف وكانت بين الجدين مودة اقتضت الاحتفال بها.. اجتمعنا في الساحة وسار بنا المضيف إلى بيته.. دخلنا ووجدنا أنفسنا في صحن كبير فاخر يزينه الهدوء وخرير المياه..وصعدنا الدرج إلى الصالة التي أعدت فيها المأدبة.. وقبل الدخول تحررنا من أسلحتنا واعتذرنا لرب البيت عن عدم نزع أحذيتنا كما فعل فهو ابتسم راضيا ومرحبا.. كان المكان مؤثثا بزرابي فاخرة وفي الوسط مائدة مستديرة حولها عدد من المتكآت والوسائد المزركشة بالثوب الدمشقي.. وفي الغرفة حنيتان منقوشتان وسقف منقوش.. وكانت المائدة المهيأة مغطاة بمنديل وفوقها ثلاث جبانيات من الزجاج. اثنتان مملؤتان بالكسكس من نوعين مختلفين والثالثة عامرة بفاكهة التين الشوكي وكذلك إناء مملوء بالماء، وكانت الملاعق ذات قيمة عالية قال عنها المضيف إنها من استنبول.. وهذا كل ما أعده حفيد أمير لحفيد ملك.. تناولنا الكسكس فوجدناه غداء لذيذا. فالنوع الأول دسم مكون من الطحين و السكر و السمن وعناصر أخرى جعلته لذيذا عطر المذاق، والثاني أشد حلاوة وأكثر عطرا وكذلك التين الشوكي لذيذ جدا.. هكذا أطنبنا في الثناء على المضيف وفي مدح طعامه وشكره على إكرامه.. وعندما أخرجنا سجايرنا تقدم إلينا عند أسود بفتيلة وغليون(نارجلية) وسألنا المضيف هل نرغب فيها فقلنا إننا نفضل سجايرنا وقال صديقه المغربي عرفنا ذلك، ولذلك لم نأمر بإعدادها.. ثم استأذنا وانصرفنا شاكرين.. هذا وقد أطنب الكاتب في وصف المضيف وصديقه بأنهما في عنفوان الشباب تلوح عليهما دلائل النعمة و المعرفة ويتحدثان بالفرنسية و الإيطالية.. وأضاف الأركون أن استغرابي كان كثيرا حيث لم يتقدم لنا المضيف القهوة.. لذلك اتجهنا إلى ساحة الوسعة لشري الشاي.
وغنى عن البيان أن الأركون لاحظ أن المأدبة لا تتناسب مع قدر المضيق حفيد الأمير.. ولا مع قدر المقامة على شرفه الأمير حفيد الملك..ونستنتج نحن من ذلك ان ظروف المعيشة لم تكن على ما يرام عند الجالية الجزائرية باعتبار أن رب البيت المضيف يأتي في مقدمتهم وأحرى من دونهم..
الجنس الناعم :
وفيما يخص العنصر النسوي فإن الأركون كان يتضايق من خلو الأماكن العامة والأوساط التي يغشاها من ظهور المرأة المغربية المسلمة. إذا كان يتشوق أن يراها ويكشف عن محاسنها ويتحدث إليها ولو بالإشارة من بعيد، فكان يتلصص ويستفرق السمع والبصر عسى أن يرى مغربية نشبع فضوله وتشفي ما في نفسه من تطلعات.. مثل ما رأيناه يفعله حين زار قصر الرزيني وتسلل إلى خدر إحدى جواريه وكان يقتحم جناحا خاصا بالحريم لولا يقظة الحراس وخوفه أن يضبط وهو في حال تلبس فالقضية عنده هي أنه كلما وجد مكانا ناعما تمنى جنسا ناعما وكلما صنع إطارا جميلا من بليغ بيانه تمنى أن يجد صورة جميلة يضعها داخل إطاره ..لقد وجدناه صبيحة يوم مشمس باسم وهو يتنزه في حديقة القصر الحكومي الكائن بساحة الفدان وحوله أفانين الرياحين والأزهار من كل نوع ولون.. فطبق عليها قطفا وشما وضما إلى أن تجتمعت في كفه باقة عبقة فواحة.. فالتفت يمينا وشمالا،، ثم أرسل آهة وقال : ما قيمة هذه الأزهار إن لم أجد فتاة جميلة أقدمها إليها.. وفي الحين رام أن يقدمها لشخص عابر إلا أن أحدهم نبهه إلى أن المغاربة يكتفون بشم الأزهار وهي في أكمامها ولا يبتذلونها بالقطف واللمس والضم.. فقال في نفسه : هل هذا شأنهم مع المرأة.. يكتفون برؤيتها من البعيد ولا يمسونها بسوء.. وجاء من قال له : إن المغاربة يعيشون في جنات الأسرار.. فأجمل بيوتهم يخبأ وراء الأسوار، وأجمل بناتهم دونها أستار وأستار.. وأعمق أفكارهم وأسرارهم تبقى في قلوبهم موطن الأسرار..
وذات يوم يعثر صاحبنا الأركون على ثلاث نساء مسلمات وهن يمشين في الشارع العام.. كتب عنهن يقول : ها أنا استطعت أن أشاهد ثلاث نسوة أو على الأصح ثلاثة أشباح يغطين وجوههن بطرحة (خمار)ملفوفات في ملاءات بيضاء(حياك) واحدة وجدتها واقفة تحت قوس من ثلاثة رجال وفهمت أنها ستغادر تطوان.. وهي طويلة في مظهر أنيق وقد سمح أزارها برؤية قدمين رقيقتين شديدتي البياض في حداء من القطيفة القرمزية وتحت البرقع تبدو عينان سوداوان والتقت نظرتي بنظرها وأنا أمر إزاءها تحت القوس.. وأما الأخريان فقد لمحتهما من بعيد وهما يجريان وقيل لي أنهما ذاهبتان إلى منزل به حمام خاص.. ولم أستطع اللحاق بهما وإنما سمعت صفق الباب يسد في وجهي والضحكات تتعالى من ورائه فرحا بزوال الخطر الذي كان يتعقبها.. وقد عقب الأركون على هذه القصة بأنها من أحلام شاعر..
ولكن إذا كانت هذه القصة مجرد أحلام شاعر فإنه قص علينا مغامرة أخرى حقيقة كان مسرحها في دار الفقيه الشريبي الذي أثنى عليه الأركون ثناء جما ووصفه بأنه أديب مطلع كريم ولطيف المعشر.
أخلى بيته لجماعة من الضباط عن طواعية يقيمون فيه ويسهرون ويمرحون مع أصدقائهم ومن جملتهم أديبنا الأركون الذي يأتي من حين لآخر ويتبادل أطراف الحديث مع صاحب الدار الشريبي حول مسائل علمية وأدبية رغم أن كلا منهما لا يعرف لغة الآخر باستثناء كلمات إسبانية ينطق بها الشريبي المولع بالمطالعة و القراءة في غرفة بالدار جمع فيها كتبه وأدواته وترك الباقي للآخرين..
وهناك كان يخلو الجو لصاحبنا ويرسل نفسه على سجيتها ويترك حبل هواه على الغارب.. فكان حسب ما يحكى يطلع لسطح الدار ويستدرج فتاة مغربية من بنات الجيران.. يوما عن يوم،، إلى أن صارت تبادله الإشارات من بعيد وصار وهو يأتيها بقطع الحلوى.. يلقيها إليها ملفوفة مطوية، فكانت تلتقطها كما تلتقط العصفورة ما يرمى إليها من الحب.. ولما رأى الكاتب أن الفتاة أخدت تأنس به انقلب عليها في نفسه باللوم والتقريع وكتب أنها خيبت ظنه وطمست الصورة المشرقة التي كان يضمرها عن المرأة المغربية إذ كانت في مخيلته أبعد من نجم السبوق وأعز من بيض الأنوق..
إنشاء مطبعة وصحيفة :
وفي يوم فاتح مارس 1860 كتب الأركون ما يلي : إن هذا اليوم مشهود بالنسبة للإمبراطورية المغربية.. اليوم بدأت في هذه البلاد أول مطبعة بالحروف .. اليوم صدر العدد الأول من جريدة “صدى تطوان – ايكودى تطوان” طبعا بالإسبانية.. لد نالت إسبانيا شرف كونها أول من أدخل إلى المغرب أكبر اختراعات الحضارة.. وأضاف : أني لم أكن أصدق غير هذا عندما أسست هذه الجريدة، أريد فقط أن تذكر هذه البلاد عندما تستيقظ من سباتها – و ستستيقظ ولا شك قبل مائة سنة – ان امة متحضرة
مرت سنة 1860 .. وإنها فقط لم تمد الخيوط الكهربائية والسكك الحديدية على سهل واد الحلو – مرتيل – وخرقت بالبواخر مياه هذا الوادي، بل طبعت أيضا جريدة داخل اسوار تطوان..
ثم ساق الأركون في يومياته نص الكلمة التي افتتح بها العدد الأول(والوحيد) الذي صدر من تلك الجريدة… المتضمنة لنفس الفكرة.، وعها مقال أخر بتعداد المنجزات المدنية التي حققوها بتطوان التي منها إزالة الأنقاض والنفايات ووضع خريطة للمدينة وما حولها وشق الطرق وتعبيدها وإضاءة بعض الشوارع وفتح مستشفى وتأسيس مخبزة آلية وإقامة التليغراف وإنشاء مطبعة وإصدار جريدة وكذلك من الخطوط الكهربائية والسكة الحديدية، ومعدات وتنظيمات أخرى..
مشروع تاريخ تطوان :
ثم يحكي الكاتب عن صديقه الجنرال روس بأنه يقضي أوقات فراغه في تأليف كتاب عنوانه “حكايات عن إفريقيا” وأنه كثير من عبقرية الجنرال سيكون جوهرة ثمينة عن تاريخ تطوان، وان من الصفحات التي كتبها فصلا بعنوان “الواد الحلو” أي واد مرتيل يحتوي على قصة يرويها عن شخص مغربي يدعى عبد القادر يقص عليه أخبار تأسيس تطوان وحال سكانها الأقدمين وعادتهم.. وأن الجنرال عاش سنوات طويلة في المغرب وليس هناك من يحسن التحدث من عادات المسلمين مثله سواء بواديهم وحواضرهم.. وإنه في فصل أخر يخاطب الحرب القاسية قائلا : ايه أيتها الحرب .. ! انك أمي الثانية أنا أساعدك وإن كنت قاسية مع الرجال ومع الطبيعة ومع الفن المعماري ومع الأسوار والغابات والأشجار، عطاءات السماء ولوحات الفصول ونافورات الأطلس.
وفجأة انتقل صاحب اليوميات إلى التحدث عن السلام كاتبا: وفي هذه الأثناء وأنا غارق في أفكاري إذا بالهجرة عمت.. فقد وصل اليوم 11 فبراير 1860 مبعوثو مولاي العباس يطلبون السلام وبالتالي يعترفون بانتصاراتنا .. يا لها من سعادة.. لقد تحقق الهدف وانتهت الحرب.. لا نريد أكثر من هذا.. وأرجو أن لا يكون هذا الانتصار سببا في التفكير في غزو سائر المغرب أفكر في هذا وأنا في طريقي إلى المعسكر العام لأشاهد المبعوثين المغاربة.. وصلت وشاهدتهم وهم أربعة.. وكلهم قواد الجيش المغربي، لباسهم نبيل. قفاطين دكناء وبلاغي صفراء وعمائم وسلاهم بيضاء( ووصف الأسلحة والسروج) ومعهم أربعة حراس يختلفون عنهم في اللباس حيث يلبسون شواشي حمراء. والمبعوثون طوال أشداء لا يبلغون من الأربعين. أحدهم أسود والباقون ولدوا بالريف قرب مليلية حسب تصريحاتهم. وهم القائد الشركي حاكم فاس والقائد مهاشرد حاكم الريف والقائد البطين حاكم طنجة والقائد ابن عبابوا تولى رياسة القبائل وهو أخ لهذا جاء ليقوم بالترجمة لكونه يحسن الإسبانية.. والحراس كذلك ريفيون يفهمون الإسبانية وكنهم لا يتكلمون.. وفهمنا أنهم جاءوا ليعبروا عن استعداد المغاربة لإنهاء الحرب وقبول السلام ويسألون عن الشروط التي يمليها الإسبان فكان جواب القائد العلم أودونيل أن حكومة مدريد هي التي تحدد الشروط وأنه سيبلغها ما تطلبون وأبلغكم جوابها يوم الخميس المقبل إذا حضرتم فتواعدا الطرفان على الحضور في اليوم الموعود. .
ثم كتب أن القائد العام أودونيل تلقى يوم 15 فبراير 1860 من حكومة مدريد شروط السلم التي يطلبها المغاربة وأنهم حضروا يوم 16 منه حسب الموعد، وهم أنفسهم الذين جاءوا يوم 11 المذكورون آنفا بزيادة خادم أسود يركب فرسا ويحمل قفاف التمر يقدمونها لمفاوضيهم الإسبان كعربون المودة والسلام.. فأبلغهم أودونيل الشروط الواردة التي تقضي من جملة ما تقضي بضم تطوان وإقليمها إلى الدولة الإسبانية.. وسجلت المذكرات أن الصمت كان يخيم على المكان حين كان أودونيل يقرأ الشروط وأن المغاربة سمعوها بكل هدوء دون أن يبدو عليهم أي انفعال.. ولكن الضباط الإسبان صاحوا بلسان واحد لما سمعوها “يا لها من حماقة” ثم هزوا الأكتاف استخفافا بها. أي أنها أوامر لابد أن تنفذ.. وزاد الأركون يعلق على هذا المشهد : إني لست عسكريا بكل معنى الكلمة وعلى الأصح لست متعودا أن أسكت وأنا أرى أن وطني يندفع إلى الهاوية من أجل المطالبة بأشياء بعيدة المنال.. فالمطالبة بتطوان معناه استمرار الحرب و العداوة مع المغرب.. فإذا امتنع المغاربة من قبول الشروط فإن الحرب ستكلفنا مائة مليون – وأربعة ألاف جندي شهريا. وحتى إذا وافق الإمبراطور المغري على هذه الشروط فالحرب مستمرة لأنها ستكون غير واضحة لا بمعنى أننا في المسلم رسميا وتحيط القبائل بتطوان ومنطقتها وتكبدنا نفس التضحيات والمصاريف إلى مالا نهاية.. ثم ما الفائدة من هذه المستعمرة.. أهي التجارة. فما هي التجارة التي بيننا وبين سبة ومليلية فمع المغاربة لا يتجر عن طريف البحر.. وهل هي مستعمرة فلاحية. إن إسبانيا أشد حاجة إلى من يحرث أراضيها التي تركها زراعنا وذهبوا إلى أمريكا وأوربا..
ثم ذكر الأركون أن المبعوثين المغاربة بعد أن تلقوا الشروط قدموا صناديق التمر إلى أودونيل وقالوا إنها من ضيعات الامبراطور قدمها إليه مولاي العباس كبرهان على التقدير.. ونحن قدمنا لهم القهوة و الحلوى والسجائر وعرضنا عليهم أن نقدم إليهم بعض المواد الغذائية التي ربما يكونون في الحاجة إليها بمعسكرهم كالسكر و القهوة فقبلوا شاكرين وقالوا إنهم المرة الثانية يأتون ببغلة تحمل تلك المواد.. ثم طلبوا من أود ونيل أن يأذن لهم بقضاء الليلة في تطوان لأنهم متعبون.. فوافق بغبطة ووضعهم في ضيافة حاكم المدينة الجنرال ريوس..
وأثر ذلك اتجهوا إلى تطوان في موكب محروس مع مضيفهم الجنرال الحاكم.. وقال الأركون أنني التصقت بالجنرال ريوس ولازمته إلى أن تنتهي زيارة المبعوثين لأتمكن من التحدث إليهم ومخاطبتهم ب “أصدقائي” وهي فرصة ثمينة من الله بها على..
دخلوا المدينة في موكب فخم من باب العقلة وكانت هذه هي المرة الوحيدة – يقول الأركون – التي سمح فيها التطوانيون لأنفسهم بالنظر إلى موكب من موكبنا.. وقد جال بهم الجنرال شوارع المدينة وأوقفهم على المرافق والإصلاحات المحدثة في المدينة ومن ذلك أنه أوقفهم على آلة التليغراف التي تصلنا بمراكزنا وبالخارج فلم يعيروا لها اهتماما واكتفوا بهز الرؤوس وهو يشرح لهم فوائدها، وأنح عليهم أن يبعثوا ببرقية إلى ديوانه مرتيل.. وبعد لأي طلب احدهم الديوانة أن تخبره هل هناك مركب خارج إلى جبل طارق.. فوجم الجنرال ومن حوله لهذا الطلب الغريب.. وتأولون في أنفسهم بأنه بمعنى تذكيرهم بالاهانة التي لحقتهم من وجود قطعة من أرضهم في أيد أجنبية.. كما أوقفهم الجنرال إلى معامل الخبز الحديثة فأعجبوا بها وأكلوا من خبزها المهيأ لهم في التو والساعة، ووعدهم الجنرال بأنه سيبعث معهم أكياسا من هذا الخبز الطري.. ثم ذهبوا ليستريحوا في مقر نزولهم بدار الرزيني الموصوفة سابقا.. وبعد ذلك استأذنوا في الذهاب إلى الصلاة في الجامع الكبير دون حراسة تلبية لرغبتهم على أن يحضروا الحفلة التي يقدمها الجنرال إكراما لهم في محل سكناه بدار الرزيني أخي الأول..
يقول الأركون : ذهبت إلى هذه الدار لأحضر استقبال ضيوف الجنرال بها.. وكان الإسبان المدعوون ستة أو ثمانية .. وكان بيت الرزيني هذا فاخرا كبيت أخيه الكبير.. وأطنب الأركون كعادته في وصف هذا القصر.. شأنه عندما يجد شيئا رائعا يصفه.. إلى أن قال : في الساعة الثامنة و النصف مساء صدحت الموسيقى معلنة وصول المفاوضين ووصل معهم حاكم تطوان المغربي أحمد أبعير وكذلك صاحب الدار الحاج أحمد الرزيني.. وفي البداية ثار نقاش حول كيفية الجلوس على الكراسي المجلوبة من المعسكر أو من التكآت ( المضارب) الفاخر.. في الأخير جلس كل واحد على الكيفية التي تريحه.. وكان الجو باردا وأعدت المجامر للتدفئة.. وعلى الموائد صفت أصناف الحلويات والفواكه والسجائر والمشروبات وأواني الشاي والقهوة وحتى زجاجات الماء.. وفي الأثناء كانت الموسيقى العسكرية تعزف في الصحن خوطا الأراكونية.. ولوحظ أن المغاربة كانوا في غاية الانشراح يتناولون كل ماقدم إليهم باستثناء القائد الشركي الذي لم يدق شيئا. وجرى حديث طويل حول المفاوضات والشروط التي تريد اسبانيا فرضها … فكان جل الحاضرين من اسبان ومغاربة يرفضونها تصريحا أو تلويحا. وبعد أن دامت السهرة إلى الحادية عشرة ليلا انصرف الجميع وقد تعارفوا وارتفعت الكلفة بينهم على عادة المغاربة والاسبان إذا اجتمعوا في مختلف المناسبات والمستويات..
تعديل في الشروط :
وكان من جراء الاتصالات وتفاقم الأوضاع العسكرية أن وقع تعديل في شروط السلام على ماهو مذكور في الاتفاقات. فكتب الأركون يوم 17 مارس 1860 مايلي : إن حكومة مدريد تريد أن تكون تطوان ضمانة من أجل استيفاء مئات الملايين من الخسائر الحربية من حكومة المغرب فأنا أرى شخصيا أن التعويض عادل.. ولكن أرى أن الضمانة غير حكيمة لأن المبلغ أربعمائة مليون ريال بليون عن التعويض يضاف إليه بقاء تطوان في يدنا إلى أن ينتهوا من الداء يترتب عنه أمر غير أخلاقي ولا اقتصادي. فذلك يكلفنا ضعف المبلغ المذكور، إذ البقاء في تطوان يكلفنا الكثير من المال دون أن نجني منه فائدة تذكر..
الأركون يودع تطوان :
وفي يوم 21 مارس 1860 بعد أن سجل الأركون أن مولاي العباس لم يرضخ لتسليم تطوان ولا لتكون ضمانة للتعويض الحربي. ذكر أن حركة غير عادية تجري في تطوان .. فالاستعدادات لاستئناف القتال على قدم وساق. شراء المأكولات والخيول والبغال والحمير سواء من المغاربة أو اليهود.. الكل يتحرك ويتهيأ للقتال ومغادرة تطوان. وأنا بدوري أودع تطوان وأغادرها من الأعماق.. ولن أرجع إليها أبدا (تعبيرا منه عن موقفه العارض لما تريده حكومة مدريد) .
ثم كتب في 22 منه : وبعد ساعتين أكون قد غادرت تطوان إلى مدريد.. لقد طلبت رخصة من الجنرال القائد العام فوافق.. وان السبب الذي جعلني انصرف هكذا هو نفسه السبب الذي جاء بي إلى هنا عن طواعية وتلقائية.. السبب هو حبي لوطني فانا أعتقد اليوم أو منذ شهر ونصف (مدة وجوده بتطوان) ان مهمتنا في المغرب انتهت وان استمرار الحرب ليس له من معنى وأنها كارثة على وطني.. وأن الشعب في إسبانيا مضلل(مشيرا إلى ما يصدر هنا من الصحافة ومن دوائر الحكومة من أضاليل وأباطيل فنذر نفسه وقلمه أن يتصدى لها في عين المكان) وأشار إلى أن فكرته هذه يوافقه عليها بعض مراسلي الصحف الاسبانية..بل هناك جدل على أن أود ونيل نفسه لم يكن راضيا في اعما لي موقف مدريد.. بدليل أن الأركون نفسه سجل في مذكراته أنه حين تظاهر بالاستغراب ولما شرحوا له الأسباب سكت كمن يوافق.. وزاد الأركون يقول : وأنا لا أشك أن أودونيل يصفق في أعماقه لقرارنا وأن كان لا يعارضه علانية لاعتبارات خاصة و بديهية..
وفعلا غادر الأركون تطوان وعاد إلى مدريد في جو مكفهر مشيع بالتوقعات و التكهنات.. وهناك تابع الأركون كتابة يومياته متتبعا للأحداث يوما بيوم .. يدونها وينشرها حسب ما يراه صالحا لكلا الجانبين ..إلى أن عرفت القضية نهايتها المعلومة وخرجت الجيوش الاسبانية من تطوان ونواحيها قبل أن يؤدي المغرب التعويضات.
وأخيرا.. تحية خالصة لذلك الكاتب الحر الألمعي الذي اخلص لتطوان ولقضيتها بقدر ما هو مخلص لمصلحة بلاده التي قدرته وكافأته ورفعت من مقامه إلى أن صار عضوا في البرلمان(الكورطيس) وكتب اسمه في سجل الأدباء
المصدر: مجلة دعوة الحق، العدد 207، غشت 1980